الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

مدينةٌ ضائعة...






أنا من مدينةٍ كانت فيما مضى.. حسناً.. مدينةٌ لم تكُن أبداً.. أعني لم تكُن يوماً شيئاً جديراً بالذكر؛ كل ما في الأمر أن كلَّ ماضٍ سنراه جميلاً ونحن نقف في حاضرٍ تعيس، حاضرٍ يفرض علينا النظر إلى الخلف كثيراً، النظر إلى زمنٍ كان هو أيضاً تعيساً، ولكن ربما لأنه بعيدٌ الآن فنحن لا نظن بأنه كان تعيساً، ربما لأننا دائماً لا نحتمل الألم الراهن، فنتصور بأن الألم السابق كان أخف وطأةً على أرواحنا، ربما لأنه دائماً من الأسهل أن نحلم بالعودة من أن نُفكِّر في متابعة المسير، ربما أشياءٌ كثيرة، وخلاصتها أن الماضي التعيس سيبقى دائماً في أعيننا أزهى وأجمل من أي حاضرٍ تعيس – وطوبى لمن أنساه حاضره تعاسة ماضية، بالألم أو بالفرح...

مدينتي – التي لا أمتلكها! – كانت مُجرَّد مدينةٍ صغيرةٍ تتوسع باستمرار. مدينةٌ لها طموحٌ أكبر من حجمها، ولعل هذا التوسع هو سبب ضياعها؟ ربما، لا أعلم، لكن مُجرَّد التفكير في أن كل الفرح، كل الأخلاق، كل الطيبة، كل الخير، كل الجمال، كل الحياة حين تتمدد أكثر وأكثر فإنها تُصبح أقل كثافةً، أعني تفقد قوة نسيجها، تتمدد وتصبح رفيعةً جداً وقابلةً جداً للتمزق بكل سهولة. ولعل هذا ما حدث حين حاولت المدينة أن تتمدد لتسع وطناً كاملاً، فتمزقت وتمزقت وتمزقت... هي الآن بقايا مدينة، بقايا ماضٍ تعيسٍ جميل.

كانت المدينة عاصمة التمرد في بلادنا، وكانت عاصمةً ثقافية، وكانت عاصمة الحراك السياسي، وكانت عاصمة التقاء كل العقول: الأصيلة بلباسها البدوي المهيب، والحديثة ببذلها الأجنبية الذكية. لم يكن من فراغٍ أن لُقِّبت المدينة "رَبَّايَةَ الذَّايح" مُربِّية المسافر أو النازح أو الغريب أو التائه، أو كل ذلك مجتمعاً، فالمدينة كانت أيضاً عاصمة الاحتضان، عاصمة الاحتواء، عاصمة الأمومة في هذا الوطن... لعل هذا ما منحها كل صفاتها، لعل هذا ما جعل الكثير من الناس يَصفونها بأنها "قلب البلاد النابض"، فكل "ذايحٍ" غريبٍ هو إنسانٌ يبحث عن حياة، وهذه المدينة – كما وصفها أحد الكتاب – "لم تخذل أحداً من قبل"، منحت الحياة مرةً تلو الأخرى.. فهل جفت منابعها؟ هل استنزفت كل حياتها في سبيل الجميع؟ هل بذلت كل شيء في سبيل.. لا أعلم في سبيل ماذا، لا أعلم، كل ما أعلمه أن المدينة لم يبقَ فيها شيء...

كاتبٌ آخر من هذه المدينة، كاتبٌ رائعٌ ارتبط بالمدينة وكأنه كان دماً يجري في عروقها كما كانت هي تجري في عروقه، أذكر أنه تحدث عن الارتباط بالمكان، بأن هذا ليس شيئاً حقيقياً، نحن لا نرتبط بترابٍ وشوارع ومبانٍ، نحن نرتبط بالآخرين، نُحب المدينة لأنها تُحب من نُحبهم، ولأن من نُحبهم يُحبوننا فيها ونحبهم فيها. ولأجل ذلك أقول بأن المدينة لم يبقَ فيها شيء، لأننا لم نعد نستطيع أن نحب بعضنا البعض فيها، لم نعُد نستطيع أن نفعل أي شيءٍ فيها سوى الاستمرار في الوجود في داخلها، الوجود في داخل حصنٍ آمنٍ وقع تحت الحصار، تناقصت فيه مؤن المشاعر الإنسانية، تفشت فيه أمراض الحقد والأنانية، حصنٌ أصبح سجناً، بل أصبح قبراً جماعياً كبيراً يختبئ فيه الموتى في بيوتهم، يخرجون في "لحظات" الهدنة لشراء الخبز، يُسرعون عبر الشوارع المليئة بأسراب الرصاص ليزوروا بيتاً هنا أو هناك، ثم يهرعون عائدين إلى بيوتهم الآمنة، وفوق كل شيء، لا يتحدث الموتى مع بعضهم البعض، لا يتجادلون في السياسة، لا يتناقشون في الأيديولوجيا، ولا يسألون حتى عن الأخبار، فهم يسمعونها طوال اليوم تنفجر في أرجاء المدينة "على الهواء مباشرةً"... لقد أدركنا جميعاً حقيقة بعضنا البعض، وأصبحنا نَفِرُّ من بعضنا البعض بالصمت...

وهذه هي قمة المأساة.. فهذه المدينة التي أصبحت مقبرة لا يعيش فيها فقط الموتى، بل يعيش فيها أيضاً القتلة...

كنا نفخر كل الفخر بأن أهل المدينة مشهورون بالصفة الحميدة النبيلة تلو الأخرى، فماذا نفعل الآن بكل هذا العار وكل هذا الخجل؟! ماذا نقول حين يحارب الأخ أخيه؟ حين يقتل أبناء العمومة بعضهم بعضاً؟ حين يحرق الجيران بيوت بعضهم البعض؟ ماذا نقول حين تنتشر الجثث ويغزو المدينة ذباب الموتى، ماذا نقول عن "رباية الذايح" التي أصبحت تحتضن الجثث والموت والدماء؟ أين نهرب من أنفسنا اليوم؟ أين نهرب من حاضرنا؟ وأين نُخفي ماضينا الذي اتضح أنه كله كذبٌ في كذب، كله خداع، كله أوهام، لا أخلاق، ولا نبالة، ولا ثقافة، ولا احتضان، ولا رُقي، ولا شيء، مُجرَّدُ حُلُمٍ خيالي عن وهمٍ قديم: كانت مدينتنا... لا، لم تكن مدينتنا شيئاً، لم تكن مدينتنا شيئاً فهاهي اليوم تحترق، هاهي اليوم يسير الرعب في أرجائها ويُغلق المساجد والمدارس والمستشفيات بالموت الأحمر، ويحرق البيوت في طريقه لإشعال فتيل قنبلةٍ أهلية، مأساةٍ اجتماعية، كارثةٍ إدراكية كشفت حقيقة أهل هذه المدينة، وكشفت حقيقة تراب المدينة الذي يُزرع كل يومٍ بأظرف الرصاص الفارغة ويُسقى بدماء أبناء هذه المدينة... فهل ستُنبتُ هذه البذور مستقبلاً مُشرقاً؟! أم أنها ستُنبتُ مقبرة؟!

أنا من مدينةٍ لم تكن، ويبدو أنها لن تكون في يومٍ من الأيام...

أنا من بنغازي...

الثلاثاء 18-11-2014   

السبت، 22 نوفمبر 2014

اشتياق...


منذ فترة التقيتُ في الشارع بابن عمي. ليس لدينا الكثير لنتحدث عنه ولذلك بعد الأسئلة المعتادة عن الأهل والأحوال العامة سألته عن (بكرج)، المقهى الرائع الذي اشتهر أكثر مما يجب وازدحم أكثر مما يجب. كنتُ سابقاً قد التقيتُ بابن عمي هذا عدة مرات في بكرج، ولكنني لم أزره منذ فترةٍ طويلة وكنتُ قد سافرتُ قليلاً ولم أكن أتحرك كثيراً في تلك الفترة... سألتُ ابن عمي سؤالاً مُحدداً جداً: "إلى متى يبقى بكرج مفتوحاً هذه الأيام؟" ورد ابن عمي بأريحية: "أوه، أنه يبقى مفتوحاً إلى وقت متأخر، العاشرة وحتى الحادية عشر ليلاً..." كانت في نبرته لمحة مباهاة، أو شيء من هذا القبيل، لا أعلم هل كان ذلك انعكاساً لشعوره بأنه يُجاوب على سؤالٍ إجابة شخصٍ عارف، أم كان انعكاساً لظنه أن العاشرة والحادية عشر أوقات متأخرة... شيءٌ جديد آخرٌ تكسَّر في داخلي وتساقط فوق ركامٍ من حطام الأشياء المفقودة...

لماذا؟ ببساطة لأن الوقت المتأخر كان الثانية وحتى الثالثة صباحاً... وليس العاشرة...

لن أُنكر بأن الأمر لم يكن اعتيادياً، ولن أُنكر أيضاً أنه لولا تواجد زياد بن حليم رحمه الله – صاحب المقهى – معنا لما كان باستطاعتنا أن نُبقي بضعة أضواء مفتوحة ونتمسك بطاولة وكراسٍ! كان استقواءً بصاحب الرزق! ولكنه كان شيئاً عادياً يحدث في نهاية الليلة: تعرف الكثيرين في المقهى وتتنقل بين عدة طاولات، وشيئاً فشيئاً يبدأ رواد المقهى في الرحيل، وتبدأ مجموعةٌ منا في الانجذاب تلقائياً نحو بعضنا البعض، تشدنا مغناطيسية الطاولة، ومغناطيسية زياد رحمة الله عليه أيضاً (كم كان إنساناً رائعاً...) يرحل الجميع، تُطفأ الأضواء إلا واحداً أو اثنين، تُجمع الطاولات والكراسي إلا طاولتنا وكراسينا، ويُسلَّم كل شيءٍ لزياد... ونبقى... للواحدة، الثانية، الثالثة صباحاً... ثم نرحل، مستغلين كل خطوة إلى خارج المقهى في إنهاء نقاشٍ سياسي، أو في ختام الليلة بمزاحٍ مع بعضنا البعض، وقبل أن ينتهي كل شيء نسأل بعضنا البعض "معك سيارة؟" وتُختم الليلة بالوداعات...

كان شيئاً عادياً يحدث...

وفي أحد الأيام، خُطف شابٌ بعد أن غادر المقهى. كاميرات مراقبة في الجوار كشفت أن من خطفوه كانوا ينتظرونه أمام المقهى قرابة الساعة. سيارتان تقريباً، وتركوا سيارته كما هي، مفتاحها فيها، موسيقا مفتوحة. عاد الشاب سالماً لأهله بعد دفع فدية. لكن، منذ تلك الليلة تغير كل شيء... حضرتُ الجلسة التي تحدثوا فيها عن الأمر في المقهى، أخ زياد رحمه الله – والذي استلم إدارة المقهى – كان متضايقاً جداً، كلنا كنا نشعر بالضيق. ما الحل؟ لم يكن هنالك حل، وما أن اقترح أحدهم البدء في إغلاق المقهى مبكراً، حتى وافق الجميع. وأصبح (بكرج) يُغلق الساعة العاشرة وحتى الحادية عشر ليلاً...

والحقيقة أنني لا أستطيع أن أقول بأن هذا وقتٌ مبكر، بمعايير تلك الفترة، كانت بنغازي كلها تُنطفئ بعد الساعة الثامنة...

اليوم مقهى بكرج مُغلق بسبب الحرب... المنطقة كلها مغلقة بسبب الحرب، سكانها أُرغموا على النزوح ومغادرة بيوتهم. موتٌ كثيرٌ ودمارٌ كثير جديرٌ بأن يجعل هذا النزوح إكراهاً... بنغازي كلها مغلقة اليوم.

يقولون الأوضاع في تحسن، الجيش ومؤيديه يقتربون من حسم المعركة. ينشر البعض صوراً لمفترق طرقٍ هنا أو هناك، صوراً لمحلات، صوراً لازدحامٍ مروري. تؤلمني هذه الصور، لأنها تبعثُ في أملاً كبيراً سُرعان ما يتلاشى... بنغازي مدينةٌ صغيرة، كيف تنشر صورةً لطريق فينيسا مدعياً بأن كل شيء بخير، وعلى مرمى حجر بلعون تحترق؟! كيف تنشر صوراً من بوهديمة وعلى بعد كيلومترين أو ثلاثة مناطق الهواري والليثي وطريق النهر التي تربط بينهن جميعاً؟ كيف تنشر صوراً لشارع عمرو بن العاص وسط المدينة، وتفرعاته تقود إلى سوق الحوت والصابري؟! نعم، نحتاج لبعض الأمل، ونعم هذه الصور تُسعدنا، ولكن هنالك حدٌّ لقدرتنا على خداع أنفسنا... كل ما أعنيه هو أن ألم ما ضاع ويضيع لن تشفيه صورٌ مخطوفة وأخبارٌ متضاربة...

قريباً قد يتغير كل شيء.. لا أظن أنه يمكن للوضع أن يتغير إلى الأسوأ! إما أن يستمر كما هو، وقد نكاد نعتاده، أو يتغير لوضعٍ أفضل ولو لم يخلُ من سوء...

ما أكاد أجزم به هو أن بنغازي التي يعذبنا الاشتياق لها لن تعود... وسنبقى نشتاق لها أبد الدهر... سيبقى منها غيابها...


لم أكتب منذ فترة، ولا أعلم لماذا أكتب أو ماذا أكتب، أردتُ فقط أن أكتب أي شيء. والشوق في المعاجم العربية هو نزاعُ النفس إلى الشيء بالاشتياق... والنزع هو الاقتلاعُ بشدة... نزعني الشوق إلى بنغازي من شللي لأكتب عنها ولو بضعة كلماتٍ تافهة...

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

حلقة الانتقام المفرغة: الظلام يلد نفسه...




سنُعذِّبكَ،
ثم نقتلكَ،
ونضحك.
وسيقتلوننا
ويضحك آخرون.
نحن كبارٌ في السن
وقساةٌ بما يكفي،
ولذا لا نبالي.
كلُّ شيءٍ صادقٌ حتى الكذب
كلُّ شيءٍ كاذبٌ حتى الصدق...
إنه الظلام يَلِد نفسه!

إيوان كارايون.
ترجمة: طلعت الشايب.

الخطوة الأولى للخروج من حلقة مفرغة...




الأمر يحدث من جديد... على مراحلٍ متفرقة، وفي اتجاهاتٍ مختلفة، ولكننا ندور في نفس الحلقة...

ما الذي يحدث؟ الانتقام، شيءٌ عادي، الإقصاء، الفاشية، التهميش، إلخ... كل هذا يحدث من جديد، ولكن هذه المرة يحدث لعدة أسباب، ولعدة فئات، ولعل هذا سبب وضوح بشاعته أمامنا اليوم، فبالأمس كان أغلبنا يقفون مع الفئة الغالبة، مع من يُمارسون الانتقام، بالأمس كنا نصطاد الأزلام، ونُقصي الناس بناءً على أسمائهم وقبائلهم ومُدنهم، نحرق بيوت بعضهم، ونقتل آخرين، ونُهجِّر من ينجو من نيراننا ورصاصنا... بالأمس كنا جميعاً نقف في صفٍ واحد، نمارس الانتقام متحدين، نمارس الفاشية بلحمةٍ وطنية! فلم يكن الأمر يبدو بشعاً حينها، بل كان يبدو بكل أُبهة وجمال الوطنية! ولكن اليوم اختلف الأمر، اليوم انقسمنا في ممارسة هذا الانتقام، ومن يأخذ خطوةً للوراء سيتمكن من رؤية بشاعة كل المنتقمين، وسيتمكن من رؤية بشاعته هو نفسه...

في بنغازي بدأ الأمر بالانتقام من الأزلام، ثم انتقلت الغلبة للفوضى - للجريمة والإرهاب – ليبدأ الانتقام من رجال الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والنشطاء على مختلف مشاربهم (سياسيون، حقوقيون، إنسانيون...)، والآن يبدو واضحاً في الأفق بأن دورة الانتقام ستنتقل مع انتقال الغلبة، وسوف تبدأ سلسلة جديدة من الانتقام من مؤيدي أنصار الشريعة ومجلس شورى ثوار بنغازي، وحتى وإن قلنا بأنه قانونياً تجب ملاحقة المتورطين، فإنه لا يمكن بأي قانون ملاحقة غير المتورطين، ولو كانوا مؤيدين أو يميلون بآرائهم لتلك الأطراف، ولكن الانتقام ليس عدالةً قانونية! سوف نأخذ المؤيد بجريرة المتورط، وسوف نتهم أي شخص كان ثائراً في يومٍ من الأيام بأنه مؤيدٌ أو حتى متورط، ولن ننسى التوجس من مؤيدي الإسلام السياسي أو حتى الفكر الإسلامي، وسوف تستمر الحلقة الانتقامية، سوف تنتقل بانتقال الغلبة من طرفٍ لآخر... كذلك الأمر في طرابلس، نراه اليوم واضحاً، فبعد أن طال "الأزلام" فترةً من الزمن، واستمر يطالهم، بدأ الصراع الانتقامي بين الأطراف المتنازعة على السلطة حين كانت الغلبة غير واضحة وكان الانتقام يمارس بالتساوي بينهم، ولكن الآن بعد أن استقرت الغلبة لطرفٍ معين أصبح الانتقام مُحتكَراً من قِبل هذا الطرف. وسيستمر الأمر هكذا، إلى أن تنتقل الغلبة من جديد وتُسلِّم شعلة الانتقام لطرفٍ آخر...

والانتقام لا يعرف شيئاً سوى الدمار، أعني أنه لا يعرف ما هي الديمقراطية، لا يعرف ما هي حرية التعبير، لا يعرف ما هي الحقوق الإنسانية، الانتقام لا يعرف حتى القانون، كل ما يعرفه أنك إن لم تكن معه فأنت يجب أن تكون في السجن أو المقبرة. جميعنا رأينا الأمر يحدث في مصر... فرحنا بدايةً بإزالة الحكم الإخواني الفاشل، ولكن سرعان ما انقلبت فرحتنا فزعاً بسبب مبالغة الجيش في الانتقام. وهي مبالغة اعتنقت الفاشية بكل صراحة، وانطلقت تقمع وتسجن يميناً وشمالاً، راميةً بعرض الحائط كل الخطابات والوعود عن الحفاظ على الديمقراطية والحرية، وهذه الفاشية في حد ذاتها ساعدت في خلق المزيد من الإرهاب، والإرهاب أو الجرائم الدينية والوطنية، دائماً تجد مبرراتها في الفاشية والاستبداد – الأمر مجرد حلقة مفرغة من الظلم. ولكن، ما حدث في مصر لا يمكن أن يحدث في ليبيا، فالغلبة عندنا لا يمكنها الآن أن تحقق على نطاق وطني شامل، أعني أنه لا يوجد طرف يستطيع السيطرة على البلاد كلها وممارسة انتقامه من الحدود إلى الحدود، وإنما فقط كل طرف يمارس انتقامه في حدود سيطرته الضيقة، على مدينة واحدة أو بضعة مدن وحسب. وهذا الانتقام، مع الغلبة، بلا شك سيخلق إرهاباً مُبرَّراً في أعين مرتكبيه. فكما كانت اغتيالات وتفجيرات رجال الأمن والجيش والنشطاء في بنغازي مُبرَّرة طيلة الفترة الماضية في أعين مرتكبيها ومؤيديهم، فنحن نرى اليوم الفوضى والاغتيالات واقتحام البيوت وحرقها ضد الطرف الآخر قد أصبحت تجد من يبررها! وإن تحققت غلبة قوات الجيش والقوات الموالية لها ومؤيديهم في بنغازي، فلا أشك للحظة بأن هذه الانتقامات سوف تستمر، وسوف تعود معها الاغتيالات والتفجيرات ضد رجال الجيش والأمن والنشطاء من جديد، وسوف ندور في دوامة من تبرير الإرهاب من طرف وتبرير القمع من طرف آخر – حلقة مفرغة من الظلم! وواقع أن هذه الغلبة الانتقامية ليست شاملة، كما ذكرنا، يجعل من الأمر أسوأ وأسوأ؛ لأن الحساسيات المرتبطة بالمدن والقبائل أصبحت اليوم أكثر وضوحاً، بل أكثر صراحةً ووقاحة! أصبحت لدينا مدن إرهاب! ومدن أزلام!

ونتذكر تصنيفاتنا السابقة، بنفس هذا المنطق، أيام الثورة، ونخجل خجلاً عميقاً من أنفسنا...

وما فائدة كل هذا الكلام؟ فائدته عقيمة حسبما تقول ذاكرتنا الضعيفة، ففائدة هذا الكلام الوحيدة هي فقط التذكير بحتمية هذه الحلقة المفرغة، التذكير بحتمية دورة الانتقام... لعل التذكير بحتمية كل ذلك يدفعنا للتريث قليلاً في انتقامنا من بعضنا البعض، لعل التذكير بذلك يدفعنا للتفكير في المستقبل، للتفكير في كل العداءات التي ستتوارثها المجتمعات المتداخلة بين المدن، القبائل، الجيران، العائلات، الأصدقاء، الزملاء، كل تلك العلاقات الاجتماعية التي سوف تُحقن بعداءات وأحقاد جديدة، نضيفها لكل أحقاد فترة الاحتلال الإيطالي، وكل أحقاد فترة حكم القذافي، وكل أحقاد الثورة، والآن: كل أحقاد هذه الحروب الأهلية... لعل التذكير بذلك يدفعنا لتذكر المستقبل، وضرورة عدم إقصاء الآخر وضرورة إبقاء باب الحوار والاحتواء مفتوحاً على الدوام، وإغلاق باب الفاشية الإقصائية... لعل التذكير بكل ذلك يدفعنا لتقديم عقلانية وعدالة القانون على جنون وفوضى الانتقام... لعلنا فقط، حين نتذكر كل ذلك نتريث قليلاً، نأخذ نفساً عميقاً، ونقول: حسناً، لنكمل المشوار وأعيننا على بناء المستقبل، وليست فقط على الانتصار في الحاضر... ولعل ذلك أيضاً يدفعنا لمراجعة أنفسنا وتصرفاتنا السابقة، مراجعة كل تعصباتنا، كل ممارساتنا الانتقامية، كل أفكارنا الفاشية، لندرك أن الكثير من أفعالنا أثناء الثورة وبعد انتصارنا كانت خطايا انتقامية... بل ربما تكون هذه هي الفائدة الوحيدة لكل هذا الكلام: مراجعة أنفسنا، إدراك خطايانا الثورية-الوطنية، الاعتراف بذنوبنا، والاعتذار أولاً عن كل ما سبق... ربما هذه هي الفائدة الوحيدة، وهي بلا شك الخطوة الأولى.

الاثنين، 20 أكتوبر 2014

إنسانيتنا الضائعة: اتهامٌ باطل؟ أم واقعٌ راهن؟


منذ فترة انتشر خلافٌ ثقافي/اجتماعي في الأوساط الإعلامية والإنترنتية الغربية، الخلاف لا يمكن اختصاره بالقول بأنه كان بين المسلمين وغير المسلمين، ولكنه كان بين فئات من الطرفين، وبلا شك هنالك مسلمون أيدوا الطرف الآخر، وغير مسلمين أيدوا الطرف المقابل. الخلاف بدأ بسبب داعش وما جنته على الإسلام والمسلمين من تشويه في الفترة الأخيرة، وحشية أعمال داعش، التي تمارسها باسم الإسلام، كان من الطبيعي أن تُثير فزع غير المسلمين، خاصةً في الغرب الذي كثيراً ما تتوعده داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية (والإسلامية المتطرفة). كل هذا أدى إلى ظهور حاجة ماسة لتبرئة الإسلام والمسلمين من تصرفات داعش الوحشية هذه. ومن هنا بدأ تسلسل الخلاف.

بصراحة، لم أُتابع تطور الأحداث بشكل دقيق، ولكن مرت علي عدة مراحل لعلها تكون مراحل تطور هذا الأمر.

المرحلة الأولى كانت، طبيعياً، هي مرحلة إدانة المسلمين لهذه الأعمال، كثيرون أكدوا بأن ما يحدث لا علاقة له بالإسلام والمسلمين، وبإنه لا يحدث بموافقة المسلمين. ولعل هذه الخطوة الأولى كانت الدافع وراء ظهور حملة واسعة تُطالب كل المسلمين بإدانة داعش. وهنا بدأت المشكلة. الأمر ليس مثل المطالبة بتبرئة الإسلام من هذه الأعمال، هذا عمل فكري وجدلي وتصدر له الكثير من العلماء والدعاة، ولكن المشكلة هنا هي في سطحية مطلب إدانة المسلمين لداعش، فبينما تبرئة الإسلام من داعش عمل له أعماق إنسانية ودينية وفكرية، فإن المطالبة الصريحة، قبل كل شيء، بأن يكون أول ما يخرج من فمك بخصوص داعش هو إدانتهم، وكأن ذلك سيؤكد للآخرين بأنك مسلمٌ طيب، هذا الأمر الذي يكشف عن التعصب ضد المسلمين والخوف منهم، وبالتالي يكشف عن الجهل الذي دائماً ما يُسارع ليسبق الفهم والتفهم بالخوف والكره والتعصب، هذا الأمر كان المشكلة في المسألة كلها. هذه الموجة العارمة من الجهل الذي اعتبر كل المسلمين شركاءً في جرائم داعش إلى أن تثبت براءتهم! واعتبر أنه من الضروري على المسلم، من قبل أن يُلقي التحية، أن يقول أنا أُدين جرائم داعش! ثم يمكنه أن يقول هالو أو جود مورنينج! هذه الظاهرة التي انتشرت بسرعة كبيرة – كما هي حالة الجهل الوبائية! – أدت إلى ظهور ردتي فعل، إحداهما ساخرة ومضحكة، والأخرى جادة.

الخميس، 9 أكتوبر 2014

بنغازي المُحيِّرة...


بنغازي اشتهرت على مر السنين بعدة صفات... بداياتها كمرفأ تجاري حط فيه الكثيرون رحالهم أكسبتها لقب (رباية الذايح) الذي مازال لقبها الأبرز.. شقاوتها المستمرة على الدوام جعلتها شهيرةً بأنها مدينةٌ متمردة، سواءً في عهد الملك، أو في عهد القذافي، أو في العهد المظلم ما بعد انفجار الثورة (فتماماً كالانفجار، بعد ومضة الضوء الأولى الباهرة، ينطفئ كل شيء...)، بل إن تمردها ذاك – إبان الثورة سنة 2011 – جعلها من أشهر المدن الثائرة في المنطقة، وربما حتى في العالم.. كثرة كتابها وشعرائها جعلتها تشتهر بأنها من مدن ليبيا الثقافية.. انهيارها الحالي جعلها أيضاً تشتهر بأنها مدينةٌ أعطت الكثير وفي المقابل تخلى عنها الجميع... ومازالتُ تعطي الكثير، مازالت تُقدِّم أبناءها وبناتها قرابيناً على مذبح المستقبل... فهل سيبقى كل ما تلقاه هو الدم والدموع؟ لا أعلم... ولا أظن بأن أحداً ما يهتم...

وهذه الحيرة هي صفةٌ جديدة لعله يجب إضافتها لصفات هذه المدينة...

بصرف النظر عن كل الحيرة التي تُحيط بأوضاع ليبيا عامةً، فإن أخبار بنغازي الأخيرة لعلها تكون أكثرها حيرةً... القتال محتدمٌ بشكلٍّ رهيب، أصوات المدفعية، وأصوات الطيران الحربي، وأعداد القتلى، الجثث المنتشرة في المدينة (يجدها الناس على قارعة الطريق، وتنهشها الكلاب، وكأنها – للأسف – مجرد قمامة)، والاغتيالات أيضاً (التي شهدت ارتفاعاً مُفجعاً في الفترة الماضية) كل شيء بدأ يتضخم في الفترة الأخيرة... ولكننا لا نعرف شيئاً! لا توجد أي جهة رسمية أو فقط موضوعية في المدينة تُوفِّر لنا أخباراً واضحة، لا يوجد شيء في المدينة، باستثناء بعض المستشفيات التي تنشر تقاريراً مُلطخةً بالدماء عن أعداد القتلى والجرحى، وشركة الكهرباء التي تحاول جاهدةً الحفاظ على بعض الأضواء في المدينة (التي ليست أضواء القصف...)، وربما أيضاً الهلال الأحمر الذي يكاد ينحصر دوره في انتشال الجثث... من يقصف؟ من يهاجم؟ من يدافع؟ من يسيطر؟ من يتراجع؟ لا نعرف شيئاً... وإذا حاولت متابعة (إعلام المواطنين) على مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، فسوف تُصاب بالدوار من كثرة تبادل الطرفين لكلمات: المجاهدين، الأبطال، الشهداء، النصر، سحق، تدمير، انسحاب، فرار، صد... وقد تُصاب بنوبةٍ جنونٍ خفيفة، ربما جلطةٌ مُصغَّرةٌ عابرة، من كثرة الشائعات التي تكاد تجزم بأنها جزءٌ من الحرب: السيطرة على المطار من قبل قوات مجلس شورى ثوار بنغازي، دحر قوات مجلس شورى بنغازي من قبل الجيش وإخراجهم من منطقة بنينا بالكامل، تعزيزات، نقص، انسحاب، سحق، موت فلان، جرح فلان، تفجيرات... عشرات (الأخبار) التي تشك في أن الجميع يجلبونها (كما يقول المثل الإنجليزي)  من مؤخراتهم! نعم، إنه مثلٌ سخيف، ولكن الأمر ذاته سخيف وتجاوز الحدود المنطقية للتخمين أو لتناقل أنصاف حقائق وأخبار غير واضحة، الأمر أصبح كذباً واضحاً لا يؤدي أي وظيفة سوى إصابتك بالحيرة...

إنها حيرة الوضع الذي يتغير تدريجياً دون أن نلاحظه، الحياة مستمرة، مستمرة رغماً عن أنوفنا، تضطر للخروج، تضطر لقضاء أعمال، تضطر لفعل كل شيء، لأن الحياة لا تهتم بنا، وتستمر رغماً عن أنوفنا! وهذا يجعلنا نتغافل عما يحدث، نتجاهل أصوات القصف، ونتجاهل أصوات الرصاص، نتجاهل الجثث في الشوارع، نقفز عبر بِرك الدماء لنصل إلى الجانب الآخر، الجانب الآخر من نفس الشارع في نفس المدينة في نفس البلاد في نفس القارة على نفس الكوكب، نحن لم نغادر، نقفز في مكاننا، ولكن عقولنا ربما تغادر، تنسى، تتجاهل، وأعيننا بلا شك تغادر، بلا أدنى شك، عيوننا وآذاننا وكل حواسنا تغادرنا، لتعود لنا فجأةً في لحظة إدراك وتجعلنا نتساءل عن آخر التطورات في الحرب؟ ما الذي حدث؟ من يفوز؟ من يخسر؟ حسناً، نحن لا نفوز ونحن نخسر! ولكن من يتقاتلون، أسباب خسارتنا نحن، من يفوز ومن يخسر منهم؟! ولا تفهم شيئاً، ولا تعرف شيئاً، وكل ما تنقله الأخبار هو عن أشخاص بعيدون كل البُعد عن واقعنا، يتحدثون ويُصرِّحون ويلتقون ويجتمعون ويسافرون، والناس تتفاءل بكلامهم وتتشاءم به، ويا إلهي كم هم بعيدون عن واقعنا! ماذا تفيد المجالس والقرارات والاجتماعات والزيارات والمؤتمرات التي يعقدها أشخاصٌ لا ناقةٌ لهم ولا جمل بما يحدث؟! الأمر أشبه بفتح باب الحوار وعقد مفاوضات سلام بين السويد والإكوادور بسبب الأزمة الدائرة في أوكرانيا! كل إضافة جديدة للمعادلة الحالية تزيد من حيرتنا، تُطيل المعادلة، دون نتيجة.

لا أفهم بالضبط ما الذي يحدث في بنغازي، ولا أعرف كيف ستنهتي هذه المشكلة، ولا ماذا سيفعل أحد حالياً، ولا أعرف ماذا سيحدث إذا انتهت هذه المعركة بفوز أحد الطرفين، كل شيء مُظلم، كل شيء غامض... كل ما أعرفه هو أن أصوات الناس تغيرت.. أصوات الناس تبدو خاليةً من الحياة، كل من أقابله وأتحدث معه أجد نبرته مختلفة، وهذا يؤلمني، يؤلمني كثيراً.. أن يتغير صوت شخصٍ لطالما كان متفائلاً ليصبح صوت شخصٍ أصابه الملل من أصوات القصف، لا يعد يقول لك بأن الأمور يجب أن تتغير ولا يمكنها أن تستمر هكذا، ولكن يقول لك أن القصف مستمر، أن الطائرات اليوم حلقت فوق هذه المنطقة، أن أصوات القتال في الليل كانت عالية.. أن يتغير صوت شخصٍ عنيد، شخص مليء بالحياة، ويصبح صوته منهزماً، أن تسقط الكلمات من فمه بحزن بدلاً من أن تُحلِّق بشجاعة، لا يحدثك عن البقاء والتحدي ولا يتمنى لجميع من يُفسدون المدينة رحلةً طيبةً إلى الجحيم، ولكنه فقط يتحدث بجدية عن إمكانية السفر ويحاول حساب الأمر وتكاليفه وإجراءاته.. أن يتغير صوت شخصٍ نشيطٍ مثابرٍ حريصٍ دائماً على العمل، ويصبح صوت شخصٍ حريصٍ عل الصمت، فلا يُحدِّثك عن آخر المشاريع، لا يقترح عليك الانضمام لهذا الأمر أم ذاك، لا يقترح أفكاراً ويطلب منك أفكاراً، ولكن يتذكر معك أشخاصاً ماتوا، يترحم عليهم، ويصمت، ربما لأن ضميره لا يسمح له بشتم الجميع وبالاعتراف بأن عمله كله ذهب هباءً... فقط يصمت، يصمت طيلة طريقه إلى المطار، وفي الطائرة، وبعد أن ينزل إلى بلادٍ أخرى يبحث فيها عن أي عمل لأجل نفسه فقط...

أصوات الناس تغيرت، نفسياتهم ومشاعرهم تغيرت، أرواحهم تغيرت... فماذا كانت بنغازي إلا أرواح أهلها المتفائلة الشجاعة العنيدة والمتمردة؟ ماذا كانت بنغازي إلا أرواح أهلها الكريمة العزيزة الطيبة والمتكبرة أيضاً؟ ماذا كانت بنغازي إلا أهلها؟ فماذا يحدث إن بدأت أرواح أهلها تذبل؟ ماذا يحدث، إن لم يكفنا موت أبنائها وبناتها، وأمسى الأحياء منهم يموتون على قيد الحياة؟

هل مازالت بنغازي موجودة؟


الحيرة... الحيرة موجودة...

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

القبض على عمر المختار: لم يستسلم...



بطل إلى النهاية.

 عمر المختار أسيراً في البارجة الحربية الإيطالية التي نقلته من سوسة إلى بنغازي ما بين 11 و12 سبتمبر 1931.

في هذا اليوم، 16 سبتمبر، الذي يوافق ذكرى استشهاد أسد الصحراء سيدي عمر المختار شيخ الشهداء، ولأنني – للأسف – تكاسلت وانشغلت عن تجهيز موضوع أكبر وأفضل تكريماً لذكراه، فقد رأيتُ (في الوقت بدل الضائع!) أن تكون لي مساهمة، ولو كانت بسيطة وغير منظمة وعل عجالة، ولكنني أراها مهمة. تصحيح تاريخي عابر لمعلومة تاريخية مغلوطة قد تكون مشهورةً أكثر من الحقيقة.

هذه المعلومة هي فيما يتعلق بحادثة القبض على عمر المختار رحمه الله. وبداية هذا الحديث لابد أن تبدأ من عند فيلم (أسد الصحراء) الذي تناول جزءاً من سيرة عمر المختار.


فيلم عمر المختار فيلمٌ رائعٌ جداً، لا جدال في ذلك. لقد أبدع المخرج الراحل مصطفى العقاد في إنتاج هذا الفيلم، وجمع له بعض أبرز نجوم هوليود: أنثوني كوين، أوليفر ريد، أيرين باباس، جون جيلجود، رود ستايجر! كل هؤلاء يجتمعون لتمثيل فيلم عن ليبيا! هذا أمر لن يتوقف عن إصابتي بالدهشة! لقد تعرَّف العالم على شعبٍ غائبٍ ومُغيَّب، وتعرف عليه في إحدى أبهى صوره، وهي صورة المقاومة الإنسانية للظلم، تلك التجربة الإنسانية التي تربط بين البشرية كلها، التي طالما اضطرت عبر التاريخ لمواجهة الظلم. وفي هذا الصدد يجب على أي شخص موضوعي أن يعترف بأن فضل خروج هذا الفيلم إلى حيز الوجود يعود إلى معمر القذافي! نعم، نعم، إنها إبرة (حسنة) واحدة دقيقة في كومة قش عظيمة من (السيئات)! ولكنني هنا لستُ بصدد مدح معمر القذافي، وإنما أنا بصدد ذمه! فحتى هذه الفضيلة النادرة قد اختلطت بفضيحة من فضائحه الاستبدادية النرجسية...

الخميس، 28 أغسطس 2014

هروب...

حسناً، أريد فقط أن أكتب أي شيء... لا أعلم...

بالأمس تقريباً، بالأمس خرجتُ على عادتي متجهاً نحو أحد أصدقائي الأعزاء، وربما الصديق الوحيد الحقيقي في حياتي! صديق عزيز لا أعرف اسمه ولا يعرف اسمي، صديق يعرف فقط أنني أشتري ثلاث علب سجائر كل يوم (علبتين بعد ارتفاع الأسعار!): بائع السجائر في ذلك الكشك الصغير من الصفيح. انطلقتُ في تلك الرحلة، مُدخناً آخر سيجارةٍ عندي براحةٍ نفسيةٍ عميقة! عما قريب سأُعوِّضها أضعافاً مُضاعَفة! في الطريق مررتُ على طفلين صغيرين، كانا يتحدثان مع بعضهما البعض بحدة، لم أسمع ما قاله أحدهما للآخر، ولكنني أتذكر أن تعابير وجه الطفل المُتلقي قد تغيرت فوراً وبشكلٍ عجيب! فوراً احمَّر وجهه، وبدا وكأنه سينفجر بكاءً!

وبدأت المعركة!

التحما ببعضهما البعض، وبدأ يتصارعان، لم أهتم بالموضوع كثيراً في البدء: مجرد (عركة) أخرى في الشارع. ثم فجأةً أسقط أحدهما الآخر، وبدأ ينهال عليه باللكمات! لقد أفزعني الأمر: المشهد كان كمباريات فنون القتال المختلطة MMA!

هذا الأسلوب اسمه Ground and Pound يعني تقريباً: اطرحه أرضاً واطحنه! الصورة مشابهة تماماً لما رأيته، الأحجام أصغر فقط!

تدخلتُ حينها، قمتُ برفع الطفل المنهال باللكمات على الطفل الآخر، وأنا أقول لهما: "خلاص، خلاص..." حملتُ الطفل إلى الخلف قليلاً، ولم أنتبه للطفل الآخر الذي تحرر حينها، في تلك اللحظة قال لي الطفل الذي حملته: "نبي البطاطا متاعي..." لم أفهم ما يعنيه في البداية، حين التفتُ إلى اتجاه نظره، رأيتُ كيساً من البطاطا (بطاطس؟ تشبيس؟ المهم...) على الأرض، ركله الطفل الآخر، وقال له: "خوذها البطاطا متاعك!" سألت الطفل الذي حملته: "هذا عليش تعاركتوا؟" فكرتُ حينها أنني قد أذهب وأشتري لكلٍّ منهما كيساً من البطاطس (تشيبس، شيبس، شبس...)، ولكن الطفل قال لي: "هو جا ينابش..." انصرف الطفل (المنابشي)، وجلس الطفل الآخر بكيس البطاطا. وانصرفتُ أنا متجهاً إلى كشك السجائر.

الأربعاء، 27 أغسطس 2014

الحرب تأخذ فقط... هكذا وبدون توضيح.


منذ يومٍ أو يومين تقريباً اتصل بي شخصٌ رائعٌ جداً كعادته دائماً في الاتصال والسؤال عن الحال، شخصٌ طيبٌ لدرجة أنك لو كنت إنساناً غير اجتماعيٍّ مثلي ومتشائماً إلى حد الجنون؛ فإن طيابة مثل هؤلاء ستُصيبك بالحنق على أقل تقدير! لماذا أنت هكذا؟ لماذا تتصل وتسأل؟ لماذا، في هذا العالم القذر المنهار، يوجد أشخاصٌ مثلك؟!

اتصل بي هذا الشخص، سأل عني وعن أحوالي، تحدثنا قليلاً، وسألته عن مشاريعه لهذه الليلة فقال لي أنه ذاهبٌ إلى عزاء ثم ليس لديه مُخططٌ واضح.

-       عزاء من؟
-       عبدالرحمن اهليس، اذكرته؟ في بكرج؟

كان ذلك في عيد الفطر. آخر مرةٍ ذهبتُ فيها لمقهى بكرج. كنتُ قد اتصلت بالشخص الرائع (السابق ذكره) لتهنئته بالعيد، وقد أخبرني بأنه في طريقه إلى مقهى بكرج. بدت لي الفكرة جذابة: تذهب إلى المقهى، تلتقي بالكثير من المعارف (عشرُ عصافيرٍ على الشجرة! أو على طاولة المقهى!) تُهنئهم بالعيد، وفي نفس الوقت تُروِّح عن نفسك قليلاً بمعايدات في الهواء الطلق لمقهى شبابي بعد يومٍ كاملٍ من المعايدات في غرف المعيشة والصالونات المختنقة بالرسميات وبكبار السن وبالاحترام وبالحياء – استراحة اجتماعية بعد كل تلك الضرورات الاجتماعية.

ذهبتُ إلى المقهى، التقيتُ بكثيرين، عايدتُ على كثيرين، ثم انتهى بي المطاف – كالعادة – أجلس وسط الكثيرين بصمت – جليسي الحقيقي الوحيد هو كوب القهوة الذي بين يدي. لا تربطني بأغلبية الحاضرين علاقة قوية... على أي حال كان الجو العام جيداً. لا أذكر كيف بالضبط، ولكن ربما في فوضى الوقوف للمعايدة على شخصٍ لمحته من بعيد فيضيع كرسيك (الكراسي لا تُقدُّر بثمن في مقهى بكرج المزدحم على الدوام!) وكل ما ينتج عن ذلك من فوضى، وجدتُ نفسي أجلس بجوار عبدالرحمن اهليس رحمه الله. موضوعٌ يليه موضوع تمر كلها على مسامعي وأنا ألتزم الصمت، ولا أعلم تماماً عما يتحدث الجميع (ضمن مقاطعة منتجات السياسة الكلامية!) إلى أن دار الحوار دورته ووصل الكلام إلى الحجاج بن يوسف الثقفي. كان عبدالرحمن رحمه الله يتحدث عن أن الحجاج له دورٌ بالرغم من دمويته كان مهماً جداً في تثبيت الخلافة الإسلامية وجلب الاستقرار لها. قد أستطيع منع نفسي من الحديث في السياسة، لكنني لا أستطيع منع نفسي من الحديث في الدين، وبلا شك لا أستطيع منع نفسي من معارضة أي شخص يمتدح الحجاج بأي شكلٍّ من الأشكال. دخلتُ في حوارٍ مع عبدالرحمن.

الخميس، 21 أغسطس 2014

آن أن تستريح...



بالكلام الفصيحْ
وبكلِّ الوضوحْ
هكذا أنتَ يا صاحبي،
وإلى أبدٍ عابرٍ.. في الضريحْ
أنتَ لا تستسيغُ هدوءَ الزمانِ،
ولا تستطيعُ المكانَ المريحْ
قَلِقٌ أنتَ كابنِ الحسينِ على سَرْجِ ريحْ
أنجبتكَ البراكينُ يا صاحبي
مِن جراحِ المسيحْ
واصطفتكَ الأعاصيرُ ترنيمةً
لعذابِ النبيِّ الجريحْ
إنما ملكُ الموتِ يا صاحبي يدَّعيكْ
فاقترح ميتةً
قُل لنا شهوةَ الموتِ فيكْ
قُل لنا يا سميحْ
واحكِ عن حيرةِ القبرِ،
من موقعٍ أنتَ مَهَّدْتَهُ
ثمَّ بدَّلتَهُ
ثمَّ غيَّرتَهُ
ثمَّ حيَّرتَهُ
وإلى موقعٍ مُضَمرٍ لم يزلْ
في مكانٍ جميلْ
من أعالي الجليلْ
حسناً. هكذا. آن أن تستريحْ
يا صديقي سميحْ
بعد طولِ الصراعِ وعُنفِ الوداعِ وعُسْر الجدَلْ
آن أن تستريحْ
من عذاب الملَلْ
يا أخي. يا ابن أمي. ويا ابن أبي،
يا سميحْ!!

سميح القاسم


وُلد 11- مايو - 1939 واستراح 19- أغسطس- 2014 وسيبقى إلى ما لانهاية...


همسةٌ مُستجابة...

ورقٌ.
ورقٌ سيدي.
إنه ورق.
أشتهي ورقاً للكتابة سيدي
لم يعد ثمَّ مُتسعٌ فوق جلدي العتيقِ
كتبتُ عليه طويلاً
وندوب الجراح القديمة، تلك سطوري
ليقرأها الناس لو يقرأُ الناسُ جيلاً فجيلاً
سيدي. وثقوب سجائركَ المُطفأَهْ
فوق جلدي، نقاطكَ فوق حروفي
وإيقاعُ أغنيتي المرجأهْ

* * *
ورقاً. سيدي
أشتهي ورقاً للكتابه
كي أعيد الكتابه
أن موتي دُعابه..


ورحل سميح القاسم... رحل آخر شاعرٍ حقيقي في عالمنا العربي.. فارسٌ آخر في ركب اللغة العربية يسقط مع حصانه.. نبي شعرٍ آخر تُختم رسالته.. شيخٌ صوفيٌّ آخر يتلو ورده الأخير، صلاته الأخيرة، قصيدته العظمى، حياته الكبرى... يوقعها بموته: سميح القاسم. تنطفئ الأضواء في عالمه، ويُشعل سيجارةً في الظلام.

حين قرأتُ الخبر يوم الثلاثاء (19-أغسطس-2014)، حين قرأتُ الخبر، حين قرأتُ الألم، أصبح العالم أكثر ظلاماً.. أكثر اختناقاً.. أكثر قسوةً.. أكثر وحشةً.. فجأةً هكذا وفوراً: تغير العالم من حولي وفي داخلي.. تغير كل شيء... حاولت فوراً أن أتذكر كل تلك القصائد، كل تلك المقطوعات، كل تلك الكلمات التي كنتُ أنسخها على قصاصات الورق، أحملها في جيبي إلى كل مكان، وأحفظها فأحملها في صدري إلى كل مكان.. حاولتُ تذكُّر كل ما أحفظه له: ولكنني لم أستطع.. لعل حفظ أشعاره بروحي لم يكن سليماً، لعل روحي كانت مشغولةً وقتها بالنواح لا بالتذكر، لعل أشياءً كثيرة، ولكنني فقط لم أتذكر.. ووحيداً هكذا، واقفاً دون أشعاره وقصائده، غمرتني موجة الألم.. استخرجتُ بعض دواوينه، أردتُ أن أقرأ، ولكنني لم أستطع، لم أستطع أن أفعل شيئاً سوى أن أكتم الدموع في عيني: توقفي هنا تماماً.. توقفي فلن يُجدي البكاء في شيء، ولن ترحمه دموعي، ولن ترحمني أنا أيضاً.. الدموع ستكون فقط سؤالاً ممن حولي: ما الذي حدث؟!

وكيف أستطيع أن أقول لهم أنا أبكي على رحيل رجلٍ لم أقابله يوماً؟ كيف أقول لهم أنني أبكي على رحيل شاعر، فقط شاعر، مُجرَّد شاعر، شاعرٌ في زمنٍ تافهٍ انعكست فيه قيمة الأشياء، كيف أقول لهم أنني أبكي شاعراً وحسب؟ وكيف أستطيع أن أقول لهم بأن هذا الرجل البعيد، هذا الشاعر، يعني لي الكثير، يعني لي أكثر مما يعنيه بعض مَن هم حولي، أناسٌ أراهم أمامي ولا أقرأ كلماتهم فحسب، أشرب معهم القهوة ولا أقرأ عنها في قصائدهم، كيف أستطيع أن أقول لهم: هو بالنسبة لي أكثر، أكثر من كثيرٍ منكم، أكثر بكثير... وكيف تشرح لهم بأن رحيل هذا الرجل يؤلمك بعمقٍ حقيقي وأنت تدرك أنهم سيقولون لك: العالم غارقٌ في الحرب والقصف والموت، وأنت تبكي رحيل شاعر؟!

كيف كل هذا الصراع مع العالم من حولي؟ وماذا يجدي؟ وماذا تجدي الدموع؟ وماذا يجدي أي شيء أمام كل هذا الرحيل، كل هذا الفراق، كل هذا الألم...

الأحد، 10 أغسطس 2014

مع أبرز العناوين في الشأن الليبي...


كلما أردتُ كتابة أيِّ شيءٍ تافهٍ لأضعه على هذه المدونة الضائعة، أجد نفسي مُحرجاً لأنني لم أكتب شيئاً عن ليبيا... ميراث الجدود، البلاد التي وُلدتُ فيها (وأظنني مدفونٌ فيها من قبل أن أموت)، الجنسية التي لو لم أكنها لأردتُ أن أكونها (نكتة!)، الوَطَن، وأيضاً (لوِطْن)! بصراحة لن أعرف كيف أضعُ حركاتٍ على الكلمة لمنحها النطق البدوي الذي أصبح الجميع ينطقونها به بعد الثورة المباركة التي كانت ترفع شعار (لا للقبلية). سأعترف بأن الزمن الذي عشته أيام القذافي كان يفيض بالقبلية، ولكنني لم أسمع كلمة (وِطْن) مرةً واحدة، والآن أصبحتُ أسمعها في كل مكان...

وعلى أي حال: دائماً أجد جدار الوطنية يُغلق عليَّ الطريق إلى كتابة أي شيء آخر (غير وطني)... تريد أن تكتب عن حادثة مع جيرانك تُظهر مدى تمزق النسيج الاجتماعي وأن عزلتك عن الجميع ليست السبب الوحيد في ابتعادك عن الناس؟ اكتب أولاً عن مجلس النواب! تريد أن تكتب عن مدى الآلم الذي أحسست به لما يحدث في غزة، وتريد أن تكتب بصراحةٍ مؤلمة عن مدى الملل (أو ربما التشبُّع) الذي تحس به اليوم تجاه غزة؟ اكتب أولاً عن الحرب في طرابلس وفي بنغازي! تريد أن تكتب عن القراءة؟ عن الحياة؟ عن النفس؟ عن العقل؟ تريد أن تكتب أي شيءٍ تافهٍ عن أي شيءٍ تافه؟ اكتب أولاً شيئاً تافهاً عن ليبيا!!!

وحسناً... الكتابة (الوطنية) الإلزامية، ضريبة من الكلمة أدفعها للضمير على مضض لكي يسمح لي بالتفكير في كتابة شيء تافه دون ندم، وأقول التفكير لأنني في الحقيقة لا أكتب شيئاً حقاً... وعلى أي حال...

الأربعاء، 9 يوليو 2014

أريد أن أكتب... ولكن؟!


أريد أن أكتب عن الكثير من الأشياء...

أريد أن أكتب عن سلوى بوقعيقيص رحمها الله، أن أكتب عما يعنيه رحيلها، عما خسرته ليبيا.. أريد أن أكتب عن الشعب الليبي الذي كفرتُ به كفراً صريحاً، أريد أن أكتب عن كل الخرافات العالقة بهذا الشعب وبفطرته الملائكية! أريد أن أكتب عن معركة (المراوحة) التي تحتدم في بنغازي الآن، والتي لم ينتج عنها إلا تحويل بنغازي إلى مدينةٍ مُحاصَرةٍ بالحرب، أصبحنا نشتاق للنوم دون إزعاج القصف والقذائف والانفجارات، أمسينا نشتاق للأيام المملة حين لا تعرف أين تذهب وماذا تفعل (عوضاً عن الأيام المليئة بالجنازات والمقابر وخيم العزاء...).. أريد أن أكتب عن الاغتيالات عن التفجيرات، عن أسراب الرصاص التي تغزو بنغازي، عن طاعون الموت الأحمر المنتشر في مدينتنا، عن طوفان الأسى والألم الذي نغرق فيه.. أريد أن أكتب عن الإعلام الليبي التافه، الإعلام الذي يعتبر مسؤوليته التقاط ألسنة اللهب من المعارك والتفجيرات وإحراق المواطنين بها، الإعلام الذي يدوس مُسرعاً في دماء الضحايا ليغمس أيديه فيها ويطلخ بها وجوه المشاهدين والمتابعين والقراء، الإعلام الذي أريد سبه وشتمه بكلام قد يُصنِّف هذه المدونة على أنها مدونة إباحية زنديقية! أريد الكتابة عن التطرف، عن كارثة ممارسة الإرهاب باسم الدين، عن مأساة الوضوء بالدماء والصلاة فوق الجثث، عن جحيم التكفير بالجملة، وليس بأسعار الجملة، ولكن بالمجان للجميع! أريد أن أتحدث عن استغلال مآسي الشعب من قبل العسكريين والسياسيين والثورجيين والإعلاميين وحتى الشعب نفسه.. أريد أن أتحدث كثيراً عن مآسي ليبيا، وعن الجرح الغائر في وسط قلبها تماماً الذي هو بنغازي، وعن السبية التي هي طرابلس، وعن الجنوب الذي لم نعد نعرف أين يقع، في بلادنا أم في بلادٍ شقيقة في كوكبٍ آخر...

رحيل سلوى بوقعيقيص: ثلاث رسائل.


إلى سلوى،

ورحلتِ يا سلوى... رحلتِ ومازالت طريقنا طويلةٌ جداً، طويلةٌ جداً...

يؤلمني رحيلكِ كثيراً، ولكنني لا أستطيع منع نفسي من تقبُّل هذا الرحيل، لا أستطيع أن أستغرب خاتمة هذا الفصل من حياتك؛ فمنذ اليوم الأول يا سلوى، منذ اليوم الأول ومن قبله أيضاً، خرجتِ تتحدين الموت، منذ البداية استبدلتِ حياةً آمنة بحياةٍ شجاعة، منذ البداية خرجتِ للتضحية فكانت وقفاتكِ، تصريحاتكِ، مجهوداتكِ، كانت حياتكِ كلها تضحيةً تنتظر تلك اللحظة التي تُختتم فيها مسيرتكِ وتبدأ فيها ذكراك، تلك اللحظة التي تتوقفين فيها عن المسير، ولكن لا تتوقفين فيها عن النضال... ولكن.. هذا واقع كل مسيرة، أليس كذلك؟

هذا قضاءُ الله وقدره في القادة والأبطال والمعلمين: لابُدَّ من أن يحين أوان ترجُّلِهم، لابد من تلك اللحظة التي يتوقف فيها القادة الأبطال مثلكِ يا سلوى عن المسير؛ لينتصبوا على جوانب الطريق مناراتٍ تُنير ظلمة المسير، مناراتٍ من دمٍ تنادي نحو أفق الخلود: "من هنا الطريق". فهنيئاً لبنغازي بكِ يا سلوى منارةً جديدةً تنتصب فيها، نحفر لبقية الناس قبوراً، ونرفعك من دونهم منارةً... وهنيئاً لكِ يا سلوى بختام هذا الفصل من حياتكِ وبدء فصلٍ جديد؛ فالأبطال الشهداء مثلكِ يا سلوى لا تنتهي حياتهم ولا ينتهي نضالهم... هنيئاً لكِ يا سلوى، ورحمك الله، وعظَّم الله أجرنا فيكِ... عظَّم الله أجرنا...

*  *  *

الأربعاء، 25 يونيو 2014

العرس الديمقراطي: ممنوع اصطحاب المتشائمين!

لم أكتبُ شيئاً.. وطنياً (؟) منذ فترة. وبمناسبة انتخابات اليوم، فقد قررتُ أن أحاول كتابة شيءٍ ما...

لا أعلم ماذا أستطيع أن أكتب، طيلة الفترة الماضية كنتُ أتذبذب بين مقاطعة الحديث عن السياسة وبين الانفجار بالحديث عن السياسة! هذا التأرجح لم يسمح لي بمتابعة الأخبار فعلاً، فكل ما كنت أفعله هو التعليق على ما يقوله الآخرون، فحتى التفكير والتحليل وغير ذلك من تمارين عقلية (هههه تمارين! الكسل أسلوب حياة...) لم أكن أمارس أي شيء من هذا القبيل... في الحقيقة إن ابتعادي عن الأخبار مُبهرٌ بصراحة.

حسناً... سأحاول أن أسأل نفسي أسئلة... أن أُجري مقابلةً مع نفسي، ليس لكي أكتب شيئاً ذو معنى أو أتتبع أفكاراً من نوعٍ ما في عقلي، ولكن لكي أكتب بعض الكلمات التي أملأ بها مساحةً في المدونة تحت تاريخ الانتخابات وحولها. أليس هذا اهتماماً ببلادي وبمستقبلها؟!

لماذا سأذهب للتصويت في الانتخابات؟

لأن ذلك طُلب مني... سأعترف بأن مَن طلب مني ذلك يَستحقُ أن أُصوِّت له، رجلٌ وطنيٌّ ونزيهٌ ومُثقَّفٌ وله خبرات قد تكون مفيدة بالفعل في مجلس النواب في هذه الفترة. ولكن... آه من هذه اللكن! إذا تم انتخابه، فهل سيستطيع فعل أي شيء؟ هل سيستطيع أن ينجو من الحرب السياسية القذرة؟ أنا أتمنى فعلاً أن يستطيع تحقيق شيءٍ ما، ولكنني أشك في أنه سيستطيع، وأشك في أن الأمر سينتهي به إما بالاستقالة اعتراضاً على ما يحدث في مجلس النواب، أو بأن يكون أحد أصوات المعارضة القوية التي لم تُحقق شيئاً في البرلمان سوى رفع صوت النقد. إنجازٌ لا يُستهان به، ولكن الصراخ في زمان الشلل لن يُقدِّمك ولو نصف خطوةٍ إلى الأمام...

الأحد، 22 يونيو 2014

اللامبالاة: مشاهدة كأس العالم في الجحيم.


مثلي مثل أي إنسان آخر، أو على الأقل مثلي مثل أي عصفور آخر! (ولو أنني لا أمتلك ريشة واحدة، ولا حتى تأشيرة تسمح لي بالطيران!) فأنا أحب الاستماع للموسيقا. ولأنني شخص لا أحب إزعاج الآخرين، أو ربما لأنني شخص لا أحب أن يزعجني الآخرون! فغالباً ما أرتدي السماعات... ولكنني الآن قررتُ أن لا أرتديها، بل تركتُ الموسيقا تنساب من الكمبيوتر، يرافقها إيقاع القصف والانفجارات، وأظن أنني بذلك أستطيع تصنيف نفسي على أنني موسيقار، أو على أقل تقدير DJ يهتم بالانصهارات الموسيقية لعدة أصناف مختلفة... موسيقا كلاسيكية + إيقاع حربي... مثلاً...

الموسيقا الكلاسيكية الآن لأن الوقت متأخرٌ جداً على ميتاليكا بصراحة (والتي ستكون أكثر ملائمةً!)، ولأنني لا أرتدي سماعات، فلا أريد إيقاظ أحد! ولو أن الجميع مستيقظون أصلاً!!!

ثلاث ساعات يا سيدي الفاضل والقصف متواصل... بالطبع، أنت وغيرك ممن لديهم مسؤوليات وعمل وفائدة حقيقية في العالم الواقعي، بلا شك كان سيكون من بين همومك هو حاجتك الماسة للنوم قبل أن تضطر للاستيقاظ في الصباح لكي تخوض أنتَ أيضاً معركة كرامة، ولكن في جبهةٍ مختلفة.. وربما أيضاً ستُفكر في الطريق للعمل غداً، هل هنالك عمل أصلاً؟ إلى متى سيستمر القتال؟ (أعلم أنك لستَ في بنغازي، لكن تخيل مثلاً أنك موجود في بنغازي... يعني نفس مسرحية الحياة البائسة، لكن في مسرحٍ مختلف، فيه مؤثرات بصرية وموسيقا تصويرية أكثر حماسة!)... ولكن، بالنسبة لمن هو مثلي، لا خدمة لا قدمة، ولا حتى مرارة! فإن همومي هي أشياءٌ مثل: هل يوجد خبز أستطيع أن أتعشى به؟ أرجو أن يكون هنالك فيلم جيد بعد المبارة... ومع أن كلا المثالين مصابين كما هو واضح (على الأقل لخبيرٍ مثلي) بمرض اللامبالاة، إلا أن الحالة الثانية الأعراض فيها أكثر وضوحاً...

مقياس دقيق جداً لمدى لامبالاة المرء:

الجمعة، 20 يونيو 2014

خطبة الجمعة وكأس العالم ورمضان (والتسويق أيضاً!).


لقد أصبحتُ مقتنعاً بأن خطباء مساجدنا يحتاجون لدراسة التسويق!

أنا على يقين بأن خطباء مساجدنا متفوقون في علوم الخطابة والبلاغة والفصاحة والعنتريات، وأشك أن بعضهم يدرسون علوم الصوتيات ويعرفون أسرار تضخيم الصوت داخلياً، وهم بلا شك خبراءٌ في الاعتناء بحناجرهم وفي إطالة أنفاسهم... ولكن كل هذا ينفع في المسرح فقط، حين تُمثِّل دور طارق بن زياد وتنادي في رجالك (العدو من أمامكم والبحر من ورائكم)! وبالرغم من أنني لا أشك في نية الخطباء، إلا أنني لا أظن بأن هذا الأسلوب ينجح في إقناع أحد بأي شيء...

لقد أصبحت الخطب تشبه التعليق على مباريات كرة القدم! كلما تحدث الشيخ عن شهر رمضان مثلاً أحسست بأن مهاجماً يكاد يسجل هدفاً! وبأن المُعلِّق متحمسٌ جداً:
"عباد الله! رمضان! شهرُ رمضاااان! رمضااااااان! رمضااااااااااااااان!" 
ولكن تضيع الفرصة! ويهدأ المُعلِّق: 
"رمضااااااااااااااااااااااااااااااااان! رمضاااان شهر الرحمة والغفران..."!
أصبحت الخطب تشبه التعليق على المباريات، لا تُقدِّم ولا تؤخِّر: تعليقٌ تستمع إليه، لا يؤثر على مجرى المبارة، ولا يؤثر على حياتك بعد المبارة. تستمع دون أن تشارك، أعني أنك لا تجد حوافزاً حقيقية في الخطبة تدفعك لفعل شيء، ولا تجد حتى توضيحاً عملياً أو تفسيراً واقعياً لكل تلك الآيات العظيمة والأحاديث الجليلة والأجر الكبير! وإن كنتَ مؤمناً صالحاً تقياً، حياتك أصلاً مليئةٌ بهذه الأمور، فوضعك حينها – في خطبة الجمعة – شبيهٌ بوضع كاكا وهو يُشاهد مبارة البرازيل من المدرجات!

هذه الظاهرة العنترية يجب أن تنتهي، وإلا لن تكون للخطب أيُّ فائدة سوى ضمان عدم نوم الحاضرين!

الاثنين، 16 يونيو 2014

تناقضٌ أدبي؟ أم توافقٌ فلسفي؟ الأمر أعمق مما تظن...


في الأيام الماضية مررتُ على مقطع من كتاب ينتقد فيه المؤلف رواية (الجريمة والعقاب) لفيدودور دوستويفسكي، ويصف الرواية بأنها متناقضة، بل يقول بأن بنيتها قد انهارت بعدما تحول بطل القصة راسكولنيكوف من شخص يُخطط ويُنفذ جريمة قتل في بداية الرواية إلى شخص يُعذِّبه ضميره ويتقبل عقابه في نهايتها. وقد أشار المؤلف أيضاً إلى رواية (الغريب) لألبير كامو، ووضعها مع (الجريمة والعقاب) في مرمى نيرانه.

ربما تكون هذه النظرة سليمة من ناحية نقدية محضة تهتم بمكونات الرواية وتسلسل أحداثها وتطور شخصياتها وترابط كل هذه الأمور بشكل منطقي. ولكن ميزان المنطق ليس ميزاناً عالمياً، أعني أن لكل شيء ميزاناً خاصاً به، والنظر في أعمال دوستويفسكي وكامو بأعين النقد الأدبي وحدها وقياسها على ميزان منطق أدبي محض أمرٌ غير سليم؛ ربما هذا المنهج يُفيد من يريد نقد روايات مبتدئين، أو روايات أسلوبها الأدبي جديد، أي أن هذه النظرة الأدبية المحضة لا يمكن تطبيقها إلا عندما تسعى لتحليل شكلي/أدبي وحسب، ولكن تحليل أعمال دوستويفسكي وكامو يحتاج لنظرة فلسفية أيضاً... ولإيضاح وجهة النظر هذه، يكفينا أن نقول بأن أعمال دوستويفسكي لها أهمية كبيرة من ناحية فلسفية، من ناحية تُعتبر بعض من أهم الأعمال الأدبية الممثلة لفلسفة الوجودية، ومن ناحية أخرى فبعض أعماله تعتبر هجوماً على فلسفة (العدمية)، وكامو يُعتبر من رواد فلسفة (العبثية) ومجدديها، حتى أن كثيرون يظنونه مبتكرها. فهل يمكن لنا أن نطلع على أعمال هذين الرجلين دون اعتبار لعقلياتهم الفلسفية؟!