الأحد، 21 يوليو 2013

خواطر عن خواطر...

شهر رمضان يرتبط عندنا بأشياءٍ كثيرة، بدايةً من الأمور الدينية كالصلاة والقرآن والتوبة، والروحانيات بصفة عامة، وانتقالاً إلى الأمور الدنيوية كالطعام، والطعام، والمزيد من الطعام، والسهرات، والمسلسلات، والنوم (الاسم العلمي له يجب أن يكون: السُبات الرمضاني...). أشياءٌ كثيرةٌ جداً ترتبط بهذا الشهر. جزءٌ منها لا أهتم به بسبب التقصير، وجزءٌ آخر لا تسمح به الحياة نفسها، وأجزاءٌ كثيرة لا أهتم بها وحسب. ومن بين الأمور التي لا أهتم بها إطلاقاً: المسلسلات (هذا ليس تنظيماً للوقت، أو ترفعاً عن متابعة التلفاز، أو غير ذلك من أمور، هو فقط عدم وجود اهتمام...).

ولكن، في الأيام الماضية، لفت شخصٌ ما انتباهي لأحد هذه المسلسلات، أو بالأحرى أحد البرامج، ألا وهو برنامج (خواطر) الذي يقدمه (أحمد الشقيري). البرنامج شهير لدرجة لا يحتاج معها لأي تقديم، وأظن أن دخول البرنامج جزأه التاسعة هو أفضل شاهدٍ على نجاحه. ولكن هل هذا النجاح حقيقي؟ أعني هل له آثارٌ ملموسة؟ فالحقيقة أنني رغم إعجابي الكبير بالبرنامج، إلا أنني لازلتُ غير معجباً إطلاقاً بمتابعي هذا البرنامج!


في الأيام الماضية شاهدتُ حلقةً أو حلقتين من البرنامج على اليوتيوب، وكل حلقة لها عدد مشاهدين ما بين 400 و500 ألف، وقد يصل إلى أكثر من مليون مشاهد. هذا على اليوتيوب وحده، دون تعداد مشاهدي البرنامج على التلفاز على كل المحطات التي يُبث عليها. فالسؤال الذي يطرح نفسه – حول نجاح البرنامج من عدمه – هو كم عدد مَن يتعلمون من البرنامج؟ أي كم عدد الذين بالفعل يشاهدون البرنامج لتنمية أفكارهم وتطوير الحياة في مجتمعاتهم وحل مشاكلها؟ لو قام بتطبيق ما يُعرض في البرنامج فقط 10% من متوسط مشاهدي كل حلقة (على اليوتيوب مثلاً، 50 ألف...) لو قام هذا العدد فقط بتطبيق ما يتعلمونه من البرنامج لصُنف الأمر على أنه ظاهرة اجتماعية، ولتناقلته وسائل الإعلام، ولكان نجاح البرنامج يتجاوز فترة بثه في شهر رمضان فقط. أُدرك أن للبرنامج مشاريعاً وجميعاتٍ يدعمها ويحاول عن طريقها تطبيق ما يتم بثه من أفكار، ولكن بصراحة المرء لا يسمع ولا يرى أي آثر حقيقي يدل على انتشار واقعي لنجاح البرنامج يكون موازياً لانتشار نجاحه المرئي أو التلفازي!

هذا الأمر لا ينعكس على البرنامج أو على أحمد الشقيري وغيره ممن يعملون على البرنامج. فأنا شخصياً أرى أن البرنامج حقق نجاحاً نادراً جداً في هذا العصر؛ فقد تمكن من اختراق حواجز الجهل المنصوبة أمام عقولنا؛ فالبرنامج بأسلوبه الممتع وطريقة تواصله البسيطة مع الناس ينجح في نشر أفكار تقدمية رائعة، بدايةً من الإشارة الصريحة لمشاكل مجتمعاتنا العربية ونشر الوعي حولها، انتقالاً لعرض حلول تبنتها دول أخرى بدرجة تجعلنا نشعر بالأسى والخجل في نفس الوقت، ووصولاً إلى إعادة إحياء القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية على أنها من أهم ركائز الحضارة.

وهذا كله بالطبع مرتبطٌ بالنظرة الدينية الإصلاحية – والتقدمية – التي يتسم بها البرنامج؛ فقد أُعجبتُ بصراحة بأسلوب تفكير أحمد الشقيري الرائع، خاصةً في ربطه الدقيق لنصوص القرآن والحديث بحياتنا اليومية وبعالمنا بالطريقة الرائعة التي تجعلنا فعلاً نُدرك أن الدين هو أسلوب حياة، وليس فقط رياضةً نمارسها في المساجد، أو كما هو الحال في رمضان: مسابقة لمن ختم القرآن دون وعي، ولمن صلى التراويح كل ليلة خشيةً من أن يُسجل غائباً! شاهدتُ جزءاً من حلقة عنوانها "الذهب الأخضر" تتحدث عن صناعة القهوة، ودورها في تنمية الاقتصاد البرازيلي، والفرص الضائعة على دول عربية مثل اليمن في هذا المجال... الحلقة تتحدث عن القهوة، ولكن فكرتها الرئيسية هي في الاستغلال المُثمِر لقدرات الدول وثرواتها. في أحد المشاهد يذكر أحمد الشقيري، وهو يقطف حبة قهوة من إحدى الأشجار، الآية الكريمة التي يقول فيها المولى عز وجل: ((فلينظر الإنسان إلى طعامه))، فوراً أحسستُ بعمق هذه الآية: ياه! هل يفكر الواحد منا في كل العمل والفوائد الاقتصادية – وبالتالي الاجتماعية – التي ترتبط بالطعام الذي نتناوله؟ قطاع القهوة في البرازيل يوظف نحو 5 ملايين إنسان، يُسمونه عندهم الذهب الأخضر، بنوا موانئاً بسبب تصدير القهوة، عمليات تحديد جودة القهوة تؤثر في البورصة نفسها لشدة حرصهم على هذا المنجم الاقتصادي... أبعاد خيالية تُحيط بحبة القهوة الصغيرة هذه، فنُدرك أن معجزة الخلق نفسها ((أنَّا صببنا الماءَ صباً ثمَّ شققنا الأرضَ شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائقَ غُلباً وفاكهةً وأبَّاً متاعاً لكُمْ ولأنعامكُمْ)) هذه المعجزة هي فقط الحلقة الأولى في سلسلة كاملة من المعجزات – أو الإنجازات البشرية التي يمكن أن تكون معجزات – التي لا ندركها أبداً ونحن نشرب فنجان القهوة! كم أعجبتني هذه الوقفة (الواقعية) مع تلك الآية الكريمة...

أحمد الشقيري، ببرنامجه خواطر، نجح نجاحاً عظيماً في اختراق حواجز الجهل. في حلقة واحدة تتعلم عن (حزام القهوة)، وعن أصل كلمة Mocha (ميناء مخا في اليمن، التي كانت أكبر مصدر للقهوة في العالم)، وتعرف معلومةً عن الذكاء الاقتصادي للدولة العثمانية التي كانت تمنع تصدير حبة القهوة من اليمن دون سلقها لتحول دون إعادة زرعها وتحافظ على ريادة اليمن في مجال القهوة، وتتعلم عن صناعة القهوة، وآثارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضاً، وفوق كل ذلك تتعلم الكثير عن الأخلاق والقيم العُليا، وتتذكر أن الدين أسلوب حياة... كل هذا تتعلمه في حلقة واحدة، خفيفة ظريفة، أسلوب عرضها ممتع وشيق، مدتها لا تزيد على 20 دقيقة. نعم، لقد اخترق أحمد الشقيري حاجز الجهل بقوة كبيرة، وأنا أراه اليوم في مصاف أشخاص مثل الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله ودوره في نشر القرآن وفهمه بين الجميع بعد أن كان – ومازال للأسف – حكراً على العلماء، ومصطفى محمود رحمه الله ومشروعه الفكري (وبالتحديد برنامجه: العلم والإيمان)، ومثل عبدالوهاب المسيري أيضاً وغيرهم الكثير، وأيضاً مثل الأمريكي كارل ساجان الذي أكتسب وصف Science Popularizer مُروِّج أو ناشر للعلم، كزملائه في ذلك بيل ناي، وإسحاق أزيموف، ونيل دي قراسي تايسون... ليس من السهل أن يُحقق المرء مثل هذا الإنجاز، أن يخترق حواجز الجهل الصلدة، وينقل العلم والتطور من على الأرفف المُغبرة ومن الكتب المهجورة أو من داخل أماكن العلم الخاوية على عروشها (المساجد، والجامعات، والمعامل، ومراكز الأبحاث والدراسات...) ليس من السهل إطلاقاً أن ينقل المرء العلم من مواقع ولادته وحفظه ويقدمه إلى الناس في حياتهم، بل يجعل الناس يتهافتون عليه، ويجعل العلم والثقافة جزءاً من حياتهم اليومية... لقد نجح أحمد الشقيري ببرنامجه خواطر في أن يكون من بين الناس الذي حرصوا على أن تصل رسالتهم النبيلة إلى أكبر عدد ممكن، وتمكن من التغلب على عقبة عصر السرعة، وفي تسخير وسائل الاتصال الحديثة لإيصال هذه الرسالة.

نعم، أحمد الشقيري – ببرنامج خواطر – قد نجح نجاحاً باهراً، وحقق ما عجز كتابٌ ومفكرون ومصلحون كثيرون عن تحقيقه... ولكن – وهذا ما أعنيه بتساؤلي عن (النجاح الفعلي) لهذا المشروع – هل نجحنا نحن؟

يؤلمني، ويزيد من تشاؤمي – الذي يبدو أنه لا نهاية له – أن نكون قد استفدنا من هذا البرنامج في إيجاد موضوع جديد نتحدث فيه في سهراتنا، معلومات عامة جديدة نتباهى بها، وموضوع مشترك للنقاش – شيئاً جديداً نقتل به الوقت بدلاً من أن نستغله. الأثر الحقيقي للبرنامج لا أستطيع أن أجده... ربما انعزالي، أو عدم متابعتي الجادة للأخبار، أو غير ذلك من أمور تحول دون التقاطي لبعض هذه الآثار، ولا أنكر بالطبع أن هنالك العديد من المشاريع المتواضعة التي تظهر هنا وهناك في عالمنا العربي، ولكن، ألا يجب أن يتوافق أثر البرنامج الواقعي مع درجة انتشاره ونجاحه الإعلامي؟!

في ليبيا، هنالك الكثير من المجهودات الفردية، والجمعيات الخيرية والمدنية التي تبذل مجهودات كثيرة في سبيل نشر الوعي والتغيير والإصلاح (بالطبع أغلبها، إن لم تكن كلها، قد ظهرت بعد الثورة، ولكن الاستبداد السياسي لا يحتاج بالضرورة لأن يؤثر حتى على تطورنا الفردي، وإن كان له أثر كبير في ذلك، إلا أنه لا يحول دون ذلك بشكل مطلق). مجهودات كثيرة غالباً لا تستمر، لأسباب عديدة، لعل أبرزها هو أنها مجهودات مشتتة. ولكن وبصفة عامة لا يوجد أي أثر اجتماعي واسع للإصلاح. فأين ذهب نجاح برنامج خواطر؟ الناس يتابعونه في ليبيا بكثرة وبحماس، ويتحدثون عنه طوال الوقت... ولكن بدون أي نتائج ملموسة على أرض الواقع... أظن أنه كان هنالك عمل من نوعٍ ما لجمعية مرتبطة بالبرنامج، لكن كغيرها من مئات الجمعيات كان عملها متواضعاً ومغموراً.

الأثر الوحيد للبرنامج في ليبيا – من ملاحظتي الشخصية – هي استبدال وصف (سويسري) بوصف (ياباني)!

في ليبيا، حين يريد شخصٌ ما السخرية من شخصٍ آخر صدر عنه فعل أو قول فيه نقد للشعب الليبي، فإنه يقول له: (يا سويسري...) في إشارة ساخرة إلى أنه بنقده لشعبه وكأنه يقول بأنه أفضل من أن يكون (ليبياً)! بالطبع هو تعليقٌ ساخر وفيه كمية كبيرة من الاستهزاء... وبعد أحد أجزاء برنامج خواطر، الذي كان يُركِّز على اليابان تقريباً، أصبح الناس يقولون: (يا ياباني...)!

هذا الأثر الوحيد الذي لمسته للبرنامج في الساحة الليبية! تطور في ألفاظ السخرية والاستهزاء!

إنه إدراكٌ مؤلم... ما الذي تحتاجه شعوبنا لكي تعتنق فكرة؟ ما الذي تحتاجه لكي تتغير فعلاً؟ ما الذي يمكن لأي شخص فعله ليستطيع هدم جدران الجهل بدلاً فقط من اختراقها ليجد أنه يقف وحيداً وراء خطوط العدو؟!!!

لا يمكننا أن نطلب أي شيء أكثر من أحمد الشقيري والعاملين على برنامج خواطر ومن يلفون لفهم في محاولة نشر الوعي والإصلاح... فهل نتوقع منهم أن يطرقوا على أبواب الناس ويجروهم جراً إلى التغيير والإصلاح؟ إنهم الآن يطرقون أبواب عقولنا، فكيف نعاملهم نحن؟! أظن أننا نعاملهم وكأنهم متسولون: يطرقون أبوابنا، ويطلبون مساعدتنا على التغيير والإصلاح، وكل ما يتحصلون عليه منا هو 20 دقيقة من الانتباه، ثم عبارة (الله كريم...).

بالرغم من كل المجهودات المشابهة التي تسقينا بقليلٍ من التفاؤل في صحراء اليأس هذه، إلا أن الشعوب العربية كفيلةٌ دائماً بأن تُسمم مشاربنا بالتشاؤم... يقولون أن التفاؤل والتشاؤم وجهان لعملة واحدة، في عالمنا العربي يبدو أن هذه العملة، مهما قلبناها في الهواء، لا تسقط إلا لتكشف لنا نقش التشاؤم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق