السبت، 22 نوفمبر 2014

اشتياق...


منذ فترة التقيتُ في الشارع بابن عمي. ليس لدينا الكثير لنتحدث عنه ولذلك بعد الأسئلة المعتادة عن الأهل والأحوال العامة سألته عن (بكرج)، المقهى الرائع الذي اشتهر أكثر مما يجب وازدحم أكثر مما يجب. كنتُ سابقاً قد التقيتُ بابن عمي هذا عدة مرات في بكرج، ولكنني لم أزره منذ فترةٍ طويلة وكنتُ قد سافرتُ قليلاً ولم أكن أتحرك كثيراً في تلك الفترة... سألتُ ابن عمي سؤالاً مُحدداً جداً: "إلى متى يبقى بكرج مفتوحاً هذه الأيام؟" ورد ابن عمي بأريحية: "أوه، أنه يبقى مفتوحاً إلى وقت متأخر، العاشرة وحتى الحادية عشر ليلاً..." كانت في نبرته لمحة مباهاة، أو شيء من هذا القبيل، لا أعلم هل كان ذلك انعكاساً لشعوره بأنه يُجاوب على سؤالٍ إجابة شخصٍ عارف، أم كان انعكاساً لظنه أن العاشرة والحادية عشر أوقات متأخرة... شيءٌ جديد آخرٌ تكسَّر في داخلي وتساقط فوق ركامٍ من حطام الأشياء المفقودة...

لماذا؟ ببساطة لأن الوقت المتأخر كان الثانية وحتى الثالثة صباحاً... وليس العاشرة...

لن أُنكر بأن الأمر لم يكن اعتيادياً، ولن أُنكر أيضاً أنه لولا تواجد زياد بن حليم رحمه الله – صاحب المقهى – معنا لما كان باستطاعتنا أن نُبقي بضعة أضواء مفتوحة ونتمسك بطاولة وكراسٍ! كان استقواءً بصاحب الرزق! ولكنه كان شيئاً عادياً يحدث في نهاية الليلة: تعرف الكثيرين في المقهى وتتنقل بين عدة طاولات، وشيئاً فشيئاً يبدأ رواد المقهى في الرحيل، وتبدأ مجموعةٌ منا في الانجذاب تلقائياً نحو بعضنا البعض، تشدنا مغناطيسية الطاولة، ومغناطيسية زياد رحمة الله عليه أيضاً (كم كان إنساناً رائعاً...) يرحل الجميع، تُطفأ الأضواء إلا واحداً أو اثنين، تُجمع الطاولات والكراسي إلا طاولتنا وكراسينا، ويُسلَّم كل شيءٍ لزياد... ونبقى... للواحدة، الثانية، الثالثة صباحاً... ثم نرحل، مستغلين كل خطوة إلى خارج المقهى في إنهاء نقاشٍ سياسي، أو في ختام الليلة بمزاحٍ مع بعضنا البعض، وقبل أن ينتهي كل شيء نسأل بعضنا البعض "معك سيارة؟" وتُختم الليلة بالوداعات...

كان شيئاً عادياً يحدث...

وفي أحد الأيام، خُطف شابٌ بعد أن غادر المقهى. كاميرات مراقبة في الجوار كشفت أن من خطفوه كانوا ينتظرونه أمام المقهى قرابة الساعة. سيارتان تقريباً، وتركوا سيارته كما هي، مفتاحها فيها، موسيقا مفتوحة. عاد الشاب سالماً لأهله بعد دفع فدية. لكن، منذ تلك الليلة تغير كل شيء... حضرتُ الجلسة التي تحدثوا فيها عن الأمر في المقهى، أخ زياد رحمه الله – والذي استلم إدارة المقهى – كان متضايقاً جداً، كلنا كنا نشعر بالضيق. ما الحل؟ لم يكن هنالك حل، وما أن اقترح أحدهم البدء في إغلاق المقهى مبكراً، حتى وافق الجميع. وأصبح (بكرج) يُغلق الساعة العاشرة وحتى الحادية عشر ليلاً...

والحقيقة أنني لا أستطيع أن أقول بأن هذا وقتٌ مبكر، بمعايير تلك الفترة، كانت بنغازي كلها تُنطفئ بعد الساعة الثامنة...

اليوم مقهى بكرج مُغلق بسبب الحرب... المنطقة كلها مغلقة بسبب الحرب، سكانها أُرغموا على النزوح ومغادرة بيوتهم. موتٌ كثيرٌ ودمارٌ كثير جديرٌ بأن يجعل هذا النزوح إكراهاً... بنغازي كلها مغلقة اليوم.

يقولون الأوضاع في تحسن، الجيش ومؤيديه يقتربون من حسم المعركة. ينشر البعض صوراً لمفترق طرقٍ هنا أو هناك، صوراً لمحلات، صوراً لازدحامٍ مروري. تؤلمني هذه الصور، لأنها تبعثُ في أملاً كبيراً سُرعان ما يتلاشى... بنغازي مدينةٌ صغيرة، كيف تنشر صورةً لطريق فينيسا مدعياً بأن كل شيء بخير، وعلى مرمى حجر بلعون تحترق؟! كيف تنشر صوراً من بوهديمة وعلى بعد كيلومترين أو ثلاثة مناطق الهواري والليثي وطريق النهر التي تربط بينهن جميعاً؟ كيف تنشر صوراً لشارع عمرو بن العاص وسط المدينة، وتفرعاته تقود إلى سوق الحوت والصابري؟! نعم، نحتاج لبعض الأمل، ونعم هذه الصور تُسعدنا، ولكن هنالك حدٌّ لقدرتنا على خداع أنفسنا... كل ما أعنيه هو أن ألم ما ضاع ويضيع لن تشفيه صورٌ مخطوفة وأخبارٌ متضاربة...

قريباً قد يتغير كل شيء.. لا أظن أنه يمكن للوضع أن يتغير إلى الأسوأ! إما أن يستمر كما هو، وقد نكاد نعتاده، أو يتغير لوضعٍ أفضل ولو لم يخلُ من سوء...

ما أكاد أجزم به هو أن بنغازي التي يعذبنا الاشتياق لها لن تعود... وسنبقى نشتاق لها أبد الدهر... سيبقى منها غيابها...


لم أكتب منذ فترة، ولا أعلم لماذا أكتب أو ماذا أكتب، أردتُ فقط أن أكتب أي شيء. والشوق في المعاجم العربية هو نزاعُ النفس إلى الشيء بالاشتياق... والنزع هو الاقتلاعُ بشدة... نزعني الشوق إلى بنغازي من شللي لأكتب عنها ولو بضعة كلماتٍ تافهة...