الاثنين، 29 أبريل 2013

هل مات معمر القذافي؟

منذ ما يُقارب سنتين، حين كانت الثورة ما تزالُ في خضم معركتها المصيرية، كتبتُ مقالةً تساءلتُ فيها مفزوعاً عما إذا كُنا قد عاشرنا القذافي أكثر مما يجب، وتخوفتُ من أن نُطبق ما تعلمناه من القذافي ونتفوق عليه لدرجة أن يأتي علينا يوم نقول فيه: (يا يوم من أيام معمر...)

ولكن اليوم تغيَّر تفكيري قليلاً: عبارة (يا يوم من أيام معمر...) لا نستطيع قولها؛ فهل انتهت أيام معمر لكي نتمنى عودتها؟! بل هل مات معمر القذافي أصلاً؟!

لا أتحدث هنا عن قانون العزل السياسي وعن (الأزلام)، فأي شخص عمل مع القذافي وقفز اليوم باتجاه السلطة، لم يقفز إلا وهو مطمئنٌ لأن سيده ميت وأن الساحة قد خلت له! ولا أتحدث أيضاً عن (الطابور الخامس) فهؤلاء مقتنعون بأن القذافي ليس ميتاً وحسب، بل شهيدٌ عظيم يجب الانتقام له! إن من أتحدث عنهم، سبب شكي في أن القذافي ما يزال حياً، هم نحن... الشعب السيد!


اليوم نرى اللجان في كل مكان! ونرى المنهج الثوري في الظلم والفكر الأخضر الأناني نشاطاتٍ شعبية تُمارس ولا يُتفرج عليها! نرى تطبيقاً عملياً لتحية الحب والوفاء للأخ القائد في عيده الرابع والأربعين! فيبدو أن بلد المليون حافظ لكتاب الله هي نفسها بلد الستة مليون حافظ للكتاب الأخضر! وأستغفر الله على جمع هذين الكتابين في نفس الجملة، فما بالكم بجمعهما في نفس العقل والروح! فهل من المعقول أن يكون القذافي ميتاً وعقيدته الفاسدة تُطبق بحذافيرها؟!

التعصب أصبح عُرفاً وعادة، نكاد ننافس العراق وسوريا ولبنان في سباق دول الطوائف المتناحرة! لقد اصطنعنا تعصباتٍ جهوية وقبلية وعرقية وإيديولوجية من العدم لكي يكون لدى كل منا ما يفتخر به ويدافع عنه بعد أن كنا جميعاً نفتخر بليبيا وندافع عن بعضنا البعض. حرية التعبير أصبحت حرية الكذب والقذف والتزوير، ناهيك عن أنها أيضاً حرية قلة الأدب والشتم والسب – حرية اللسان أصبحت اليوم حرية السوط الذي نجلد به كل من لا يقف في صفنا! أما الظلم فقد أصبح حقاً مشروعاً – بدلاً من المطالبة بحقوقنا أصبحنا نعتدي على حقوق الآخرين! ولكننا لا نظلم لأننا مجرمون مُستبدون معاذ الله! ولكن لأننا أبطال!!! الوطنية خرافة تضحك على تفاهتها الأنانية... الأخلاق مدفونةٌ في مقبرة الشهداء... الكرامة التي تنبع من داخلنا ونحترمها في الآخرين أصبحت هدفاً متحركاً لقذائف الحقد... العداة، أقصد الدالة، أقصد العدلة، نسيتُ هذه الكلمة فهي أيضاً ليست موجودة...

كل ما كنا نريده أن يتغير لم يتغير! وهذا سبب تساؤلي: هل مات القذافي؟ أم أنه يُقفل أبواب السجون السرية في الليل؟! هل قُتل القذافي؟ أم أنه يصقل أدوات التعذيب ويغسل الأرضيات من الدماء؟! هل رحل القذافي؟ أم أنه يُشير بإصبعه للصحفيين والإعلاميين الذين يُعتقلون ويُختطفون كل يوم؟! هل غادر القذافي؟ أم أنه ما يزال ينقر بمطرقته لافتتاح المهازل القضائية ويُوقع على الأحكام الظالمة؟! هل غاب القذافي؟ أم أنه مايزال يُصدر قرارات الاستبداد والوساطة، ويختم على الوكالات والعمولات الفاسدة؟! هل انتهى القذافي؟ أم أنه يتحدث بيننا اليوم بالقبائح والإهانات، ولا يحترم المرور والإشارات، ويعاكس ويغتصب البنات، ويحل مشاكله في الشوارع بالرصاص والمتفجرات؟! في كل يوم وفي كل مكان نرى ونسمع عن القذافي! ولذلك أريد أن أعرف: هل مات ودُفن في قبرٍ غير معلوم؟! أم لعله حيٌّ ومدفونٌ في عقول ستة ملايين ليبي؟!!!

هنالك صورة كاريكاتيرية منتشرة على الإنترنت، فيها يمسك رجلٌ ليبي بجثة القذافي، بعد أن أخرجه من قبره، ويسأله بحنقٍ وحسرة: (أين الشعب الليبي الطيب؟)... الشعب الليبي الطيب؟!!! ما هذه الخرافات؟! جميعنا ليبيون، وجميعنا نعرف أنه لو كان شعبنا طيباً وكريماً وخلوقاً ونبيلاً لما بقيَّ القذافي في الحكم 42 سنة. وهذا سبب تساؤلي عن موت القذافي، فأنا لا أبحث عن الشعب الليبي الطيب (الخرافي!)، ولكنني أبحث عن الحرية، الكرامة، الأخلاق، العدالة، أين كل ما قيل لنا بأن الثورة قد جاءت لتُعيده لنا؟! فهل مازال القذافي حياً يقمع ويخنق هذه القيم؟! أم لعله دُفن دون أن يتم تفتيش جثته؟!!!

هنا أرغب في أن نأخذ استراحة فلسفية قصيرة...

ديننا الإسلامي هو دين الفطرة. نَصِفه بأنه دين الفطرة ليس فقط لأننا نؤمن بأنه الدين الحق، ولكن لأنه أيضاً يُوافق الطبيعة الإنسانية، مثال ذلك  أن الإسلام من أكثر (إن لم يكن أكثر) الديانات التي تُوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد. ولكنني هنا أريد الإشارة إلى فكرة أخرى حول الفطرة، وهي أن فطرة الإنسان الطبيعية هي الخير. الشيخ محمد الغزالي رحمه الله استدل على هذه النظرية بالإشارة إلى أن الكثير من الكُتاب والمفكرين الغربيين (غير المسلمين) حين يناقشون الأخلاق ومفاهيم الخير والشر فإن بعضهم يوافقون تعاليم الإسلام ويصلون إلى أن الفطرة الإنسانية هي الخير. وهذا يدل أولاً على أن الإسلام هو دين الفطرة، ويدل ثانياً على أن فطرة الإنسان هي فطرة الخير – الطبيعة البشرية السليمة هي الخير، والشر ما هو إلا تشوهٌ وانحراف.

هذه المقدمة عن الفطرة تُيسر لنا فهم ما كان يعنيه الكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو حين قال بأن الثورة لا (تخلق) أي شيء، ولكنها فقط (تكشف) ما يستحق أن نثور من أجله ونطالب به وندافع عنه؛ فالثورة لا تخلق الإنسانية، ولكنها تُحرر الذات الإنسانية التي تستحق الدفاع عنها. الثورة إذاً لا تأتي لنا بشيء جديد، لا تُحضر لنا الحرية والكرامة والأخلاق والعدالة، ولكن الثورة فقط تكشف لنا هذه الأشياء – تكشف لنا فطرتنا الطبيعية التي كان يقمعها الاستبداد... وهذا ما حدث في بداية ثورتنا، اكتشفنا فطرتنا الإنسانية الطبيعية، اكتشفنا الحرية والكرامة والأخلاق والعدالة، وأكملنا ثورتنا بهذه الفطرة وانتصرنا بها ولأجلها...

واليوم اختفت فطرتنا الإنسانية السليمة!!! عدنا للظلم والفساد والانحراف – عدنا لدفن فطرتنا الإنسانية تحت أكوام الأنانية.

وهذه المسيرة الغريبة: اختناق فطرتنا الإنسانية في سجن الظلم والفساد، ثم قيام الثورة لتحرير هذه الفطرة، ثم بدء الانحراف شيئاً فشيئاً، ثم العودة لسجون الظلم والفساد، هذه المسيرة الغريبة هي التي دفعتني للتساؤل في مقالة سابقة: لماذا قامت الثورة؟! نحن اليوم نحارب الحرية والكرامة والأخلاق والعدالة: نخطفها بالفوضى، ونسجنها بالأنانية، ونعذبها بالظلم إلى أن تعترف لنا بمصالحنا، ثم نقتلها! فمن غير المعقول أن نقول بأن سبب الثورة كان إسقاط القذافي لإطلاق سراح تلك القيم الإنسانية! ولذلك أشك بأن معمر القذافي ما يزالُ حياً يُشرف علينا في تطبيق منهجه في قتل ودفن تلك القيم؛ فإن قُلنا بأن معمر القذافي ميتٌ ومدفون فكيف تكون هذه القيم مدفونةً أيضاً؟! وهنا تبدأ المعضلة: إذا كان معمر القذافي ميتاً ومدفوناً، وتلك القيم – تلك الفطرة الإنسانية السليمة – هي أيضاً ميتة ومدفونة، فلماذا قامت الثورة إذاً؟! ألم يكن سبب الثورة إسقاط القذافي وإطلاق سراح الحرية والكرامة والعدالة والوطنية؟! أم أن سبب الثورة كان إسقاط (احتكار) القذافي للاستبداد والظلم والفساد؟!!!

إذا كان سبب قيام الثورة هو بالفعل حسدنا لمعمر القذافي، ورغبتنا في أن نكون جميعاً معمر القذافي! إن كان هذا هو السبب فلا داعي لأن يتململ أحد ويشتكي: (يا يوم من أيام معمر...) فأيامه مازالت موجودة بفضلنا نحن الذين أسقطنا القذافي لنحمل لواءه، وأنهينا سلطانه لنُقسمه فيما بيننا...

وبمناسبة هذا الإدراك المؤلم فإنني أود تقديم اقتراح...

لم يعجبنا أن يُذكر الملك إدريس السنوسي رحمه الله في النشيد الوطني، ربما لأننا لم نعد نحب تقديس الأشخاص (بغض النظر عن الرموز الوطنيين والشخصيات الوطنية والأبطال والمناضلين وكل الذين نُقدسهم ونمجدهم اليوم وهم لم يقدموا للوطن ربع ما قدمه الملك!)، أو ربما لم نكن نريد أن يظن أحد بأننا ندعو لإعادة الملكية، أو لأي سبب آخر، المهم أننا نحذف المقطع الذي يتحدث عن الملك إدريس في النشيد. وبما أن القذافي ميت، ولكننا نُبقي ذكراه وأمجاده حية بتصرفاتنا اليوم! فإنني أقترح إدراج المقطع التالي في النشيد كبديل للمقطع الذي يذكر الملك إدريس، وتماشياً مع واقعنا المُحزن:

حيِّ معمر القذافي اللعين *** إنه في ليبيا رمز الفساد
زرع فينا سمات الظالمين *** وتبعناه لتدمير البلاد
فأمسينا لقيم الثورة قاتلين *** وانتقلنا من أفراحٍ لحداد
قيماً    ميتةً
عظم الله أجركم في الوطن
ليبيا، ليبيا، ليبيا

مع الاعتذار على ركاكة اللغة والأوزان... ولكنها ليست أسوأ من ركاكة الفطرة والقيم الإنسانية...

وبخصوص موت معمر القذافي... فيبدو أنه بالفعل ميت... ويبدو أيضاً أن الأستاذ ميلاد السوقي كان مُحقاً حين قال بأن معمر القذافي واحد مات وبقيَّ ستة مليون!

((إنَّ اللهَ لا يُغيرُ ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفُسِهِم)) [الرعد: 11]
((ما أصابكَ مِن حسنةٍ فمِن الله وما أصابكَ من سيئةٍ فمِن نفسكَ)) [النساء: 79]
((أوَلمَّا أصابتكُم مُصيبةٌ قد أصبتُم مِثليها قُلتُم أنَّى هذا قُل هو مِن عندِ أنفُسِكُم إنَّ الله على كُلِّ شيءٍ قدير)) [آل عمران: 165]
((ظهَرَ الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كَسَبتْ أيدي الناسِ ليُذيقهُم بعضَ الذي عَمِلوا لعلَّهُم يَرجِعُون)) [الروم: 41]
 ((وما أصابَكُم مِن مُصيبةٍ فبِما كَسَبتْ أيديكُم ويعفو عن كثيرٍ)) [الشورى: 30]
((ذلك بأن الله لم يَكُ مُغيراً نِعمةً أنْعمها على قومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهِم وأنَّ اللهَ سميعٌ عليم)) [الأنفال: 53]

ليبيا المستقبل: 27 أبريل 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق