السبت، 22 مارس 2014

صبراً بنغازي... يا روحي يا دمي...


بنغازي رباية الذايح... مثلٌ يعرفه كل الليبيين، وهذا المثل لم يعد مثلاً تاريخياً فقط، بل أثبتت بنغازي أنها بالفعل تحتضن كلَّ مَن لا يجد ملاذاً... ومرت ببنغازي ثورة الشعب المُشردة، اليتيمة، واحتضنتها بنغازي، رَحَّبت بها في شهر فبراير الماضي... وجميعنا نعلم أن التمرد لطالما كان ضيفاً مُرحباً به في بنغازي، والآن جاءت الثورة، وأقسمت عليها بنغازي أن تبقى فيها، أقسمت عليها أن تحميها بدمها وبأرواح أبنائها...

والآن ها هي بنغازي، ها هي ما تزال تستضيفُ الثورة، وتُصرُّ على حمايتها، والقذافي فقد كل ما تبقى له من عقلٍ مُتعفِّن، وتملكه اليأس، نعم، لقد سيطر عليه اليأس، لم يستطع مجابهة أبطال مصراته، وقفز وراء البريقة وإجدابيا خوفاً من أن تنكسر قواته على دفاعاتها، وهو الآن يركض مثل كلبٍ مسعور، لا يرى شيئاً سوى الدم، لا يريد شيئاً سوى الانتقام... إنها قصةٌ قديمةٌ قِدم الدهر: الطاغية المتهاوي، السفاح المجنون الذي فُضحت جرائمه ولم يعد في وسعه فعل شيءٍ سوى توجيه ضربةٍ أخيرة... ضربةٌ أفضل ما يصفها هو كلمة (انتحارية)، ضربةٌ أخيرة يُشبع بها شهوته للدم، ضربةٌ أخيرة يستهلك بها ما بقيَّ من حياته النجسة... القذافي حكم على نفسه بالهلاك منذ بداية ثورة 17 فبراير، حكم على نفسه بالهلاك بعد سقوط أول قطرة دم طاهرة، وأصدر هو بنفسه الحكم بالإعدام على نفسه حين كان يظن أنه يُصدر أوامراً لقمع الثورة... القذافي انتهى... كل ما يفعله الآن بمدفعيته، ودباباته، هو أنه يحفر قبره، يحفره أعمق وأعمق...

وبالرغم من خوفي الشديد على مدينتي الحبيبة وأهلها، وفزعي المُطلق على كل قطرة دماء ليبية مقدسة قد تُسفك، رعبي على بنغازي الذي يصيبني بالشلل، مع كل ذلك يجب أن أحاول رؤية الأمر من كل زواياه، حتى إن كانت غيوم الرعب الحمراء هي كل ما نراه في الأفق، حتى إن كان مستقبلنا سيكون جنازةً أبدية، فيجب علينا الآن دراسة كل جوانب الأمر؛ لعلنا نجد فيها أملاً يُساعدنا على الصبر...

كلنا نعلم ماذا سيحدث إذا سيطر القذافي على بنغازي... كلنا بكينا الدمع والدم على الزاوية الأبية، رأينا القتل الجماعي، الدمار، القصف، تدمير المقابر، كل البشاعات التي لا يمكن لعقلٍ بشريٍّ أن يُحيط بها، تم ارتكابها في كل مكان، منذ بداية الثورة إلى الآن، كل المدن شهدت كوارثاً إنسانية، جرائم حربٍ مُتعمَّدة... ولكن ربما، ربما هنالك أمورٌ أخرى قد تُنقذ بنغازي...

ذكرى باقية وذاكرة ضائعة...


ها هي ذكرى 19-3 تعود من جديد.. السبت الأسود.. سبت العزة.. يوم دخول الرتل.. يوم هزيمة الرتل.. يوم نزوح أهالي بنغازي.. يوم صمود أهالي بنغازي.... يوم بطولات صقور الجو.. يوم بطولات منطقة القوارشة.. يوم التدخل الفرنسي.. يوم هزيمة من هزائم الطاغية..

يومٌ مِن أيام تاريخ بنغازي... مِن أكثر الأيام فخراً لكل أهل بنغازي الذين لا يضاهيهم أحدٌ في حُبِّ مدينتهم...

كم آسف لأنني لستُ كاتباً حقيقياً، ولا شاعراً موهوباً، لأنني لا أستطيع الحديث عن بطولات ذلك اليوم، لا أستطيع فعل أي شيء.. أحاول فقط أن أتذكر، أن أتذكر بعض من سيعيشون على مر التاريخ في ذلك اليوم، بعض من استشهدوا فيه ليعيشوا في تاريخ بنغازي، بعض من اقترنت أسماؤهم بكل معاني البطولة والوطنية...

فخر الدين الصلابي.. المهدي السمين.. محمد العقيلي.. عبدالله المسماري.. محمد نبوس.. راف الله السحاتي.. عامر بوعمود.. معاوية عصمان..

كم آسف على أنني لستُ كاتباً ولا شاعراً، وكم آسف لأنني لا أحفظ أسماء كل من استشهدوا ذلك اليوم، ولا أحفظ تواريخ ميلادهم، ولا أحفظ آخر كلماتهم ووصاياهم، ولا أحفظ ابتساماتهم... وكم آسف أكثر من ذلك لأنني لم أكن موجوداً ذلك اليوم حتى لأهرب.. لم أكن موجوداً لفعل شيء..  وكل ما أستطيع فعله الآن هو محاولة التذكر... فهذا كل ما لديَّ الآن، وهو في الحقيقة كل ما لدينا جميعاً اليوم: محاولة التذكر. الذكرى تعود، وستعود كل سنة... الذكرى باقيةٌ ما بقيَّ لدينا تاريخٌ وسنينٌ وشهورٌ وأيامٌ، فهل الذاكرة باقيةٌ أيضاً؟ أم أن ذاكرتنا الضعيفة تنسى كل شيء، ولا تتذكر من هذا اليوم إلا أنه عطلة؟

لا أعلم... أظن أننا اليوم نفعل ما فعلته أنا الآن، وهو أننا نتذكر (أسماءً) فقط ولا نتذكر (مسميات)، أعني أننا نتذكر اسماً مثل فخر الدين الصلابي أو عبدالله المسماري، ولكننا لا نتذكر فعلاً رجلاً حلَّق في سماء البطولة واستشهد، ولا نتذكر رجلاً ترك كل شيء وحمل سلاحه وركض نحو الشهادة.. نتذكر أسماءهم، ونرفع صورهم، ولكننا لا نتذكر أفعالهم ولماذا فعلوا ما فعلوه... نتذكر تاريخ هذا اليوم، 19-3، ولكننا لا نتذكر فعلاً ذلك اليوم، لا نتذكر الخوف والرعب والقلق، لا نتذكر الشجاعة والإقدام والبطولة، لا نتذكر التضحيات والعزم والصمود، لا نتذكر إلا يوماً نحتفل به أو ننام فيه، وتنتهي القصة، لا نتذكر حقيقة ذلك اليوم، وما عناه من بطولة وتضحية ووحدة، وما يدعونا إليه من توحيد الصف والدفاع عن مدينتنا والتضحية في سبيلها... لا نتذكر هذه المعاني، نتذكر فقط مظاهراً، ولا نتذكر جوهراً...

كل شهيدٍ ليس فقط شخصاً قُتل في سبيل قضية، ولكن كل شهيد هو دعوةٌ للعمل، وصيةٌ بالتضحية، ومنارةٌ للقادمين من بعده... وكل يومٍ في التاريخ ليس مجرد رقم، بل هو درسٌ يجب حفظه وفهمه وتطبيقه...

ولكن أظن أننا نرتاح ونختار الاحتفال وحسب، نحتفل بالشهداء وننسى وصاياهم وحقيقة تضحياتهم، ونحتفل بالدماء الطاهرة وننسى أنها رسمت لنا طريقاً لنعبره، ونحتفل بالتاريخ وننسى أنه موجوداً ليُذكِّرنا وليس لنحتفل به ونتخذه عطلة... نحتفل ونحتفل ونحتفل وليس لدينا في الحقيقة أي حق في الاحتفال، ليس فقط لأن ظروف بلادنا لا تسمح بذلك، والدماء التي مازالت تُغرق مدينتنا لا تسمح لنا بإقامة المهرجانات والمسيرات الاحتفالية، ولكن لأننا لم نكتسب بعد الحق في الاحتفال بأي شيء، فنحن لم نفهم شيئاً، ولم نحفظ وصايا الشهداء، ولم ننتصر على أنفسنا، ولم ننجح في أي امتحان، وإنما فقط اكتفينا بكتابة التاريخ على ورقة الامتحان، وتركناها فارغة، وخرجنا نحتفل...

وتعود الذكرى، وستعود، وستبقى، ونحن سنبقى نعاني من مرضٍ مُزمنٍ في ذاكراتنا، وسنبقى نحتفل إلى أن ننسى لماذا نحتفل... ويا إلهي...


رحمة الله على الشهداء الأبطال... رحمة الله عليهم... ورحمة الله على الثورة التي قتلها النسيان ودفنتها الأنانية في ليلةٍ مظلمة، واستيقظنا نحتفل دون أن ننتبه لشيء... فرحمة الله علينا نحن أيضاً...

الجمعة، 14 مارس 2014

رسالة من الماضي وعن الحاضر؟!

رسالة من ليبيا*

ليبيا، مستعمرة موسليني السابقة التي كان يتباهى بها في أفريقيا، وبلدٌ يفوق تقريباً مساحة ولاية تكساس ثلاث مرات، قد يُسجل التاريخ أنه موقع أول مجهود ناجح للأمم المتحدة لإقامة دولة فيدرالية مستقلة جديدة. ولكن من ناحيةٍ أخرى، إذا لم تجرِ الأمور كما هو مُخطط، قد يكون أعظم سبب لشهرة ليبيا هو كونها أصبحت أحد أكبر الكيانات المتعثرة في الطريق الوعر للأمم المتحدة. الناس هنا، ممن يتوقعون النتيجة الثانية، يقولون بأن ليبيا على وشك أن تصبح تجسيداً آخراً لواقع أنه في العلاقات الدولية، كما في أي شيءٍ آخر، النيات الطيبة وحدها لا تكفي، ويقرون بوجود تقاربٍ غير مُطمّئن بين الوضع هنا وبين الأوضاع التي تم استعجالها في فرساي منذ بضعٌ وثلاثين سنةٍ ماضية، ومنذ فترةٍ أقرب في يالطا وبوتسدام[1].

ليبيا تتكون من ثلاثة أقاليم – برقة، طرابلس، وفزان. الصحارى الشاسعة تُشكِّل حدوداً بينها. مواطنو برقة الثلاثمئة ألف لديهم قدر محدود من الحكم الذاتي تحت قيادة أميرهم، الذي لديه مستشارٌ بريطاني[2]. طرابلس، بعدد سكان يصل إلى ثمانمئة ألف، هي إلى الآن أكثر المناطق المأهولة سكانياً في ليبيا وتتم إدارتها من قبل البريطانيين، الذين يمنحونها هي أيضاً قدراً من الحكم الذاتي. فزان، صحراءٌ كبيرة حجمها تقريباً ثلاثة أرباع حجم فرنسا ويسكنها عدد يُقدَّر بخمسين ألف شخص، هي تحت الإدارة العسكرية الفرنسية.

تاريخ ليبيا ما بعد الحرب يمنحنا مثالاً بارزاً على طبيعة الغنائم التي تؤول إلى المنتصرين في هذه الأيام. فبعد أن توقف القتال طُرح سؤال ما الذي يجب فعله بمستعمرات إيطاليا السابقة لأول مرة في مجلس وزراء خارجية الأربعة الكبار[3]. مجهودات أولئك السادة في التوصل إلى اتفاق تم تعطيلها حين طالب الاتحاد السوفييتي بالوصاية على طرابلس – من المحتمل، كما قيل حينها، أن يكون السبب هو رغبة الاتحاد السوفييتي في استخدام المنطقة كقاعدة انطلاق لعمليات بروباجاندا داخل العالم الإسلامي. وقد نشأت تعقيداتٌ أخرى، وكما يحدث كثيراً في جمودٍ ومراوحةٍ دوليٍّةٍ من هذا النوع، فقد أُرسلت أخيراً لجنة لأجل "التحقيق في الأوضاع المحلية". اللجنة بدورها وصلت حالةً من الجمود، وبتاريخ 15 سبتمبر 1948، الشأن الليبي، بالإضافة إلى شأن مستعمرات إيطاليا السابقة الأخرى، تم رفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. الكونت سفورزا والراحل إرنست بيفن[4] اجتمعا بعد ذلك واقترحا إقامة فترة وصاية على ليبيا مدتها عشر سنوات، جاعلين إيطاليا مسؤولةً عن طرابلس، بريطانيا عن برقة، وفرنسا عن فزان. السوفييت، كما هو حالهم دائماً، قدَّموا مقترحاً أكثر تطرفاً: لماذا لا تنسحب كل القوات من الأقاليم المتنازع عليها وتُمنح ليبيا استقلالاً فورياً – أو كما قرأ المقترح كثيرون ممن لديهم معرفة بالمشكلة: فوضى فورية؟

الثلاثاء، 11 مارس 2014

مع الشاي؟ أم بدون الشاي؟

في متاهات الإنترنت لا يعرف المرء ماذا سيجد من أخبارٍ غريبة... خاصةً حين يكون الإنترنت بالنسبة للشخص هو مجرد محاولة للهرب من كل شيء... الهرب من مسؤوليات وهموم الحياة... الهرب من أخبار بلادك ومدينتك... تحاول أن تهرب، وهذا الهرب في الشبكة العنكبوتية قد يُوقِعك في مواقعٍ تافهة، أو غريبة، أو مفيدة أحياناً... وربما تجد نفسك وقعتَ على خليطٍ من كل هذه الأمور...

متاهة الإنترنت... الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود! وأحياناً تكون أفضل ملاذ من العالم...


قد تمر في بعض المواقع على آخر التطوارت بخصوص الكون الذي نعوم في فضائه. لعلك كنت تعلم بأن الكون يتمدد باستمرار. اكتشافٌ قديمٌ كاد أن يُكلَّف إينشتاين نظريةً كاملة؛ حيث كان يظن بأن الكون لا يتمدد ووضع له (ثابتاً كونياً). ولكن، للأمانة العلمية، فاعتبار الكون ثابتاً كان احتمالاً ضرورياً لنظرية النسبية في ذلك الوقت، وحتى مع اكتشافات تمدد الكون، يبقى لعنصر (الثابت الكوني) مكانٌ مهم في المعادلات الأستروفيزيائية والفيزياء النظرية، وخاصةً مع الاكتشافات التي تقول بوجود ثابت كوني من نوعٍ ما يساهم في ضبط عملية تمدد الكون... وبعد الاعتذار على هذا الصداع العابر نعود لفكرة أن الكون يتمدد: معلومةٌ قديمة، ولكن المعلومة التي قد لا تعرفها هي أنه في عام 2011 تم إثبات (تسارُع) تمدد الكون، الأمر الذي جعل البعض يصفون الكون الذي يمكننا ملاحظته – الذي تسمح لنا التكنولوجيا بالتعرف عليه – بأنه (لا حدَّ له...) أي أنه لا ينتهي في مكانٍ ما – لا توجد حافةٌ يمكن أن يقع من فوقها كوكبٌ أو نجم! وبالرغم مما قد تؤدي إليه هذه النظرية من تطورات في الدراسات العقائدية وعلم الكلام ونظريات التجسيم والحد! فإن ما تَوصَّل إليه بعض الباحثين مؤخراً، بناءً على نظرية تسارُع تمدد الكون، هو نفي أن تكون الكرة الأرضية – أو بالأحرى مجرة درب التبانة – مركز الكون. تسارع تمدد الكون يحتاج لسبب، والسبب إلى الآن محض تخمين يدور بين عدة نظريات، إحداها كانت أن مجرتنا تقع في وسط الكون. ولكن العلماء في جامعة دارتموث الأمريكية قد نفوا هذه النظرية عبر دراسة الانبعاثات الضوئية في الفضاء، حيث نفت الدراسة أن يكون لمجرتنا موقع مركزي عبر مقارنة الانبعاثات الضوئية ومدى انتشارها. وبالرغم مما قد يثيره ذلك من تطوراتٍ أكثر حدةً في علم الكلام والمجادلات الدينية! فإن هذا الاكتشاف الذي ينفي أن لكوكبنا – بل مجرتنا كلها! – أي أهمية في الكون قد يلفت انتباهنا قليلاً لمدى تفاهتنا حين نظن بأنه لا يوجد في العالم سوانا، وأن مشاكلنا في البيت، أو في مدينتنا، أو في بلادنا، أو في إقليمنا، أو في قارتنا، أو في كوكبنا، أو في مجرتنا كلها هي أهم المشاكل في العالم!!!


بل حتى نظامنا الشمسي (في الخريطة Sun’s Location) ليس موجوداً في وسط مجرتنا! ناهيك عن موقع مجرتنا في الكون!

حين تمر على مثل هذه الأخبار قد تتساءل قليلاً عن مدى فائدة هذه الأمور... ماذا ستفيدنا معرفة تفاصيلٍ مُعقَّدة عن الكون الشاسع الذي لا نستطيع زيارة أيَّ جزءٍ منه؟! أليس الأفضل أن تُستثمر هذه المجهودات في أشياءٍ أكثر فائدةً لنا على كوكب الأرض؟! بالطبع سأتجاهل الأخبار عن اكتشاف مياه على سطح يوروبا، أحد أقمار كوكب المشتري... هذا الخبر قد يبدو مفيداً، ولكنه ليس كذلك! على الأقل لا أظن أنه سيكون مفيداً قبل زمنٍ طويل، ولو كان ما أظهرته الأبحاث من احتوائه على نسبة من الماء أكثر مما تحتويه الأرض كلها وهو قمر أصغر منها بعدة مرات، مثيراً للاهتمام... ولكن دعنا نتجاهل هذا الأمر حالياً لبُعده عنا زمنياً وتكنولوجياً... ونستمر في التساؤل عن – وربما السخرية من – جدوى علوم الفيزياء والفلك، وهي بصراحة جدوى مستعصية قد تدفعك لإيجاد أخبار تبدو أكثر فائدةً لنا سكان الكرة الأرضية... فقد تقرأ مثلاً عن توصل علماء من رومانيا إلى ابتكار دماء اصطناعية!