الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

كُلنا في الهمِّ فلسطينُ...


منذ فترة قصيرة نُشرت لي مقالة عن فلسطين... مقالة دعوتُ فيها إلى عدم نسيان فلسطين، بالرغم من كل الجراح التي تصرخ منها ليبيا، دعوت إلى أن نسمع صوت فلسطين، وبالرغم من كل الحُفر التي وقت فيها بلادنا فلم تعد حتى ترى السماء، دعوت إلى أن نتطلع إلى فلسطين، وبالرغم من أن أيدينا مقيدةٌ بهموم الداخل، فقد دعوت إلى أن نمدها إلى الخارج – إلى فلسطين.

لن أقول بأن ردة الفعل على تلك المقالة فاجأتني... وهي على أي حال ليست ردة فعلٍ عالمية، حفنةٌ من التعليقات، وآراء قلة من الأشخاص الذين أعرفهم. ولكنها كانت كلها آراءٌ متفقة: (دعنا نهتم بمشاكلنا في ليبيا أولاً...) ولتبقى فلسطين إذاً يتيمةً أبد الدهر... ولكن، بالطبع، التعبير عن هذه الآراء كان يختلف ما بين الأشخاص الذين صارحوني وجهاً لوجه بنوعٍ من المراعاة لوجهة نظري، وبين الأشخاص الذين يفصلني عنهم الإنترنت كله ولا يحتاجون للمجاملة – لقد كانت التعليقات المنشورة أكثر صراحةً وأكثر تعبيراً عن مشاعر بعض الليبيين. فترددت عبارة (إذا كنتَ مواطناً ليبياً...) وأحدهم حرص على تأكيد العبارة بالقول (إذا كنت مواطناً ليبياً أصلياً...)!!! وغيرهم يقول: (اذهب أنت وحرر فلسطين...) واثنان أو ثلاثة يبررون موقفهم من تجاهل القضية بشتم وسب الفلسطينيين... وهذا الرأي الغالب... وصوتان أو ثلاثة يتحدثون بهدوء عن مشاكل ليبيا دون ذكر فلسطين أو جنسيتي... وصوتان يهمسان معي بقضية فلسطين...

فلماذا أكتب عن فلسطين؟ بل لماذا أُفكر فيها؟ أو أضايق الآخرين بالحديث عنها؟!

لستُ فلسطينياً، ولستُ ممن يُسمون (العائدين) من الليبيين الذين عاشوا هناك دهراً من الزمن ثم عادوا إلى ليبيا، ولا أبي أو أمي فلسطينيين فلا تربطني بفلسطين رابطة دم، وليست لديَّ زوجةٌ أو صديقةٌ فلسطينية لتكون رابطتي بفلسطين رومانسية، وليس لديَّ أصدقاءٌ فلسطينيون، معارفٌ ربما، ولكن أصدقاء يقتضون الولاء للقضية بسببهم، فهؤلاء ليس لدي منهم أي صديق.

ولكنني لن أقول، كما قد يتوقع البعض، بأنني مسلمٌ ولذلك تنزف روحي على فلسطين؛ فالإسلام عندنا أصبح تاريخاً وحسب، قصةً قديمة محفوظةً في المصاحف والكتب، وأسماءً نُصلي عليها، أو ندعو لها بالرضى أو الرحمة من الله... الله الذي يكاد عز وجل أن يصبح أسطورةً في عقلياتنا... لا داعي لتكلف التقوى والصلاح، فالصراحة أجدر بأن تكسبنا الحسنات من المجاملات التي نحاول أن نستر بها سيئاتنا فنكتسب فوق السيئات المزيد من السيئات، وكما قال أحد المفكرين، فإن كلمة باطلٍ يراد بها حق أفضل من كلمة حق يراد بها باطل... الدين اليوم يكاد يصبح خرافةً عندنا... إنه يقترب شيئاً فشيئاً من عتبة الأساطير الشعبية والتقاليد الوثينة، لقد أصبحنا نستحي من الدين في حياتنا، نخجل من الاعتراف بالإيمان، ونتردد في الإقرار بالغيب. فكيف نسمح لأنفسنا بأن نتحدث عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟! عمر بن الخطاب؟ علي بن أبي طالب؟ عمر بن عبدالعزيز؟ كيف نستطيع أن نتحدث عنهم ونتفخر بهم ونحن لا ندين بدينهم؟!!! والأكثر سخريةً، أن نتحدث عن خالد بن الوليد، أو صلاح الدين، أو الظاهر بيبرس، أو محمد الفاتح... هذه قمة المهزلة بحق...

فلن أكذب وأقول بأنني أتألم على فلسطين لأنني مسلم، فأنا لست استثناءً من أفواج المسلمين الذين يدينون بدين آبائهم وأجدادهم.

ولن أقول أيضاً بأنني عربي. وليس ذلك لأنني لم أصدق يوماً خدعة القومية التي حاول بعض طغاة العصر إخضاع شعوبهم بتسويقها، أو حاولوا التخفيف من درجة تركيز الإسلام في العقلية العربية بخلطها بمفاهيم القومية العربية الأقل عالميةً وأكثر عنصريةً من رسالة الإسلام. هذه ليست الأسباب، ليس هذا الإنكار ردة فعلٍ على الطغيان والاستبداد، وإنما هو ردةٌ فعلٍ على تاريخٍ طويلٍ مختلق، تاريخ عريقٍ من الكذب والهرب، تاريخ يختصره قول الشاعر: (حضارة لقيطة / حقارة أصيلة.) فرسان العرب أثبتوا أنهم لا يجيدون شيئاً سوى التسابق باتجاه الحانات ونظم القصائد في الغزل والخمر.. تاريخنا كله متخمٌ بعزيمة اليوم خمرٌ وغداً أمر، بكل ما يتبع هذه العزيمة الفاشلة من خذلان وخيانة وانتحار.

فكيف أستطيع أن أدعي الاهتمام بأي قضية بدعوى أنني (عربي)؟!!! إذا كان المقصود نكتةً يضحك عليها المخمورون بالقومية حتى الإعياء... حينها ربما أقول ذلك.

وأما جنسيتي الليبية، فلا يمكنني أن أضيف شيئاً على ما قلته عن الأساس الإسلامي أو العربي لتذكر فلسطين. ربما قد يُفكر البعض في مكانة ليبيا كإحدى دول الربيع العربي. كلامٌ قد يبدو منطقياً؛ فكثيرون حاولوا الاستغراق في حلم أن الربيع العربي هو المقدمة للربيع الفلسطيني: ثورات الشعوب العربية ستخلع الباب خلعاً لتدخل منه ثورة الشعب الفلسطيني. وجهة نظر... لا تعليق لديَّ عليها؛ فهي أملٌ من تلك الآمال التي أصبحت من هوايتنا نحن العرب جمعها كما يجمع البعض طوابع البريد. ولكنني سأقول بأن الشعوب في دول الربيع العربي قد اختبروا – ربما لأول مرة – الحرية المطلقة. وحين تسقط الحرية في يدينا، دون أية ضوابط، فإنها تصبح سلاحاً رهيباً جداً. تصبح الحرية مفتاحاً لكل الأبواب، نعم ستفتح أبواب الكرامة والديمقراطية والمطالبة بالحقوق المشروعة والحياة، ولكنها ستفتح معها أيضاً أبواب الأنانية والاعتداء والاستبداد والظلم - إنها حريةٌ (مُطلقة)، حرية كل شيء. وهذا الاحتكاك المباشر بالحرية وهي في شكلها الخام، دون أي صقل أو قولبة، هذا الاحتكاك قد يؤدي إلى اختلاط المفاهيم عند الناس، فيظنون أن حريتهم الجديدة تسمح لهم بالاعتداء على الآخرين، ويظنون أن حريتهم الجديدة تسمح لهم، دون غيرهم، بالمطالبة بحقوقهم، فهم باختصار تتشوه عندهم الأخلاق التي اصطدمت فجأةً بالحرية، فتصبح الأنانية عندهم تطبيقاً للحرية. وبالطبع، فإن الأخلاق اللئيمة، على عكس الأخلاق الكريمة، تنتشر كالسرطان في عقليتنا. فهذا الشخص يظن أنه الوحيد الذي قُمع وعانى، وهذه المدينة تظن أنها الوحيدة التي تدمرت، وهذه المنطقة تظن أنها الوحيدة التي يتم تهميشها، وهذه البلاد كلها تظن أنه لا يوجد في العالم بلادٌ تتعذب سواها. وتصبح الأنانية عقيدةً وطنية. فكيف يمكن لي أن أدعي أن جنسيتي الليبية لها ضميرٌ خارج ليبيا؟!

باختصار ديانتي: مسلم. وعِرقي: عربي. وجنسيتي: ليبي. ولكن سبب ألمي: ليس مما سبق.

حتى إذا خلطتُ كل ما سبق، وقلت أن البيئة التي وُلدتُ ونشأتُ فيها كانت تتردد فيها أصداء استغاثات فلسطين على الدوام، دماء الشهداء في فلسطين هي أناشيدنا، وأمل المستقبل كان دائماً موشوماً على جباهنا، ولكن هي نفس هذه البيئة التي زرعت فينا القضية الفلسطينية، حتى لو قلت ذلك، ففي النهاية هي نفس هذه البيئة التي سلبت مني كل أملٍ في المسلمين أو العرب، بل واستبدلت عندي الأمل بإدراكٍ بشعٍ بأننا دوماً إلى الوراء إلى الوراء إلى الوراء، وأننا أبطال الفر بلا كر، وفرسان الاجتماعات، وزعماء البيانات، ويا جبلاً من التخاذل واللامبلاة لن تهزك رياح الضمير أبداً، فأبقى صامداً إلى أبد الأبدين في جبهةٍ الخزي والعار بأسلحة التنديد والشجب والاستنكار! ولتكن صيحة الله أكبر صرخة عزاءٍ بعد أن كانت نداء جهاد.

أذكر أياماً كنت فيها فلسطينياً قحاً... كنت أعرف أسماء قادة كل الأحزاب والتشكيلات والكتائب، وأعرف كل يوم كم يسمو شهيدٌ في فلسطين، وكم يتعفن قتيلٌ في إسرائيل... كنت أحفظ رنين كل رصاصة، وتطبيل كل قنبلة، ومواويل كل صاروخ، كنت أرتدي القضية صيفاً وشتاءً، ويضحك عليَّ الناس، وينصحونني بخلع الشال الفلسطيني في الشتاء لئلا أصاب بالبرد... كنت أتنفس فلسطين... ولكنني سرعان ما اختنقتُ بالواقع، ووقعتُ أسير التخاذل العربي واليأس الإسلامي، ونسيتُ فلسطين، أو بالأحرى حاولت أن أتناسها...

ولكنني نسيتُ كل شيءٍ ولم أنسى فلسطين...

فلماذا أكتب عن فلسطين؟ بل لماذا أُفكر فيها؟ أو أضايق الآخرين بالحديث عنها؟!

لا أعلم... بصراحة لا أعلم... إن قلت بأن السبب (إنساني) فهذه نكتةٌ سمجةٌ أخرى؛ فالإنسان اليوم أدنى مستوىً من الحيوان، وحتى من النبات... على الأقل في الضمائر...

الشيء الوحيد الذي أُحس بأنه قد يكون السبب... هو أنني بدأتُ أفقد الأمل في بلادي، فأردتُ زرعه من جديد، ولكن في بلادٍ أخرى أحبها مثلما أحب بلادي... ففي النهاية، همومنا كلها هموم فلسطين، فحتى إن فقدنا الأمل في هموم بلادٍ ما، ولو كانت بلادنا، فبلا شك سيبقى هم فلسطين حاضراً، بأمله ويأسه...

ربما هذا هو التفسير...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق