الخميس، 28 أغسطس 2014

هروب...

حسناً، أريد فقط أن أكتب أي شيء... لا أعلم...

بالأمس تقريباً، بالأمس خرجتُ على عادتي متجهاً نحو أحد أصدقائي الأعزاء، وربما الصديق الوحيد الحقيقي في حياتي! صديق عزيز لا أعرف اسمه ولا يعرف اسمي، صديق يعرف فقط أنني أشتري ثلاث علب سجائر كل يوم (علبتين بعد ارتفاع الأسعار!): بائع السجائر في ذلك الكشك الصغير من الصفيح. انطلقتُ في تلك الرحلة، مُدخناً آخر سيجارةٍ عندي براحةٍ نفسيةٍ عميقة! عما قريب سأُعوِّضها أضعافاً مُضاعَفة! في الطريق مررتُ على طفلين صغيرين، كانا يتحدثان مع بعضهما البعض بحدة، لم أسمع ما قاله أحدهما للآخر، ولكنني أتذكر أن تعابير وجه الطفل المُتلقي قد تغيرت فوراً وبشكلٍ عجيب! فوراً احمَّر وجهه، وبدا وكأنه سينفجر بكاءً!

وبدأت المعركة!

التحما ببعضهما البعض، وبدأ يتصارعان، لم أهتم بالموضوع كثيراً في البدء: مجرد (عركة) أخرى في الشارع. ثم فجأةً أسقط أحدهما الآخر، وبدأ ينهال عليه باللكمات! لقد أفزعني الأمر: المشهد كان كمباريات فنون القتال المختلطة MMA!

هذا الأسلوب اسمه Ground and Pound يعني تقريباً: اطرحه أرضاً واطحنه! الصورة مشابهة تماماً لما رأيته، الأحجام أصغر فقط!

تدخلتُ حينها، قمتُ برفع الطفل المنهال باللكمات على الطفل الآخر، وأنا أقول لهما: "خلاص، خلاص..." حملتُ الطفل إلى الخلف قليلاً، ولم أنتبه للطفل الآخر الذي تحرر حينها، في تلك اللحظة قال لي الطفل الذي حملته: "نبي البطاطا متاعي..." لم أفهم ما يعنيه في البداية، حين التفتُ إلى اتجاه نظره، رأيتُ كيساً من البطاطا (بطاطس؟ تشبيس؟ المهم...) على الأرض، ركله الطفل الآخر، وقال له: "خوذها البطاطا متاعك!" سألت الطفل الذي حملته: "هذا عليش تعاركتوا؟" فكرتُ حينها أنني قد أذهب وأشتري لكلٍّ منهما كيساً من البطاطس (تشيبس، شيبس، شبس...)، ولكن الطفل قال لي: "هو جا ينابش..." انصرف الطفل (المنابشي)، وجلس الطفل الآخر بكيس البطاطا. وانصرفتُ أنا متجهاً إلى كشك السجائر.

الأربعاء، 27 أغسطس 2014

الحرب تأخذ فقط... هكذا وبدون توضيح.


منذ يومٍ أو يومين تقريباً اتصل بي شخصٌ رائعٌ جداً كعادته دائماً في الاتصال والسؤال عن الحال، شخصٌ طيبٌ لدرجة أنك لو كنت إنساناً غير اجتماعيٍّ مثلي ومتشائماً إلى حد الجنون؛ فإن طيابة مثل هؤلاء ستُصيبك بالحنق على أقل تقدير! لماذا أنت هكذا؟ لماذا تتصل وتسأل؟ لماذا، في هذا العالم القذر المنهار، يوجد أشخاصٌ مثلك؟!

اتصل بي هذا الشخص، سأل عني وعن أحوالي، تحدثنا قليلاً، وسألته عن مشاريعه لهذه الليلة فقال لي أنه ذاهبٌ إلى عزاء ثم ليس لديه مُخططٌ واضح.

-       عزاء من؟
-       عبدالرحمن اهليس، اذكرته؟ في بكرج؟

كان ذلك في عيد الفطر. آخر مرةٍ ذهبتُ فيها لمقهى بكرج. كنتُ قد اتصلت بالشخص الرائع (السابق ذكره) لتهنئته بالعيد، وقد أخبرني بأنه في طريقه إلى مقهى بكرج. بدت لي الفكرة جذابة: تذهب إلى المقهى، تلتقي بالكثير من المعارف (عشرُ عصافيرٍ على الشجرة! أو على طاولة المقهى!) تُهنئهم بالعيد، وفي نفس الوقت تُروِّح عن نفسك قليلاً بمعايدات في الهواء الطلق لمقهى شبابي بعد يومٍ كاملٍ من المعايدات في غرف المعيشة والصالونات المختنقة بالرسميات وبكبار السن وبالاحترام وبالحياء – استراحة اجتماعية بعد كل تلك الضرورات الاجتماعية.

ذهبتُ إلى المقهى، التقيتُ بكثيرين، عايدتُ على كثيرين، ثم انتهى بي المطاف – كالعادة – أجلس وسط الكثيرين بصمت – جليسي الحقيقي الوحيد هو كوب القهوة الذي بين يدي. لا تربطني بأغلبية الحاضرين علاقة قوية... على أي حال كان الجو العام جيداً. لا أذكر كيف بالضبط، ولكن ربما في فوضى الوقوف للمعايدة على شخصٍ لمحته من بعيد فيضيع كرسيك (الكراسي لا تُقدُّر بثمن في مقهى بكرج المزدحم على الدوام!) وكل ما ينتج عن ذلك من فوضى، وجدتُ نفسي أجلس بجوار عبدالرحمن اهليس رحمه الله. موضوعٌ يليه موضوع تمر كلها على مسامعي وأنا ألتزم الصمت، ولا أعلم تماماً عما يتحدث الجميع (ضمن مقاطعة منتجات السياسة الكلامية!) إلى أن دار الحوار دورته ووصل الكلام إلى الحجاج بن يوسف الثقفي. كان عبدالرحمن رحمه الله يتحدث عن أن الحجاج له دورٌ بالرغم من دمويته كان مهماً جداً في تثبيت الخلافة الإسلامية وجلب الاستقرار لها. قد أستطيع منع نفسي من الحديث في السياسة، لكنني لا أستطيع منع نفسي من الحديث في الدين، وبلا شك لا أستطيع منع نفسي من معارضة أي شخص يمتدح الحجاج بأي شكلٍّ من الأشكال. دخلتُ في حوارٍ مع عبدالرحمن.

الخميس، 21 أغسطس 2014

آن أن تستريح...



بالكلام الفصيحْ
وبكلِّ الوضوحْ
هكذا أنتَ يا صاحبي،
وإلى أبدٍ عابرٍ.. في الضريحْ
أنتَ لا تستسيغُ هدوءَ الزمانِ،
ولا تستطيعُ المكانَ المريحْ
قَلِقٌ أنتَ كابنِ الحسينِ على سَرْجِ ريحْ
أنجبتكَ البراكينُ يا صاحبي
مِن جراحِ المسيحْ
واصطفتكَ الأعاصيرُ ترنيمةً
لعذابِ النبيِّ الجريحْ
إنما ملكُ الموتِ يا صاحبي يدَّعيكْ
فاقترح ميتةً
قُل لنا شهوةَ الموتِ فيكْ
قُل لنا يا سميحْ
واحكِ عن حيرةِ القبرِ،
من موقعٍ أنتَ مَهَّدْتَهُ
ثمَّ بدَّلتَهُ
ثمَّ غيَّرتَهُ
ثمَّ حيَّرتَهُ
وإلى موقعٍ مُضَمرٍ لم يزلْ
في مكانٍ جميلْ
من أعالي الجليلْ
حسناً. هكذا. آن أن تستريحْ
يا صديقي سميحْ
بعد طولِ الصراعِ وعُنفِ الوداعِ وعُسْر الجدَلْ
آن أن تستريحْ
من عذاب الملَلْ
يا أخي. يا ابن أمي. ويا ابن أبي،
يا سميحْ!!

سميح القاسم


وُلد 11- مايو - 1939 واستراح 19- أغسطس- 2014 وسيبقى إلى ما لانهاية...


همسةٌ مُستجابة...

ورقٌ.
ورقٌ سيدي.
إنه ورق.
أشتهي ورقاً للكتابة سيدي
لم يعد ثمَّ مُتسعٌ فوق جلدي العتيقِ
كتبتُ عليه طويلاً
وندوب الجراح القديمة، تلك سطوري
ليقرأها الناس لو يقرأُ الناسُ جيلاً فجيلاً
سيدي. وثقوب سجائركَ المُطفأَهْ
فوق جلدي، نقاطكَ فوق حروفي
وإيقاعُ أغنيتي المرجأهْ

* * *
ورقاً. سيدي
أشتهي ورقاً للكتابه
كي أعيد الكتابه
أن موتي دُعابه..


ورحل سميح القاسم... رحل آخر شاعرٍ حقيقي في عالمنا العربي.. فارسٌ آخر في ركب اللغة العربية يسقط مع حصانه.. نبي شعرٍ آخر تُختم رسالته.. شيخٌ صوفيٌّ آخر يتلو ورده الأخير، صلاته الأخيرة، قصيدته العظمى، حياته الكبرى... يوقعها بموته: سميح القاسم. تنطفئ الأضواء في عالمه، ويُشعل سيجارةً في الظلام.

حين قرأتُ الخبر يوم الثلاثاء (19-أغسطس-2014)، حين قرأتُ الخبر، حين قرأتُ الألم، أصبح العالم أكثر ظلاماً.. أكثر اختناقاً.. أكثر قسوةً.. أكثر وحشةً.. فجأةً هكذا وفوراً: تغير العالم من حولي وفي داخلي.. تغير كل شيء... حاولت فوراً أن أتذكر كل تلك القصائد، كل تلك المقطوعات، كل تلك الكلمات التي كنتُ أنسخها على قصاصات الورق، أحملها في جيبي إلى كل مكان، وأحفظها فأحملها في صدري إلى كل مكان.. حاولتُ تذكُّر كل ما أحفظه له: ولكنني لم أستطع.. لعل حفظ أشعاره بروحي لم يكن سليماً، لعل روحي كانت مشغولةً وقتها بالنواح لا بالتذكر، لعل أشياءً كثيرة، ولكنني فقط لم أتذكر.. ووحيداً هكذا، واقفاً دون أشعاره وقصائده، غمرتني موجة الألم.. استخرجتُ بعض دواوينه، أردتُ أن أقرأ، ولكنني لم أستطع، لم أستطع أن أفعل شيئاً سوى أن أكتم الدموع في عيني: توقفي هنا تماماً.. توقفي فلن يُجدي البكاء في شيء، ولن ترحمه دموعي، ولن ترحمني أنا أيضاً.. الدموع ستكون فقط سؤالاً ممن حولي: ما الذي حدث؟!

وكيف أستطيع أن أقول لهم أنا أبكي على رحيل رجلٍ لم أقابله يوماً؟ كيف أقول لهم أنني أبكي على رحيل شاعر، فقط شاعر، مُجرَّد شاعر، شاعرٌ في زمنٍ تافهٍ انعكست فيه قيمة الأشياء، كيف أقول لهم أنني أبكي شاعراً وحسب؟ وكيف أستطيع أن أقول لهم بأن هذا الرجل البعيد، هذا الشاعر، يعني لي الكثير، يعني لي أكثر مما يعنيه بعض مَن هم حولي، أناسٌ أراهم أمامي ولا أقرأ كلماتهم فحسب، أشرب معهم القهوة ولا أقرأ عنها في قصائدهم، كيف أستطيع أن أقول لهم: هو بالنسبة لي أكثر، أكثر من كثيرٍ منكم، أكثر بكثير... وكيف تشرح لهم بأن رحيل هذا الرجل يؤلمك بعمقٍ حقيقي وأنت تدرك أنهم سيقولون لك: العالم غارقٌ في الحرب والقصف والموت، وأنت تبكي رحيل شاعر؟!

كيف كل هذا الصراع مع العالم من حولي؟ وماذا يجدي؟ وماذا تجدي الدموع؟ وماذا يجدي أي شيء أمام كل هذا الرحيل، كل هذا الفراق، كل هذا الألم...

الأحد، 10 أغسطس 2014

مع أبرز العناوين في الشأن الليبي...


كلما أردتُ كتابة أيِّ شيءٍ تافهٍ لأضعه على هذه المدونة الضائعة، أجد نفسي مُحرجاً لأنني لم أكتب شيئاً عن ليبيا... ميراث الجدود، البلاد التي وُلدتُ فيها (وأظنني مدفونٌ فيها من قبل أن أموت)، الجنسية التي لو لم أكنها لأردتُ أن أكونها (نكتة!)، الوَطَن، وأيضاً (لوِطْن)! بصراحة لن أعرف كيف أضعُ حركاتٍ على الكلمة لمنحها النطق البدوي الذي أصبح الجميع ينطقونها به بعد الثورة المباركة التي كانت ترفع شعار (لا للقبلية). سأعترف بأن الزمن الذي عشته أيام القذافي كان يفيض بالقبلية، ولكنني لم أسمع كلمة (وِطْن) مرةً واحدة، والآن أصبحتُ أسمعها في كل مكان...

وعلى أي حال: دائماً أجد جدار الوطنية يُغلق عليَّ الطريق إلى كتابة أي شيء آخر (غير وطني)... تريد أن تكتب عن حادثة مع جيرانك تُظهر مدى تمزق النسيج الاجتماعي وأن عزلتك عن الجميع ليست السبب الوحيد في ابتعادك عن الناس؟ اكتب أولاً عن مجلس النواب! تريد أن تكتب عن مدى الآلم الذي أحسست به لما يحدث في غزة، وتريد أن تكتب بصراحةٍ مؤلمة عن مدى الملل (أو ربما التشبُّع) الذي تحس به اليوم تجاه غزة؟ اكتب أولاً عن الحرب في طرابلس وفي بنغازي! تريد أن تكتب عن القراءة؟ عن الحياة؟ عن النفس؟ عن العقل؟ تريد أن تكتب أي شيءٍ تافهٍ عن أي شيءٍ تافه؟ اكتب أولاً شيئاً تافهاً عن ليبيا!!!

وحسناً... الكتابة (الوطنية) الإلزامية، ضريبة من الكلمة أدفعها للضمير على مضض لكي يسمح لي بالتفكير في كتابة شيء تافه دون ندم، وأقول التفكير لأنني في الحقيقة لا أكتب شيئاً حقاً... وعلى أي حال...