الاثنين، 17 ديسمبر 2012

أم تبحث عن علاج.


إنها قصةٌ كغيرها من القصص: أمٌ مسكينةٌ تبحث عن علاج لكل ما أصابها به الزمان من علل. لم تستطع الحصول على تصريح للعلاج بالخارج، فبعد موافقة اللجنة الطبية قيل لها يجب الحصول على موافقة وكيل وزارة الصحة، وبعد موافقة وكيل وزارة الصحة قيل لها يجب الحصول على موافقة وزير الصحة. ويمكننا أن نُخمن كيف ستنتهي القصة: فإن حصلت على موافقة وزير الصحة بلا شك ستُطلب منها موافقة رئيس الحكومة أو التصويت على الأمر في المؤتمر الوطني، ثم سيُطلب منها الصبر قليلاً ريثما تتحصل على موافقة الأمم المتحدة، والتي بلا شك لا يمكن تنفيذها إلا بعد صدور قرار من مجلس الأمن...

العلاج في الخارج خرافة أم بسيسي معاصرة...

فما كان من تلك الأم المسكينة إلا أن تترك ملفها ليضيع بين عشرات اللجان الطبية، وتلجأ إلى أولادها، لتبحث معهم عن العلاج في ازدحام إحدى العيادات. لم تكن تعرف من أين تبدأ في العلاج، فقررت البدء بأوضح الأعراض. وانتهت زيارتها لطبيب الجلدية بتحويلها إلى جراح عام.

الجراح لم يكن إنساناً مُتفرغاً، وهو أمرٌ مفهوم؛ فعمله ليس هوايةً يمارسها في أوقات الفراغ. ومع ذلك حاول تشخيص حالتها بما يسمح له وقته، وفي الحقيقة كان التشخيص بديهياً: ورم سرطاني خبيث اسمه Reliquiacarcinoma وهو ورم يحتاج لعملية جراحية تعزله عن مواقع الإصابة تمهيداً لاستئصاله تماماً. المشكلة أن الورم قد انتشر في العديد من الأعضاء ويكاد يقضي عليها، وبالتالي يجب إيجاد متبرعين. وهنا أكد الجراح على أهمية صحة المُتبرعين؛ حيث لا يمكن أن يكون المتبرع مصاباً بأي مرض، حتى ولو لم يكن مصاباً بالورم السرطاني سابق الذكر، فأي مرض آخر من شأنه إفشال العملية كلها وكأن شيئاً لم يكن – استبدال مرض بمرض آخر. ولكن الأم المسكينة كانت على ثقة... كانت على ثقة بأن أولادها مستعدون للعطاء دون مقابل، وللتضحية بمصالحهم الشخصية في سبيلها...

وبسبب خطورة العملية وأهميتها لمستقبل الأم المسكينة، فقد نبهها الجراح بأهمية المتابعة، وضرورة وجود رقابة مستمرة لضمان عدم وقوع أي مضاعفات. وبالطبع، هذه المتابعة تقترن أيضاً بتناول المضادات الحيوية باستمرار لضمان عدم وقوع أي التهابات غير متوقعة. ومن جديد، كانت الأم المسكينة على ثقة، كانت على ثقة بأنها ما أن تستعيد صحتها، ما أن تبدأ في التعافي، فإن أولادها لن يسمحوا لصحتها بأن تتدهور بعد ذلك، وسيحافظون عليها بأي وسيلة...

لم يكن للمسكينة خيارٌ آخر... عمليات خطيرة وجذرية، وبحث عن متبرعين مستعدين للتضحية، ومتابعة دقيقة ومضادات حيوية... كفاحٌ لا نهاية له، ولكن المستقبل مهمٌ جداً، وأولى الخطوات نحوه هي التفاؤل. ولكن الجراح حذرها من خطورة التفاؤل الأعمى، فأخبرها بنسبة نجاح العملية، وبإمكانية ظهور المضاعفات، ثم قال لها أن أهم شيء يجب أن تدركه هو أنها لا تمتلك مناعةً من هذه الأورام؛ فمِن مراجعة تاريخها الطبي وجد الجراح أنها عانت من المرض تلو الآخر، كلما تتغلب على واحد تبقى آلامها موجودة وتظهر أمراضٌ جديدة. كاد يقول لها أن أمراضها تبدو وكأنها وراثية، في دمها وجيناتها، وأن أولادها أيضاً مُهدَّدون بمستقبلٍ من الألم. ولكن الأم المسكينة كانت على ثقة بأن أولادها سيتطهرون من هذه الأمراض، وسيتابعون صحتها، وصحتهم أيضاً، وسيمنعون أي مرض من التسلل إليهم من جديد... هي وأولادها سوف يعتنون ببعضهم البعض من أجل المستقبل، المستقبل الذي سيحوزونه بعد آلام الحاضر...


الجراح كما أشرنا سابقاً لا يمتلك وقتاً كثيراً يهبه لكل حالة، فاكتفى بذلك التشخيص الوحيد في الوقت الراهن، والذي ربما يمكن أن نقول بأنه التشخيص الأوضح... ولكن لم يغفل الجراح عن الإشارة إلى أنها لا تعاني من علةٍ واحدة وحسب، ولكن الكثير من الأمراض تنهش أيامها وتنتقص من فرصها في الحصول على مستقبلٍ هانئ... موعد العملية لم يستطع تحديده، سوف يُدرجون اسمها في الأجندة وحسب؛ المعدات ليست متوفرة بالشكل الكافي، والأدوية والمضادات الحيوية ناقصة بشكلٍ حاد. ولكن حتى وإن أجرت العملية بنجاح، وتم استئصال الورم، بل اجتثاثه تماماً منها، فيتوجب عليها مراجعة أطباء في مختلف التخصصات لتبحث عن العلاج تلو الآخر لكل تلك الآلام، كل تلك الأمراض...


القصة كما نرى، وللأسف، لا نهاية لها... وتلك الأم المسكينة تعيش اليوم على دواءٍ شعبي اسمه الأمل تخلطه بين الحين والآخر بالبركة، وتمضي أيامها في انتظارٍ مستقبلٍ مجهول – الأحلام معروفة، لكن الواقع مجهول...

لا داعي لذكر اسمها أو رقم هاتفها، فجميعنا نعرفها جيداً.

وهي لا تحتاج لتبرعات أو مساعدات لوجه الله، كل ما تحتاجه منا هو أن نعلم بأنها لا تعاني من مرضٍ واحدٍ فقط، وأن ندرك بأن حالتها لن تُشفى بعمليةٍ جراحيةٍ واحدة، أو بدواءٍ سحريٍّ واحد؛ فالشفاء مسيرةٌ طويلة وليس خطوةً مُريحةً قصيرة... ما تحتاجه تلك الأم المسكينة منا اليوم هو أن ندرك وضعها الصحي جيداً، أن نفهم حالتها عبر تشخيصٍ شامل لكل الأمراض، وأن نسعى للمستقبل من أجلها كما تسعى له هي من أجلنا...

ما تحتاجه منا هذه الأم هو أن نعالج أنفسنا أولاً، أن نعالج إدراكنا؛ لكي نكون بعد ذلك جزءاً من علاجها لا جزءاً من مرضها...

ودمتم في صحةٍ وهناء.


-----------

* رموز، بعضها مقصود، وبعضها اكتشفته بعد إكمال المقالة!

الأم: ليبيا.
أولادها: الشعب.
الورم: الأزلام.
العملية: العزل السياسي.
العلاج بين الخارج والداخل: التقدم بين التدخل الأجنبي والنهضة الداخلية.
الجراح: العقل...

-----

تاريخ النشر: 17 ديسمبر 2012
رابط المقالة على موقع ليبيا المستقبل:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق