الخميس، 11 يوليو 2013

تهنئة رمضانية، وبعض الصراحة...


رمضان مبارك...

‏كل عام والجميع بخير بمناسبة حلول شهر رمضان، والذي نسأل الله أن يهل علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربنا وربه الله‏، ونسأل الله أن يُعيننا على صيام هذا الشهر وقيامه، وأن يوفقنا المولى عز وجل إلى صالح الأعمال وأن يتقبلها منا.

وبعد هذه المقدمة، التي بالرغم من أنها إلزامية إلا أنها صادرة بنية صافية، فها هو شهر رمضان يأتي من جديد. من مفارقات الحياة، التي نستغرق فيها إلى حد الذهول، أن يكون شهر رمضان هو من المناسبات المتوقَّعة والمُفاجِئة في نفس الوقت! لعل الأمر لا يرتبط برؤية الهلال والحسابات الفلكية بقدر ما يرتبط بالتغيير الذي يلحق بحياتنا اليومية في هذا الشهر مما يجعل قدومه مفاجئاً، لأننا بطبيعة الحال دائماً متميزون في الإخفاق في إدراة أوقاتنا وتنظيم حياتنا!

وهنا تأتي الصراحة التي سأقول فيها بأني أتضايق من بعض هذه التغييرات التي يتسبب بها شهر رمضان المبارك...


لا يمكن لأحد أن يقول بأنه يكره شهر رمضان أو يتبرم منه... بلا شك سنمزح كثيراً حول هذا الأمر! ولكن لا يمكننا أن نقول ذلك ونعنيه، ليس فقط لأسباب دينية (خوفاً من شك الآخرين في ديننا، أو شكنا نحن أنفسنا فيه...) أو لأسباب اجتماعية (لا يوجد أحد يريد أن يُظهر ضعفه!)، ولكن أظن بأننا بالفعل لا نكره هذا الشهر بالرغم من ساعاته الطويلة الحارة (كما هو حال هذه السنة) وبالرغم من فزع بعضنا على فراق القهوة مثلاً! أو السجائر! أو المياه التي لا نُدرك روعتها إلا في هذا الشهر! الناس بالفعل يحبون هذا الشهر، وهو أمر دائماً ألاحظه في اليوم الأول بالتحديد لشهر رمضان المبارك، دائماً تُشع السعادة على وجوه الناس، لدرجة أنني في بعض الأحيان أتفاجأ بمقدار ما أراه من فرحة متبادلة بين الناس الذي يُهنئون بعضهم البعض بالشهر المبارك. نحن نُحب هذا الشهر، ولا أعلم بالتحديد لماذا؟ فأنا أكاد أجزم بأن غالبيتنا لا تربطنا علاقة روحانية وثيقة بديننا تُفسر فرحتنا الشديدة بهذا الشهر، فلو كان حبنا له دينياً محضاً وامتداداً لأسلوب حياة روحاني لما كان هنالك ما يُضايقني في هذا الشهر...

أشياء كثيرة تُضايقني، انقطاع الطعام والشراب ليست منها؛ فقد اعتدنا على الصيام منذ زمنٍ بعيد، ما يُضايقني ليس الشهر في حد ذاته، وإنما بالأحرى الناس... الناس هم الذين يُضايقونني بأسلوب الحياة الذي ينتهجونه بعذر أننا في رمضان... أول شيء يعرفه ويُدركه الجميع هو المظاهر (المؤقتة) التي تسود المجتمع... وأقول مؤقتة لكي لا أتعثر بمطب التجني على الناس بقول مظاهر (كاذبة) هكذا بكل صراحة... لا يمكن أن نغضب من شخص يلتزم جانب الدين والأخلاق، ولو كان ذلك بسبب الضغوطات الاجتماعية، ولفترة مؤقتة، ولكن هذا الأمر يعني أن شهر رمضان لا أثر حقيقي له؛ فكأن الناس يتصورون أن الله سبحانه وتعالى لا يُراقبهم إلا في شهر رمضان، وأن الملائكة تأخذ إجازة باقي السنة من تسجيل الحسنات والسيئات... بل وكأن الناس يتصورون أن أقاربهم وجيرانهم وبقية البشر الذين يعيشون معهم في نفس البلاد يفقدون صفتهم الإنسانية بعد هذا الشهر فلا تجب معاملتهم بنفس الأخلاق النبيلة والمشاعر الطيبة الودودة. فمشكلة (المظاهر المؤقتة) هي الاعتقاد بأنه لا داعي لها في المستقبل – لها فترة انتهاء صلاحية! بالطبع هنالك من لا يتغير كثيراً بقدوم شهر رمضان، فربما كان أثر الشهر هو فقط الزيادة من إيمانه وأخلاقه الثابتة أصلاً في شخصيته، أو ربما قيد الشهر انحرافه أو عدم اكتراثه مراعاةً للواقع الاجتماعي، وهنالك من قد يُغيره الشهر نهائياً فيُجدد إيمانه ويتوب، هؤلاء استثناءات خاصة في وجهة نظري، فالغالبية يبدو وكأن الشهر بالنسبة لهم مسرحية يُمثلون فيها دوراً مُحدداً، مدة العرض 30 أو 29 يوماً، وتنتهي المسرحية بنجاح باهر في شباك التذاكر... وتعود الحياة إلى مجاريها... أو بالأحرى تفيض مجاري الحياة من جديد!

لعل الفقرة السابقة تركزت على الجانب الديني وما يُرافقه من إيمانيات وأخلاقيات، ولكن الحقيقة أن هذا التغيير المؤقت يمس جوانباً كثيرة في حياتنا، فاليوم المعتاد لا يبدأ عند السابعة أو الثامنة، ولكن عند التاسعة ربما، العاشرة، الحادية عشر، على حسب المزاج، ومن الجنون بالطبع أن تطالب بأن يمتد النهار إلى الساعة الواحدة أو الثانية ظهراً! فشهر رمضان لا يُعتبر شهر إجازة بقدر ما يُعتبر شهراً نُبرهن فيه عن مدى مللنا من الروتين اليومي! أنا لن أتغيب عن العمل، ولكنني سآتي لساعتين، ولن أنجز أي شيء، لأبيَّن لكم مدى مللي من هذه الوظيفة! لا داعي طبعاً لأن أعترف وأقول بأنني من بين الأشخاص الذين يُفضلون تأجيل كل الأعمال والمشاغل إلى الفترة ما بين التراويح والسحور، فهذا أمر من البديهيات، خاصةً أننا أثناء النهار عبارة عن ألغام مضادة للمضايقات، أبسط اهتزازة تلتقطها أعصابنا تؤدي إلى احتراق الصاعق والانفجار وضياع الأجر مهما حاولنا الاستغفار وشتم الآخر بطريقة سلبية بقول (اللهم إني صائم! اللهم إني صائم! اللهم إني صائم يا....)!!! اختلال نظامنا في الصباح والظهر يؤثر على بقية اليوم بلا شك، فالعصر يكون أشبه بالانطلاق نحو الجبهة، ولكن هذه المرة بنية إمضاء الساعات الأخيرة قبل آذان المغرب، والتي تكون في العادة الأطول! البعض يُمضون تلك الساعات في العبادات، والبعض في النوم، ولكن الغالبية يخرجون لقتل الوقت (وأحياناً بعضهم البعض!) أو يلهثون لشراء لوازم الإفطار في الوقت بدل الضائع، ومع ارتفاع معدلات العصبية في رمضان فالخروج في هذا الوقت دائماً مجازفة – جبهة حقيقية...

 ولا يبقى من نظام الحياة الطبيعي في شهر رمضان أي وقت سوى الليل... ولكن حتى الليل لا يعود ليلاً عادياً، ولكنك مُطالبٌ فيه بحضور ثلاث إلى خمس مسلسلات، وبصلاة التراويح (أو التظاهر بأنك تُصلي التراويح بينما تختبئ في المنزل!) وبعد ذلك فإنه لا يوجد أي وقت للقيام بأي مشاغل من أي نوع؛ لأن من واجبات العباد في شهر رمضان السهر إلى الفجر... وهكذا يختل النظام اليومي في شهر رمضان بشكل يجعلك تستسلم وتُقرر تأجيل كل شيء إلى ما بعد العيد، كل شيء تأجل أصلاً وكل ما عليك فعله هو تقبل هذا الواقع...

ولا داعي لذكر كل العادات الأخرى التي تُشوه شهر رمضان، بدايةً من النهم الذي نستغرق فيه وكأن هذا الشهر لا يهدف إلى أظهار قدرتنا على الاعتدال والاحتمال، وهذا النهم يترافق مع التبذير المُفزع الذي نمارسه في هذا الشهر. وبالطبع المسلسلات والبرامج التي تكاد تكون إجبارية في رمضان، فلابد من متباعة برنامج مسابقات واحد على الأقل، ومسلسل تاريخي، ومسلسل مصري، ومسلسل سوري، ومسلسل خليجي، وبلا شك فإن وجبة الإفطار يجب أن ترافقها البرامج والمسلسلات الليبية الرائعة!

إن آثار الشهر الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية السلبية التي تُصيب المجتمع لا تتساوى إطلاقاً مع آثاره الإيجابية من الناحية الروحانية، وربما بدرجة أقل من الناحية الاجتماعية. (الناحية الاجتماعية نذكرها مرتين لأنها تتفاوت بين سلبيات اختلال النظام اليومي، ومتابعة المسلسلات، والتقيد بعادات النهم والتبذير، وبين إيجابيات أثر الإيمانيات – ولو كان مؤقتة – على علاقاتنا الاجتماعية، وتقوية بعض العلاقات العائلية، والسهر الذي لابد أن يكون في رفقة لطيفة من الأقارب أو الأصدقاء... فالأمر في هذه الناحية فيه سلبيات وفيه إيجابيات..) ولذلك بكل صراحة، ومن وجهة نظري الشخصية قبل كل شيء، أُحس بأن سلبيات شهر رمضان على حياتنا هي أكثر من إيجابياته، لأن قيم ومبادئ الشهر المبارك عندنا، بالتحديد القيم الروحانية، قد اختلطت بالقيم والمبادئ المادية، التي قد يفرضها علينا المجتمع نفسه بالعادات والتقاليد التي نتوقعها من بعضنا البعض...

ولكن، ولكي لا يكون الأمر كله ذكراً للسلبيات، فهنالك بعض الإيجابيات... أولها ما مررنا عليه من تغيير في عقلية الناس، ولو كان تغييراً ظاهرياً مؤقتاً، إلا أن الدين والأخلاق دائماً تُصنف على أنها أمور محمودة، ولو كانت مختومة بتاريخ صلاحية... وأيضاً لا نُنكر أن الشهر له دور جيد في تقوية العلاقات الاجتماعية إلى حدٍّ ما بتكثيف التواصل والزيارات، التي ربما قد تكون مجرد استمرارية لما يتوقعه المجتمع منا (يجب أن تزور أقاربك وتهنئ معارفك بالشهر وإلا ستكون فضيحة!) ولكن هذا التواصل يتميز بأنه اجتماعي بالدرجة الأولى، فحتى لو كان بسبب عادات وتقاليد المجتمع، فهو لا يحدث بسبب مصالح شخصية مثلاً، ولكنه مجرد تواصل اجتماعي محض، وهذا هو ما يُقوي العلاقات: أن تزور أو تتواصل مع الناس فقط لغاية الزيارة أو التواصل.

الشيء الآخر الذي تبادر إلى ذهني واعتبرته من إيجابيات شهر رمضان هو إيقاظ الإنسانية في داخلنا... ففي هذا الشهر الذي نشتكي منه تحت المكيفات وأمام التلفزيونات، في هذا الشهر الذي نتخيل فيه أننا نعاني! في هذا الشهر نُحس بمعاناة الآخرين... ففي أعماقنا نحن نعلم بأننا لا نعاني أبداً، على الأقل أغلبنا كذلك، ولذلك فنحن نُدرك حقيقة معاناة الآخرين... معاناة النازحين والمهجَّرين... معاناة اليتامى والفقراء... لا نختبر معاناتهم، كلا، ولكننا لمدة شهر واحد في السنة نشعر بالخجل الحقيقي تجاه عدم رضانا، ونعلم بأننا لا نعاني إطلاقاً، وإنما فقط (نتدلع)! الإنسانية تستيقظ في قلوبنا لأننا نُدرك أننا نخدع ذواتنا برثاء أنفسنا، ولذلك فنحن نتعلم معنى صعوبة رمضان الحقيقية، فلا نعود نمر على الفقراء والمساكين بلامبلاة أو بتضايق، ولكننا نمر عليهم بحزن، ونحمد الله... لا نعود نُقلب محطات الأخبار كلما رأينا دمار سوريا وشقاء أهلها، ولكننا نتوقف، ولو للحظة قصيرة جداً، وندعو الله أن يُخفف عنهم ويُهوِّن عليهم في هذا الشهر... الناس دائماً يقولون بأن من عِبر شهر رمضان أن نُحس بمعاناة الآخرين، ولكن أظن أن العبرة الحقيقية ليست في أن نُحس بمعاناة الآخرين، ولكن على الأقل أن نفتح أعيننا على النعيم الذي نعيش فيه ونحمد الله...

إيجابيةٌ مؤلمة... ولكنها إيجابية... شهرٌ من الإنسانية...

الجانب الإيجابي الآخر في شهر رمضان، الذي لا يمكنني تجاهله، هو النشاط الروحاني... فبعيداً عن قصة (المظاهر المؤقتة) فإننا في هذا الشهر نختبر حقيقة أن الإسلام أسلوب حياة... إنه بلا شك شيءٌ مؤسف أن يكون ذلك في شهرٍ واحد فقط طوال السنة، ولكنها خطوة نحو الإدراك... هذا هو الشهر الوحيد الذي تُصبح فيه الصلاة أمراً ضرورياً، مسألة حياة أو موت! بلا شك الصلاة كذلك لكثير من الناس طوال السنة، ولكن لا داعي للحديث بالمثاليات، نحن نحاول أن نتحدث بصراحة هنا، في الأيام العادية قد نترك الصلاة، وبلا شك نؤخرها، ولكن في هذا الشهر لا يمكن أن يحدث هذا... بل الأمر هنا لا يتوقف عند الفروض، بل حتى النوافل تأخذ مركزاً مهماً في حياتنا، وأبرز مثال هو صلاة التروايح. هذا عدا عن بقية العبادات التي تقترن بأيام هذا الشهر، فتصبح الأدعية عادةً يومية، والمسبحة لا تُفارق أيدينا، والقرآن ننفض عنه الغبار ونقرأه بنفس الشغف الذي يتابع به البعض المسلسلات! إنها مقارنةٌ مؤسفة، ولكنها حقيقية. الإسلام يُصبح بالفعل أسلوب حياة، وتصبح العبادات عاداتٍ يومية: الإيمان والروحانيات تُصبح من المسلمات. والتغيير الإيجابي هنا هو أننا لا نُمارس العبادات في بقية أيام السنة بنفس المثابرة وبنفس الخشوع، ناهيك عن أن الأمر يصبح طبيعياً جداً، فالشخص الذي قد يداوم على قيام الليل مثلاً في الأيام الأخرى قد يبدو لبعض الناس وكأنه يتكلف ذلك أو يُتعب نفسه، والشخص الذي يداوم على قراءة القرآن في ظروفٍ عادية قد يُثير استغراب الناس، خاصةً وأننا اعتدنا على أن القرآن هو لأوقات الضيق، والدعاء هو عند الحاجة، والتسبيح هو لغسل بعض المعاصي، والصلاة مجرد روتين يومي، والإسلام دين آبائنا وأجدادنا... ولكن في هذا الشهر يتقبل المجتمع الإسلام كأسلوب حياة حقيقي، وتصبح العادات والتقاليد الاجتماعية بالفعل إسلامية، وليست فقط قبلية أو حسدية أو مادية...

بلا شك، هنالك إيجابياتٌ وسلبيات كثيرةٌ أخرى قد يتحدث عنها البعض، على حسب السياق الذي يُطرح فيه الموضوع، ديني، اجتماعي، اقتصادي... ولكن هذه فقط بعض الإيجابيات والسلبيات التي تبادرت إلى ذهني في هذه الأيام الأولى لهذا الشهر...

مجرد فضفضة في الأغلب لا تعني شيئاً، وبلا شك فهي تعنيني شخصياً قبل أن تعني أحداً غيري... ولعل هذه أبرز إيجابيات شهر رمضان المبارك، فبالرغم من كل النوم، وكل المسلسلات، وكل النهم، بالرغم من كل ما يُخدرنا في هذا الشهر، إلا أننا بالفعل نختبر فيه يقظةً حقيقية...

وكل عام والأمة الإسلامية كلها بخير، وكل عام وكلنا مستيقظون...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق