الاثنين، 27 أكتوبر 2014

الخطوة الأولى للخروج من حلقة مفرغة...




الأمر يحدث من جديد... على مراحلٍ متفرقة، وفي اتجاهاتٍ مختلفة، ولكننا ندور في نفس الحلقة...

ما الذي يحدث؟ الانتقام، شيءٌ عادي، الإقصاء، الفاشية، التهميش، إلخ... كل هذا يحدث من جديد، ولكن هذه المرة يحدث لعدة أسباب، ولعدة فئات، ولعل هذا سبب وضوح بشاعته أمامنا اليوم، فبالأمس كان أغلبنا يقفون مع الفئة الغالبة، مع من يُمارسون الانتقام، بالأمس كنا نصطاد الأزلام، ونُقصي الناس بناءً على أسمائهم وقبائلهم ومُدنهم، نحرق بيوت بعضهم، ونقتل آخرين، ونُهجِّر من ينجو من نيراننا ورصاصنا... بالأمس كنا جميعاً نقف في صفٍ واحد، نمارس الانتقام متحدين، نمارس الفاشية بلحمةٍ وطنية! فلم يكن الأمر يبدو بشعاً حينها، بل كان يبدو بكل أُبهة وجمال الوطنية! ولكن اليوم اختلف الأمر، اليوم انقسمنا في ممارسة هذا الانتقام، ومن يأخذ خطوةً للوراء سيتمكن من رؤية بشاعة كل المنتقمين، وسيتمكن من رؤية بشاعته هو نفسه...

في بنغازي بدأ الأمر بالانتقام من الأزلام، ثم انتقلت الغلبة للفوضى - للجريمة والإرهاب – ليبدأ الانتقام من رجال الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والنشطاء على مختلف مشاربهم (سياسيون، حقوقيون، إنسانيون...)، والآن يبدو واضحاً في الأفق بأن دورة الانتقام ستنتقل مع انتقال الغلبة، وسوف تبدأ سلسلة جديدة من الانتقام من مؤيدي أنصار الشريعة ومجلس شورى ثوار بنغازي، وحتى وإن قلنا بأنه قانونياً تجب ملاحقة المتورطين، فإنه لا يمكن بأي قانون ملاحقة غير المتورطين، ولو كانوا مؤيدين أو يميلون بآرائهم لتلك الأطراف، ولكن الانتقام ليس عدالةً قانونية! سوف نأخذ المؤيد بجريرة المتورط، وسوف نتهم أي شخص كان ثائراً في يومٍ من الأيام بأنه مؤيدٌ أو حتى متورط، ولن ننسى التوجس من مؤيدي الإسلام السياسي أو حتى الفكر الإسلامي، وسوف تستمر الحلقة الانتقامية، سوف تنتقل بانتقال الغلبة من طرفٍ لآخر... كذلك الأمر في طرابلس، نراه اليوم واضحاً، فبعد أن طال "الأزلام" فترةً من الزمن، واستمر يطالهم، بدأ الصراع الانتقامي بين الأطراف المتنازعة على السلطة حين كانت الغلبة غير واضحة وكان الانتقام يمارس بالتساوي بينهم، ولكن الآن بعد أن استقرت الغلبة لطرفٍ معين أصبح الانتقام مُحتكَراً من قِبل هذا الطرف. وسيستمر الأمر هكذا، إلى أن تنتقل الغلبة من جديد وتُسلِّم شعلة الانتقام لطرفٍ آخر...

والانتقام لا يعرف شيئاً سوى الدمار، أعني أنه لا يعرف ما هي الديمقراطية، لا يعرف ما هي حرية التعبير، لا يعرف ما هي الحقوق الإنسانية، الانتقام لا يعرف حتى القانون، كل ما يعرفه أنك إن لم تكن معه فأنت يجب أن تكون في السجن أو المقبرة. جميعنا رأينا الأمر يحدث في مصر... فرحنا بدايةً بإزالة الحكم الإخواني الفاشل، ولكن سرعان ما انقلبت فرحتنا فزعاً بسبب مبالغة الجيش في الانتقام. وهي مبالغة اعتنقت الفاشية بكل صراحة، وانطلقت تقمع وتسجن يميناً وشمالاً، راميةً بعرض الحائط كل الخطابات والوعود عن الحفاظ على الديمقراطية والحرية، وهذه الفاشية في حد ذاتها ساعدت في خلق المزيد من الإرهاب، والإرهاب أو الجرائم الدينية والوطنية، دائماً تجد مبرراتها في الفاشية والاستبداد – الأمر مجرد حلقة مفرغة من الظلم. ولكن، ما حدث في مصر لا يمكن أن يحدث في ليبيا، فالغلبة عندنا لا يمكنها الآن أن تحقق على نطاق وطني شامل، أعني أنه لا يوجد طرف يستطيع السيطرة على البلاد كلها وممارسة انتقامه من الحدود إلى الحدود، وإنما فقط كل طرف يمارس انتقامه في حدود سيطرته الضيقة، على مدينة واحدة أو بضعة مدن وحسب. وهذا الانتقام، مع الغلبة، بلا شك سيخلق إرهاباً مُبرَّراً في أعين مرتكبيه. فكما كانت اغتيالات وتفجيرات رجال الأمن والجيش والنشطاء في بنغازي مُبرَّرة طيلة الفترة الماضية في أعين مرتكبيها ومؤيديهم، فنحن نرى اليوم الفوضى والاغتيالات واقتحام البيوت وحرقها ضد الطرف الآخر قد أصبحت تجد من يبررها! وإن تحققت غلبة قوات الجيش والقوات الموالية لها ومؤيديهم في بنغازي، فلا أشك للحظة بأن هذه الانتقامات سوف تستمر، وسوف تعود معها الاغتيالات والتفجيرات ضد رجال الجيش والأمن والنشطاء من جديد، وسوف ندور في دوامة من تبرير الإرهاب من طرف وتبرير القمع من طرف آخر – حلقة مفرغة من الظلم! وواقع أن هذه الغلبة الانتقامية ليست شاملة، كما ذكرنا، يجعل من الأمر أسوأ وأسوأ؛ لأن الحساسيات المرتبطة بالمدن والقبائل أصبحت اليوم أكثر وضوحاً، بل أكثر صراحةً ووقاحة! أصبحت لدينا مدن إرهاب! ومدن أزلام!

ونتذكر تصنيفاتنا السابقة، بنفس هذا المنطق، أيام الثورة، ونخجل خجلاً عميقاً من أنفسنا...

وما فائدة كل هذا الكلام؟ فائدته عقيمة حسبما تقول ذاكرتنا الضعيفة، ففائدة هذا الكلام الوحيدة هي فقط التذكير بحتمية هذه الحلقة المفرغة، التذكير بحتمية دورة الانتقام... لعل التذكير بحتمية كل ذلك يدفعنا للتريث قليلاً في انتقامنا من بعضنا البعض، لعل التذكير بذلك يدفعنا للتفكير في المستقبل، للتفكير في كل العداءات التي ستتوارثها المجتمعات المتداخلة بين المدن، القبائل، الجيران، العائلات، الأصدقاء، الزملاء، كل تلك العلاقات الاجتماعية التي سوف تُحقن بعداءات وأحقاد جديدة، نضيفها لكل أحقاد فترة الاحتلال الإيطالي، وكل أحقاد فترة حكم القذافي، وكل أحقاد الثورة، والآن: كل أحقاد هذه الحروب الأهلية... لعل التذكير بذلك يدفعنا لتذكر المستقبل، وضرورة عدم إقصاء الآخر وضرورة إبقاء باب الحوار والاحتواء مفتوحاً على الدوام، وإغلاق باب الفاشية الإقصائية... لعل التذكير بكل ذلك يدفعنا لتقديم عقلانية وعدالة القانون على جنون وفوضى الانتقام... لعلنا فقط، حين نتذكر كل ذلك نتريث قليلاً، نأخذ نفساً عميقاً، ونقول: حسناً، لنكمل المشوار وأعيننا على بناء المستقبل، وليست فقط على الانتصار في الحاضر... ولعل ذلك أيضاً يدفعنا لمراجعة أنفسنا وتصرفاتنا السابقة، مراجعة كل تعصباتنا، كل ممارساتنا الانتقامية، كل أفكارنا الفاشية، لندرك أن الكثير من أفعالنا أثناء الثورة وبعد انتصارنا كانت خطايا انتقامية... بل ربما تكون هذه هي الفائدة الوحيدة لكل هذا الكلام: مراجعة أنفسنا، إدراك خطايانا الثورية-الوطنية، الاعتراف بذنوبنا، والاعتذار أولاً عن كل ما سبق... ربما هذه هي الفائدة الوحيدة، وهي بلا شك الخطوة الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق