الاثنين، 17 ديسمبر 2012

من يستحق أن يُبكى عليه؟!



لستُ قلقاً على الأسرى الفلسطينيين... كلا، لا أُشفقُ عليهم أو أتفضل عليهم ببعض المشاعر المرهفة... تلك إهانةٌ لهم!

كيف أفعل ذلك؟!

كيف أُحس بالشفقة أو الحزن على الأسرى، على جيشٍ من المقاتلين، يخوضون معركةً يراها البعض خاسرة، يقتحمون جبهةً بلا سلاح... كيف أحزن عليهم وما رأينا صورهم إلا وجدناهم يبتسمون ابتسامةً نحسدهم عليها... كيف أبكي عليهم وأنا طليقٌ وهم يُتغنون في الأسر:

يا ظلام السجن خيِّم    إننا نهوى الظلاما
ليس بـعد الليل إلا     فجرُ مجدٍ يتسامى

كيف أحزنُ على قصة العشق هذه؟! كيف أُشفق على من يعيشون قصةٍ عشقٍ وشغفٍ، لا مع السجون، لا مع الظلام، ولكن مع الوطن... كيف؟!

لا أستطيع فعل ذلك، لا أستطيع، وإن كانت لديَّ دموعٌ أجود بها، فالأجدر أن أتصدق بها على نفسي وعلى أمتي، على عجزي وخيبة أمتي، على فقري وتشرد أمتي... بل أولئك الأسرى هم من يجب أن يتصدقوا علينا بدموعهم، هم من يجب أن يقولوا لنا: نحن سيوفكم وقد غُمِّدت بعد أن لمعت تحت شمس النضال، فأين أنتم؟! وما أنتم؟! نبكي عليهم كالنساء من وراءد الحدود، فيردون علينا كالرجال من وسط الجبهة، وتتكرر قصة علي بن الجهم:

قالت: حُبستَ! قُلتُ: ليس بضائري     حبسي، وأي مُهنِّدٍ لا يُغمَّدُ؟

يقولون لنا، وهم يرتدون تلك الملابس الباهتة، أم لعل شرفنا هو الباهت البالي؟! يقولون لنا وهم يقفون خلف قضبان السجن، أم لعلنا نحن من نقف خلف قضبان العار؟! يقولون لنا: هنا، يا أخوة الإسلام، يا أخوة العروبة، يا أخوتنا الغرباء، هنا موطن الشرف! هنا قصر النضال حيث لا يدخل إلا من يحمل معه جبالاً من الفخر...

والحبسُ، ما لم تغشهُ لدنيَّةٍ      شنعاء، نِعمَ المنزلِ المتورِّدِ

فأين أنتم؟! في أي خربةٍ من خِرب التخاذل والخيانة تجلسون وسط قذارات العار؟! في أي قبوٍ تسترون فضيحتكم وأنتم تغيرون المحطة وتنتقلون من الأخبار، من الحقيقة، إلى العار، إلى المسلسلات والمسابقات؟! في أي حانةٍ تسكرون بالخمور الغربية، تدفعون ثمنها بنفطكم وغازكم، وترمون لهم على الطاولة من صمتكم بقشيشاً؟!

كذلك يقول لنا الأسرى: نحن هنا، تحت الشمس، نحن هنا، كالجبال، نحن هنا... فأين أنتم؟! أين تختبئون أنتم؟!

فمن يستحق أن يُبكى عليه؟! نحن أم هم؟!!!

نحن الأسرى... وهم الأحرار، هم الطلقاء... وفي سجننا هذا نهذي بالحزن والأسى: أواه على أولئك الأسرى المساكين! ولكنا نحن المساكين، نحن من نعيشُ وهْم الحرية، وهُم يتعذبون بحُريةٍ حقيقية...

أفلا يكفي أننا لم نختر هذه الحرية المزعومة، بينما اختاروا هم سجنهم المزعوم؟! أفلا يكفي أننا على حريتنا أعجز من العجز، وهم على أسرهم أقوى من القوة؟! أفلا يكفي أننا على حريتنا لا نفعل شيئاً سوى التباكي، وهم على أسرهم يرسمون النصر بابتساماتهم؟ أفلا يكفي أننا في حريتنا لا نملك اختياراً سوى التضامن، بينما يختارون هم في أسرهم المقاومة؟! نعم... لقد اختاروا هم بطولة الأسر، واخترنا نحن مذلة الحرية... اختاروا هم الإضراب والجوع، اختاروا المقاومة بأجسادهم، بسلاح وطنهم الأول والأخير... ونحن، آهٍ من العار الذي اخترناه... ولستُ أجدُ اليوم وصفاً أفضل مما قاله بالأمس أحمد شوقي في رثاء شيخ المجاهدين عمر المختار:

خُيِّرتَ فَاِختَرتَ المَبيتَ عَلى الطَوى    لَم تَبـنِ جـاهـاً أَو تَـلُـمَّ ثَراءَ
إِنَّ البُطولَةَ أَن تَموتَ مِن الظَـما       لَيـسَ البُـطولَةُ أَن تَعُبَّ المـاءَ

إن البطولة تلمع في أسركم، ليس البطولة نوحةٌ وبكاء... إن البطولة أن تكون أسيراً فلسطينياً، ليس البطولة أن تكون حراً عربياً... إن البطولة هم يعرفونها، هم وحدهم، ونحن نبكي على ما افتقدناه... ما افتقدناه من بطولةٍ وشرفٍ وفخر... ما استبدلناه بالتعاطف والتضامن والمؤارزة والتأييد، والبكاء عن بعد، والتبرع بالدموع العقيمة، والحزن غير المجدي... و... و... و... قوائم التخاذل لم تعد اليوم مجرد أسماءٍ لخونة، ولكنها أصبحت أيضاً سرداً لمشاعر خائنة، مشاعر تخون الكفاح والقضية....

سأقولها بصراحة أنا عربيٌّ حر، أنا أسيرٌ موهوم... أنا حزينٌ باكٍ، أنا خائنٌ مداهن...

أنا متضامن... أنا متخاذل...

وآه لو أن أولئك الأسرى، أولئك الأحرار، يبكون لأجلنا...

ولكن... هيهات...

الأُسدُ تَزأَرُ في الحَديدِ وَلَن تَرى       في السِجنِ ضِرغاماً بَكى اِستِخذاءَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق