الخميس، 21 أغسطس 2014

همسةٌ مُستجابة...

ورقٌ.
ورقٌ سيدي.
إنه ورق.
أشتهي ورقاً للكتابة سيدي
لم يعد ثمَّ مُتسعٌ فوق جلدي العتيقِ
كتبتُ عليه طويلاً
وندوب الجراح القديمة، تلك سطوري
ليقرأها الناس لو يقرأُ الناسُ جيلاً فجيلاً
سيدي. وثقوب سجائركَ المُطفأَهْ
فوق جلدي، نقاطكَ فوق حروفي
وإيقاعُ أغنيتي المرجأهْ

* * *
ورقاً. سيدي
أشتهي ورقاً للكتابه
كي أعيد الكتابه
أن موتي دُعابه..


ورحل سميح القاسم... رحل آخر شاعرٍ حقيقي في عالمنا العربي.. فارسٌ آخر في ركب اللغة العربية يسقط مع حصانه.. نبي شعرٍ آخر تُختم رسالته.. شيخٌ صوفيٌّ آخر يتلو ورده الأخير، صلاته الأخيرة، قصيدته العظمى، حياته الكبرى... يوقعها بموته: سميح القاسم. تنطفئ الأضواء في عالمه، ويُشعل سيجارةً في الظلام.

حين قرأتُ الخبر يوم الثلاثاء (19-أغسطس-2014)، حين قرأتُ الخبر، حين قرأتُ الألم، أصبح العالم أكثر ظلاماً.. أكثر اختناقاً.. أكثر قسوةً.. أكثر وحشةً.. فجأةً هكذا وفوراً: تغير العالم من حولي وفي داخلي.. تغير كل شيء... حاولت فوراً أن أتذكر كل تلك القصائد، كل تلك المقطوعات، كل تلك الكلمات التي كنتُ أنسخها على قصاصات الورق، أحملها في جيبي إلى كل مكان، وأحفظها فأحملها في صدري إلى كل مكان.. حاولتُ تذكُّر كل ما أحفظه له: ولكنني لم أستطع.. لعل حفظ أشعاره بروحي لم يكن سليماً، لعل روحي كانت مشغولةً وقتها بالنواح لا بالتذكر، لعل أشياءً كثيرة، ولكنني فقط لم أتذكر.. ووحيداً هكذا، واقفاً دون أشعاره وقصائده، غمرتني موجة الألم.. استخرجتُ بعض دواوينه، أردتُ أن أقرأ، ولكنني لم أستطع، لم أستطع أن أفعل شيئاً سوى أن أكتم الدموع في عيني: توقفي هنا تماماً.. توقفي فلن يُجدي البكاء في شيء، ولن ترحمه دموعي، ولن ترحمني أنا أيضاً.. الدموع ستكون فقط سؤالاً ممن حولي: ما الذي حدث؟!

وكيف أستطيع أن أقول لهم أنا أبكي على رحيل رجلٍ لم أقابله يوماً؟ كيف أقول لهم أنني أبكي على رحيل شاعر، فقط شاعر، مُجرَّد شاعر، شاعرٌ في زمنٍ تافهٍ انعكست فيه قيمة الأشياء، كيف أقول لهم أنني أبكي شاعراً وحسب؟ وكيف أستطيع أن أقول لهم بأن هذا الرجل البعيد، هذا الشاعر، يعني لي الكثير، يعني لي أكثر مما يعنيه بعض مَن هم حولي، أناسٌ أراهم أمامي ولا أقرأ كلماتهم فحسب، أشرب معهم القهوة ولا أقرأ عنها في قصائدهم، كيف أستطيع أن أقول لهم: هو بالنسبة لي أكثر، أكثر من كثيرٍ منكم، أكثر بكثير... وكيف تشرح لهم بأن رحيل هذا الرجل يؤلمك بعمقٍ حقيقي وأنت تدرك أنهم سيقولون لك: العالم غارقٌ في الحرب والقصف والموت، وأنت تبكي رحيل شاعر؟!

كيف كل هذا الصراع مع العالم من حولي؟ وماذا يجدي؟ وماذا تجدي الدموع؟ وماذا يجدي أي شيء أمام كل هذا الرحيل، كل هذا الفراق، كل هذا الألم...


كتمتُ الدموع مرةً ومرتين وثلاثٍ وأربع البارحة... حين سمعتُ خبر رحيله، وحين حاولت قراءة شعره، وحين تذكرته أكثر من مرةٍ وأنا أحاول أن أنسى...

ياه يا سميح... كم هو مؤلمٌ رحيلك هذا.. ماذا سيبقى لنا الآن إذاً؟ دواوينٌ وحسب؟ أعلم أن روحك هي في كل حرفٍ كتبته، ولكن، هنالك وجود، وهنالك آثار.. أن تقول هنا سميح، ليس كأن تقول هنا كان سميح... فمن بقيَّ لنا سواك اليوم؟ من بقيَّ لنا من أبطالٍ خرافيين؟ نعم، أبطالٌ خرافيون، أساطيرٌ ملحمية، جنباً إلى جنب تقف مع كل أولئك، مع بروميثيوس سارق النار، مع أوديسيوس ورحلته الطويلة مع لغز الحياة، ومع جلجامش ورحلته الطويلة مع لغز الموت، مع المهلهل وقصيدة ثأره غير المنتهية، مع عنترة وجراح المعارك والحب والكرامة، مع المتنبي وقصيدة الخلود، ومع المعري وقصيدة البصر، مع صلاح الدين ومعركة المستقبل... من سيبقى لنا من أبطال الأساطير بعد أن انتهت رحلتك الأسطورية أنت أيضاً؟ هل سيبقى العالم كله مجرد رواياتٍ بلا رُواة؟ مجرد قصصٍ بلا كُتَّاب؟ مجرد بطولاتٍ بلا أبطال؟ كيف سنجد نحن بداياتنا إن كان كل ما لدينا من أبطالنا هو نهاياتهم؟ أم لعل تلك هي الحكمة الخالدة في القبور: كل نهاية هي بداية وكل رحلةٍ لا تنتهي باستراحةٍ أحدٍ ما قبل أن يبدأ شقاء غيره... وكل رحلةٍ تستمر وتستمر، ولكننا نفقد الأبطال شيئاً شيئاً، إلى أن تصبح الطريق مُوحشةً جداً... موحشةً جداً...


إذن بلغت شأوها رحلتي. وانتهيتُ إلى حيث كان ابتدائي. قطعتُ المحيطات واليابسه
على شهقة القشة اليائسه
وأتقنتُ كل اللغات ودجَّنتُ خيل الجهاتِ وروضتُ حزني كما تشتهي الكرة البائسه
وإذن آن لي أن أُدخِّنَ ما ظلَّ من جسدي. آن لي أن أقول كلامي الأخير وأوصد كهفي على سرِّ أسراره وأُعيدَ إلى أهله حارسه
جناحاي في البحر. ريشي ثقيلُ.. إذن فلأُصعِّد قليلاً. هنا الشمس. ههيذي النار تأخذ ريش جناحيَّ شيئاً فشيئاً إلى كوكب الحاسة السادسه
وها أنذا أتلاشى رويداً رويداً.. وأهوي على الصخر. لا أُبصر الصخرَ في غبش اللحظة الناعسه إذن.. بلغت شأوها رحلتي..

فماذا سيكتب إنسانٌ حقيرٌ مثلي عن شاعرٍ عظيمٍ مثلك؟! رسالةٌ/خاطرةٌ/مقالةٌ/رثاءٌ/جنونٌ/ألمٌ/هلوسةٌ/صفحاتٌ أخرى من مُعجبٍ آخر، ورقةٌ أخرى في شجرةٍ أخرى وسط حقولٍ من أشجار المعجبين/المريدين... فماذا أستطيع أن أكتب؟! أُحس بأنك لو قرأت هذه الكلمات فسوف تقول بأنه لا يوجد إنسانٌ حقير وإنما فقط إنسانٌ أسير، وبأنه بين الصمت والردى قُربى ونسبةٌ فقل ما تريد أن تقول... وربما فقط أعيشُ وهم معرفتك وتخمين ما تُفكِّر فيه، ولكنني لا أُدرك ذلك، أو ربما، كما تقول كتب علم النفس، لا أُدرك بأنني لا أُدرك... أكتب فقط لأنني يجب أن أكتب، يجب أن أجمع الحروف وأجمع الكلمات وأجمع الصفحات، يجب أن أغرق في ألمٍ من الحروف، يجب أن أصرخ على هذه الصفحات، يجب أن أقول لك، بعد فوات الأوان: أحبك ورحيلك سيؤلمني، إنه يؤلمني، يؤلمني ولا وقت لمراجعة، لا وقت لتسلسل، لا وقت لتنظيم أفكار، لا وقت لشيء... وكاد أن لا يكون هنالك وقتُ للكتابة... وماذا سأكتب أصلاً إن كتبت؟

أريد أن أكتب عن كيف تعرفتُ عليك، من دلني عليك وعلى شعرك وعلى حياتك، من وجدتُ دواوينك على أرففه.. أريد أن أكتب كيف التجأتُ إلى حضن دواوينك في غربةٍ قاسية.. أريد أن أكتب عن بائع الكتب الذي حدثني عنكَ بشغفٍ.. أريد أن أكتب عن كل تلك الأيام التي لم يكن لديَّ صديقٌ فيها سواك.. أريد أن أكتب عن كل ذلك... ولكن.. ولكن الآن أُحسُّ بأن هنالك ما هو أهم لأكتب عنه...

أنا، يا سيدي العزيز، إنسانٌ تافه. لستُ غواصاً في بحار اللغة، ولا قاطف ثمارٍ من بساتين الأدب، ولستُ خبيراً في إيقاعات الشعر والنقر على طبلة الروح، ولستُ ولياً صوفياً يُميِّز الحلم من الرؤيا وسط عمودٍ من الكلمات المنيرة، ولستُ قديساً مسيحياً يُصلِّي بالشعر وهو يضع يداً على اللغة الفاتنة ويغمس اليد الأخرى وسط جمر الضمير الملتهب، وأنا يا سيدي لستُ رحالةً يعبر البلاد متوكئاً على القلم، ولا رائد فضاءٍ يرسم بالنجوم خريطة حياته، ولستُ مجاهداً أصيلاً يصيح أمام الدبابات (أهي الجنة، جت تدَّنى)، ولستُ حتى مقاوماً يكتب رسائل الحب بدمه المسفوك في غرف التعذيب، ولستُ أبداً شهيداً طاهراً أُعيدَ بَعثُّ روحه في جسدٍ جديد ليُلقي على الناس موعظةً أخرى بموته مرةً أخرى، ليعتبر أولوا الألباب مرةً أخرى... أنا، بكل بساطة، يا سيدي العزيز، لستُ أهلاً للحديث عن شعرك وعن عملك، فكما ترى، مما نفيته عن نفسي الآن، أنا لا أمتلك المؤهلات ولا الخبرات اللازمة!

ولكني، يا سيدي، أود أن أحاول، فقط أن أحاول، مراجعة بعض الدروس التي تعلمتها منك...

لقد تعلمتُ منك يا سيدي، قبل كل شيء، بأنه قبل كل شيء يكون الإنسان... تعلمتُ من شعرك بأن الإنسان هو كل شيء، الإنسان هو البطل، هو الشهيد، هو الضحية، هو السلاح، هو الدم، هو القصيدة، وهو القضية... وهو أيضاً الكذبة، وهو الخديعة، هو القاتل، هو السارق، هو المجرم الأكبر، هو الطاغية، وهو الفضيحة، وهو المسرحية... ولكنه دوماً يبقى الإنسان، دوماً يستطيع أن يسمو فوق سحاب الملائكة، ويستطيع أن يحفر عميقاً في الأرض تحت الحيوانات... ولذلك، وقبل أن يستحق الإنسان الكره والحقد والضغينة، فهو، لأنه إنسان، يستحق أولاً الحب والشفقة والمودة...

لقد تعلمتُ منك يا سيدي الإنسانية...

وتعلمتُ من شعرك بأن فلسطين ليست مُجرَّد قضية... ليست خبراً عاجلاً، وشهداءٌ على الشاشة الفضية وصفحات أخبار النجوم، وتصريحاً قوياً، ومطلباً أبدياً، وحقاً لا يموت أبد الدهر! وهات ضريبة الجهاد والبندقية، لإكمال مسيرة النضال السرمدية في أبعد نقطةٍ من فلسطين!!! فلسطين، يا سيدي، أو ربما الأجدر أن نخاطبهم هم فنقول: يا سادة، فلسطين ليست عذراً جميلاً لذنب تخاذلكم القبيح... فلسطين ليست أغنيةً حماسيةً تنتهي بالتصفيق والتصفير وتُسدل عليها الستارة ويُنظف المسرح استعداداً لعرض الغد، وتُفرغ الخزائن في شباك التذاكر في جيوبٍ عميقة ولكنها لا تصل إلى فلسطين... فلسطين ليست خطاب الزعيم الرنان، وليست القائد المفدى، فلسطين ليست حتى قبة الصخرة ولا كنيسة القيامة، ولا تزعل مني يا سيدي ولكنني أظن (والله أعلم) بأن فلسطين ليست حتى أشجار الزيتون والبرتقال والليمون... فلسطين هي الأب الذي يقطف ذلك الزيتون، والأم التي تعصره، والأبناء والبنات الذين يغمسون فيه خبز يومهم... فلسطين هي الفلسطيني الذي يُغير المحطة من الخطاب الناري، فلسطين هي الشاب الذي فعلاً يفدي، فلسطين هي الساجد تحت ظل قبة الصخرة، والراكع أمام صورة المسيح في الكنيسة... فلسطين هي الطفلة الصغيرة الجميلة، فلسطين هي دميتها الصغيرة العزيزة...

لقد تعلمتُ منك يا سيدي أن فلسطين ليست الصليب، ولكن فلسطين هي المسيح...

تعلمتُ من شعرك يا سيدي بأن المواقف لا تعني الوقوف وحسب، سواءً في ساحة الحق أو في ساحة الباطل، وبمجرد الوقوف يصبح الشخص صاحب مواقف! ولكن تعلمتُ منك أن المواقف والمبادئ هي ثباتٌ على الحق كالجبال، واندفاعٌ نحو الحق الحتمي كالأنهار، وطوافٌ سماويٌّ بالحق كالسُحُب الماطرة.. لقد تعلمتُ منك يا سيدي بأن الجبهة ليست فقط حيث تكون البنادق والدبابات، وبأن السجون ليس فقط حيث توجد القضبان، وبأن النضال والشهادة ليست فقط الموت، تعلمتُ منك أن كل هذه الأمور ليست فقط كما يقولها لنا أسيادنا الأعزاء الكرام أطال الله أعمارهم وزاد من عزهم وطغيانهم وزاد من سيئاتهم وزاد من حساباتهم وزاد من تسخين جمر النيران التي تنتظرهم... لقد تعلمتُ منك يا سيدي بأن الجبهة هي في كل مكان، وبكل سلاح، طالما كنتَ تعرف من تحارب ومن تقاوم وعمن وعما تدافع، لقد تعلمتُ منك يا سيدي بأن السجن ليس القضبان ولا الحدود ولا الأختام ولكنه الجمجمة حين يُغلقها علينا من يشاء، لقد تعلمتُ منك يا سيدي بأننا نُولد مناضلين، ونولد مستشهدين، ونناضل بخذلان من يَدَّعون النضال، ونعيش بالاستشهاد مناراتٍ على الطريق التي يغلقونها ويحولون مسيرتنا نحو مقابر الحياة التي يتفضلون بها علينا...

تعلمتُ منك يا سيدي بأن المواقف والمبادئ ليست إشارات الطريق التي قد يخدعنا بها الآخرون لنقفز من فوق الهاوية، ولكن المواقف والمبادئ هي الطريق نفسها التي تنيرها أرواح الأنبياء والشهداء...

لقد تعلمتُ منك يا سيدي الكثير الكثير... وأعجز الآن عن وصف كل الدروس التي تعلمتها، أرى أمام أعيني خيالاتٍ لطفلةٍ ودمية (درسان)، ولفتىً نشيط (درس)، ولوليٍّ صالحٍ يستكشف الفضاء (درسٌ ومائة ملايين الدروس اللامعة)، وأرى صلاةً (درسٌ) إمامها محمد عليه الصلاة والسلام (درسٌ) ومقيمها المسيح عليه السلام (درسٌ) وصفوفها الأولى كل الأنبياء (درسٌ) وصفوفها الأخرى كل البشر: أولياءٌ، قديسون، شهداءٌ، صديقون، شعراءٌ، معلمون، مناضلون، أباءٌ، أمهاتٌ، أولادٌ (دروسٌ ودروسٌ ودروس)، أرى الكثير الكثير من دروسك يا سيدي، أرى أشجار الزيتون والليمون، أرى النخيل، أرى النجوم، أرى البحار والأشرعة والسحب، أرى التراب حبةً حبة، أرى الابتسامات، أرى الزهور، أرى الطيور، أرى الآن أمامي خريطةً صوفيةً للكون رسمها بالكلمات مولانا ابن محمد سميح القاسم قدَّس الله سره ونشره...

ولكن... وما أبشع كلمة (ولكن) بعد كل هذا! ولكن يا سيدي أعترفُ لك بأنني تُهتُ في مناهج الموت عندك...

هل الموت بطلٌ أسطوريٌّ في مستقبل الجميع؟ أم لعله خرافةٌ كاذبة من ماضي النسيان؟ هل الموت صديقٌ قديمٌ عزيز لم تصلنا رسائله منذ زمنٍ بعيد؟ أم لعله عدوٌ لدودٌ يلاحقنا من المهد إلى اللحد؟
أظن أن الموت كان كل شيءٍ في قصائدك.. لم يكن وحشاً مُخيفاً وحسب، بل كان خصماً عنيداً يستنهض الشجاعة والتحدي.. لم يكن الموت لصاً خبيثاً يخطف مَن حولنا ويخطفنا أيضاً، بل كان أيضاً شحاتاً حقيراً نتصدق عليه بين الحين والآخر بالتضحية.. لم يكن الموت مفراً من شقاء الحياة واستسلاماً للظلام، بل كان أيضاً المحطة الأخيرة، الاستراحة المُستحقَّة.. لم يكن الموت ألماً عميقاً وحسب، بل كان أيضاً بلسماً للكثير من الجراح.. لم يكن الموت موتاً وحسب، بل كان حياةً، كان خلوداً.. كان الموت في قصائدك كل شيء... كل ساعةٍ لها موتها، كل يومٍ ينتهي بموتٍ خاصٍ، كل قضيةٍ لها موتها، وكل حياةٍ لها موتها الخاص بها.

ولكن، هذه الحياة العظيمة، هذه القصيدة الكبرى، هذه الرحلة الطويلة يا سميح، لا أريد أن أرى فيها موتك ألماً يحفر في أعماقنا، لا أريد أن أرى موتك فيها لصاً خطفك منا، ولا حتى شحاتاً تصدقت الحياة بكَ عليه، لا أريد أن أرى موتك حتى خلوداً عظيماً في جنات الحرف، تتكئ فيها على الكلمة، وتجري من تحتك فيها أنهار القصائد... كلا... أريد فقط أن أرى موتك هذا على أنه ذلك الصديق القديم...

ربما هذا ليس درساً، ولكنه أمنيةٌ حقيقية، رجاءٌ يتنفسه غريقٌ في بحر الفراق، دعوةٌ تنزف من جرح رحيلك وسط صدري...

أتمنى، وأرجو، وأدعو أن يكون موتك يا سيدي هو ذلك الصديق الذي لا تراه كثيراً، ولكنك تتذكره على الدوام، الصديق الذي كلما أنهكتك الحياة، كلما طحنتك على الأرض بقسوتها، فأنت تزحف نحوه، تتصل به، تلتقي معه.. ذلك الصديق الذي لطالما أشعل لك سجائرك، وكثيراً ما شربت معه قهوتك، وكثيراً جداً غطست في حبره قلمك... أريد أن أرى موتك على أنه ذلك الصديق القديم، ذلك الصديق العزيز، يراك من بعيد، يُلوِّح لك مبتسماً، تلتقيان في منتصف الطريق "ما رأيك بأن نذهب لشرب فنجان قهوةٍ على كيف كيفك؟" توافق مرتاحاً. تُضع سيجارةً في فمك قبل أن تنطلقا، تبحث في جيوبك عن القداحة، فيُخرج لك هو قداحةً، يُشعل لك سيجارتك، تشكره بابتسامةٍ. تُبصران الطريق، وتنطلقان معاً نحو ذلك المقهى الأبدي...

رحمك الله يا سميح...

عَبَرتُ الطقوسَ. جميعَ الطقوسْ
تجرَّعتُ كلَّ الكؤوسْ
وأُدركُ أني كبرتُ. كبرتُ
وأعلمُ أني أمدُّ إلى الموتِ كفِّي
ويرمقني صاحبي الموتُ
يرمقني في حنانٍ وعطفِ
يصيحُ: "ترَّيث قليلاً!"
وأهمسُ: "يكفي!"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق