الاثنين، 17 فبراير 2014

إلى شهداء ليبيا.

على وشك النهار

ليسامحني الندى
قطفتُ عشبةً قبل استئذانها
حبستُ فراشتين في أغنية
ليتني أطلقتُ صرخةً في كبد الطاغية
ليتني هندُ القبائل (ولو خسئ أن يكونَ حمزتها)
ليتني حداءُ القوافل
حفيفُ الريحِ بين السنابل
يمامةٌ على شرفة المدى
أو مقام نهوندٍ في وتر البادية
ليتني شرقٌ وغربٌ وبقية ُالرياح
لأطوي المسافة بين كلِّ حبيبين
ليتني عصا موسى
أو خاتم سليمان
ليتني نوحُ الصحارى
سفينتي خضرة وماء
مانعاً طوفان الرمل والأذى
باعثاً العشب في الجهات
ليتني شراع حُبٍّ أو قارب نجاة
ربابةُ بدوي تبلسم جراح الصبا
الموسيقى أهداب البصيرة
لكن ليل المتوسط مضاءٌ بدم الضحايا
زبد البحر شيب الأحزان
إكليل دمعٍ على درب الآلام.

أنهار القهر الصناعية شحوب الصحراء
ضواري البَرِّ أذهلها الطغيان
أرواحكم تستعجل صعودها لتوبِّخ سماءً نائمة
أجسادكم تُخصِّب باطن القلب عشباً وأغنيات
أين كنتم قبل هذا، أين كنتم قبل الآن؟
المدنُ ذبيحة حراسها
رقصة الطغاة على جسد البلاد
حفلة تنكرية لامتصاص رحيق الأيام.

كيف كبرتم في سني الخوف والخداع
خبأتم أمنياتكم مثل نذور الأرامل والجدات
من شوك أعماركم تصنعون أكاليل نار
تستقبلون غداً فتياً في مضافة الآن
رياح السموم لم تُفسد ملح نقائكم
وما تعثرت صرحاتكم بأسلاك الفزع
حرير براءاتكم يرفرف على الشرفات
ذهبُ أشواقكم قلائد سواعدٍ أضناها الوداع.

أتنفسُ غبار الجنوب لأشم عطر خطاكم
لولاكم ما نبت زرع
ولا درَّ حليب من أثداء أرض
لولاكم ما ابتسمت كواكب
ولا ركضت صبيةٌ في حقل أمنيات
ليتني أعرفكم واحداً واحداً
ليتني نبتة في تربة ضريح
حفنة اشتياق على رخام شاهدة
ليلة دعاء في تمتمة والدة
وشماً على حبين شمس جباهكم
أو لعثمة طفل اشتاق مناداة: بابا
فراشة على وسادة عاشقة
ترفرف في مناماتها وتغفو في سرير الصباح.

عذراً على ما فات ولم يمت
مَن يسكت عن دمكم بعد الآن
مَن يكتفي بحبرٍ خجولٍ ودعاء
نشخذ اللغة على مسنّ الغضب
نجدل ضفائر الشمس ستائر لأرواح الغائبين
قطنَ السحاب ضمادات أحلام مؤجلة
نكتبُ للكلمات حناجر.

ليتني أغنية حُبٍّ على شفاه الريح

نجمة صبح تثقب حلكة الألم
هذا دمكم
يشق نهراً في صوان الردى
فجراً لسنونوات البلاد
على وشك الضوء انبلاج النهار
على أسنّة الفرح اندحار مرتزقة الظلام
رفاتكم أهازيج جوفية لينابيع الذاكرة
كواكب تؤلف مجرة حرية
تُرصِّع كتفيْ الزمان بنجومٍ ثائرة
هذا الموت جلجلة
والقيامة آتية
ليكن جسدي/ لغتي/ كبدي/ نَفْسي/ نَفَسي/
صخرةً يُنقشُ عليها تاريخ سقوط الطاغية.

زاهي وهبي.



* قصيدة للشاعر الرائع زاهي وهبي، كتبها لشهداء ليبيا في بداية ثورة 17 فبراير. سمعتُ جزءاً منها في تقريرٍ إخباري عن أمسية شعرية في لبنان، وبقيتُ أبحث عنها طويلاً إلى أن وجدتُها أخيراً... قصيدةٌ رائعة، من شاعرٍ رائع، لشهداء ليبيا وأبطالها الوحيدين... رحمة الله عليهم جميعاً، ورحمة الله على الثورة التي كانوا هم ذخيرتها وكفنها أيضاً... وفي هذه المناسبة، ذكرى ثورة 17 فبراير، فلا يمكنني فعل أي شيء سوى الترحم على الشهداء، لقد رحلوا ورحل معهم كل ما هو نبيلٌ ووطني... فليت بلادنا كلها تصبح نبتةً في تربة شهيد...

حياة وموت ثورة...

اسمح لي بأن أروي لكَ قصةً يا عزيزي القارئ... قصة ولادة ثورة ومسيرة حياتها التاريخية... وسامحني لأني سأُفسد عليك القصة الآن وأقول لك بأنها تنتهي بموت تلك الثورة... سأروي لك هذه القصة يا عزيزي القارئ لأنني أرجو أن تقرأ فيها قصةً – أو نبوءةً – عن ثورةٍ أخرى...

في عام 1789 وُلدت الثورة الفرنسية، التي كانت بجمال حسناوات فرنسا، وبطهارة شُعرائها. وُلدت من رحم الظلم والمعاناة، ونمت وتغذت بأنانية ولامبالاة الُحكام. وبسرعةٍ فائقة، وبقوةٍ غير مُهادِنة، انتقلت الثورة من مراهقة التمرد إلى بلوغ الثورة. وقد بلغت سن الرشد بالتحديد يوم 14 يوليو عام 1789، حين انتزعت قلعة الباستيل من أسيادها وحوَّلتها مِن حصنٍ للملك وسجنٍ للشعب إلى رمزٍ للثورة ومُعسكرٍ للشعب الثائر. والطريف عزيزي القارئ أن الملك، الذي نفذ بجلده من تلك القلعة في الوقت بدل الضائع، كان منذ يومين أو ثلاثة، في القاعات المُحصَّنة، يسأل مستشاريه بكل بلاهة: (هل هذا تمرد؟!) وقد منعته نرجسية الحُكام من الاستماع للرد الشهير لأحد مستشاريه: (كلا، يا مولاي، إنها ثورة.) هكذا، بكل بساطة ووضوح عرف الملك الحقيقة، ولكن تخمة السلاطين أقعدته عن إدراك جوع الشعوب...

وتوالت الأحداث، وانطلقت الثورة الفرنسية تنمو وتنمو، وتكسر القيد تلو الآخر بشعارها الرنان: (الحرية، المساواة، الإخاء) تلك الكلمات الثلاث التي تجري على قافيةٍ واحدةٍ في اللغة الفرنسية، فكانت مبدأً وشعاراً ونشيداً – وعداً للثائرين، وللحكام وعيداً. وياه كم حَقَّقت الثورة أحلام الفرنسيين: انتشرت حقوق الإنسان والمواطنة، وتخلصت فرنسا من الطبقية، وتحررت من نير الكنيسة الأحرش، ووقع الملك في الأسر، وظهرت على السطح الحرية الفكرية والسياسية... وتنفس الشعب الفرنسي عطر الحرية الذي غاب طويلاً عن بلاد العطور...