الأربعاء، 27 أغسطس 2014

الحرب تأخذ فقط... هكذا وبدون توضيح.


منذ يومٍ أو يومين تقريباً اتصل بي شخصٌ رائعٌ جداً كعادته دائماً في الاتصال والسؤال عن الحال، شخصٌ طيبٌ لدرجة أنك لو كنت إنساناً غير اجتماعيٍّ مثلي ومتشائماً إلى حد الجنون؛ فإن طيابة مثل هؤلاء ستُصيبك بالحنق على أقل تقدير! لماذا أنت هكذا؟ لماذا تتصل وتسأل؟ لماذا، في هذا العالم القذر المنهار، يوجد أشخاصٌ مثلك؟!

اتصل بي هذا الشخص، سأل عني وعن أحوالي، تحدثنا قليلاً، وسألته عن مشاريعه لهذه الليلة فقال لي أنه ذاهبٌ إلى عزاء ثم ليس لديه مُخططٌ واضح.

-       عزاء من؟
-       عبدالرحمن اهليس، اذكرته؟ في بكرج؟

كان ذلك في عيد الفطر. آخر مرةٍ ذهبتُ فيها لمقهى بكرج. كنتُ قد اتصلت بالشخص الرائع (السابق ذكره) لتهنئته بالعيد، وقد أخبرني بأنه في طريقه إلى مقهى بكرج. بدت لي الفكرة جذابة: تذهب إلى المقهى، تلتقي بالكثير من المعارف (عشرُ عصافيرٍ على الشجرة! أو على طاولة المقهى!) تُهنئهم بالعيد، وفي نفس الوقت تُروِّح عن نفسك قليلاً بمعايدات في الهواء الطلق لمقهى شبابي بعد يومٍ كاملٍ من المعايدات في غرف المعيشة والصالونات المختنقة بالرسميات وبكبار السن وبالاحترام وبالحياء – استراحة اجتماعية بعد كل تلك الضرورات الاجتماعية.

ذهبتُ إلى المقهى، التقيتُ بكثيرين، عايدتُ على كثيرين، ثم انتهى بي المطاف – كالعادة – أجلس وسط الكثيرين بصمت – جليسي الحقيقي الوحيد هو كوب القهوة الذي بين يدي. لا تربطني بأغلبية الحاضرين علاقة قوية... على أي حال كان الجو العام جيداً. لا أذكر كيف بالضبط، ولكن ربما في فوضى الوقوف للمعايدة على شخصٍ لمحته من بعيد فيضيع كرسيك (الكراسي لا تُقدُّر بثمن في مقهى بكرج المزدحم على الدوام!) وكل ما ينتج عن ذلك من فوضى، وجدتُ نفسي أجلس بجوار عبدالرحمن اهليس رحمه الله. موضوعٌ يليه موضوع تمر كلها على مسامعي وأنا ألتزم الصمت، ولا أعلم تماماً عما يتحدث الجميع (ضمن مقاطعة منتجات السياسة الكلامية!) إلى أن دار الحوار دورته ووصل الكلام إلى الحجاج بن يوسف الثقفي. كان عبدالرحمن رحمه الله يتحدث عن أن الحجاج له دورٌ بالرغم من دمويته كان مهماً جداً في تثبيت الخلافة الإسلامية وجلب الاستقرار لها. قد أستطيع منع نفسي من الحديث في السياسة، لكنني لا أستطيع منع نفسي من الحديث في الدين، وبلا شك لا أستطيع منع نفسي من معارضة أي شخص يمتدح الحجاج بأي شكلٍّ من الأشكال. دخلتُ في حوارٍ مع عبدالرحمن.


الحوار كان طويلاً، ودار ولف بين حقيقة تصرفات الحجاج، وهل كانت غايتها الخير أم الشر، وانتقل الكلام – طبيعياً – إلى أقوال بعض العلماء في الثورات والخروج على الحاكم، وهذا وصل بنا إلى محاولة تحديد ما هي الخلافة الإسلامية فعلاً، أي التي قد تقتضي الرضوخ والتسليم وتستحق بذل أي مجهود في سبيل الاستقرار والأمن. كل هذا الكلام كانت فيه بالطبع استشهاداتٌ تاريخية، اقتباساتٌ لعلماء، مواضيعٌ فقهية، تحليلاتٌ اجتماعية... إلخ... كان واضحاً أن عبدالرحمن رحمه الله لم يكن جاهلاً، ولكن كان يبدو أنه مستعجلٌ إلى حدٍّ ما: أعني أنه قد يوافقك على عدة نقاط، ولكنه ممن قد لا يقتنعون تماماً بمبدأ التدرج في التشريع الإسلامي، عصر النبوة جاء ومضى، ولا داعيَ لكل هذه المناورات كما يبدو! يجب تطبيق الشريعة (أو فهم البعض وتفسيرهم للشريعة) الآن فوراً، وأحياناً تفرض عليك الظروف – في سبيل هذه السرعة – استخدام السيف. نعم، أختلف مع هذا الكلام كثيراً، ولكنني احترمتُ عبدالرحمن كثيراً أيضاً.

عبدالرحمن لم يكن ممن يرفض كلامك فوراً، أو يحتال عليك بأي شكلٍّ من الأشكال لكي يناقض كلامك وحسب، دون فهم حقيقي لفكرته وفكرتك، فإذا قلتُ له شيئاً صحيحاً، لن يقول لك بأن هذا خطأ، أو يستهزئ بك، أو يُسكتك بتلك المجادلة العنيدة (اتركوا الكلام لأهل الاختصاص!)، ولكنه يناقش معك إمكانية تطبيق هذا الصحيح الذي ذكرته، يتحدث معك عن الواقع وما يقتضيه (من وجهة نظره)، سيقول لك، وهو شيء غير مسبوق بالنسبة لي في حواراتي مع الإسلاميين، بأن هنالك نظرية مثالية وهنالك نظرية واقعية (مجادلةٌ شخصياً لم أجدها منطقيةً؛ فإذا لم تكن قد حققت أي شيء، فلماذا تضع سقفاً واقعياً متدنياً لآمالك؟ لماذا لا يكون السقف مثالياً وهو أيضاً واقعي ويمكن تطبيقه وتم تطبيقه في ظروف أصعب وأسوأ مما نحن فيه من تطور وسهولة معيشة... ولكنها على الأقل تبقى مجادلةً عقلانية). وهذا كان سبب احترامي الكبير لعبدالرحمن رحمه الله: استخدامه للعقل. حتى لو لم أكن أتفق معه، إلا أن الرجل كان عقلانياً في حججه إلى حدٍّ ما، والأهم من ذلك كان عقلانياً في حواره. لم يغلق باب الحوار تحت أي دعوى: لم يُكفِّر أفكارك فوراً ويسعى لإقامة الحد عليها بالسب والشتم! لم يتهمك بمعارضة تطبيق شرع الله، ولم يتهمك بإرجاء تطبيق شرع الله، ولم يسحب أي سلاح من ترسانة القداسة الدينية، ولم يرفع في وجهك سلاح الثورة والثوار، لم يعايرك بفضيحة دعم خليفة حفتر، لم يُعلقك على شماعة الأزلام، لم يرمك بالتهم الأيديولوجية الفارغة في مجتمعنا (ليبرالي، علماني، كرنكاطي!) الرجل لم يكن همه إسكاتك بقدر ما كان همه الاستماع لك للرد عليك – لم يُرد الانتصار عليك وسحقك، ولكنه أراد مجادلتك وإقناعك، وبالتالي كان يمنحك أنت أيضاً نفس فرصة المجادلة لإقناعه. وكم هذه عملةٌ نادرة هذه الأيام! شخصٌ يقبل الحوار! يقبل الاستماع للآخر! يقبل الاعتراف بالآخر وبحقه في الوجود وبحقه في التعبير عن رأيه! كم هي عملةٌ نادرة أن يقول لك الآخر "ما رأيك" في زمنٍ يصرخ فيه الجميع "شاء من شاء وأبى من أبى"! كم هي عملةٌ نادرة أن يتحاور معك مُخالِفك على فنجان قهوة في زمن يدعو فيه الجميع بعضهم البعض للشرب من ماء البحر! كم هي عملةٌ نادرة أن تجد من هو مُستعدٌ للحوار في زمن "لا حوار مع هؤلاء وأولئك" في زمن القصف العشوائي في زمن الإبادة الجماعية في زمن العنف والعنف والعنف... كم هي عملةٌ نادرة... رحمة الله عليك يا عبدالرحمن...

تلك كانت المرة الوحيدة التي قابلتُ فيها عبدالرحمن اهليس. اختلفتُ معه في الكثير، وأحسستُ حتى بالحنق من بعض مجادلاته! ولكنني احترمته كثيراً، وفرحتُ به أكثر: هذا رجلٌ مستعدٌ لأن يجلس معك في مقهى، ويتحدث معك، يمزح معك، يتفق معك في بعض الأمور، يعترف لك بأن هذه نقطة سليمة، يعترض عليك بأدب في هذه النقطة، يقول لك بأنه ليس لديه إطلاعٌ تامٌ في هذا الجانب، وينصحك بالإطلاع على ذاك الموضوع، لا يُهينك، لا يتهمك، لا يسبك ولو حتى بالتلميح... شخصٌ اختلافك معه لا يمنعك من أن تتشوق للحوار معه مرةً أخرى...

أخبرني الشخص الذي اتصل بي بأن عبدالرحمن قد تُوفيَّ في سي فرج، إحدى نقاط تمركز المقاتلين المنطويين تحت مجلس شورى ثوار بنغازي، قال لي أنه كان مع الدروع (حالياً الدروع مازالوا أهون بكثير من أنصار الشريعة!) كانوا يصلون العصر وتعرض موقعهم للقصف، أُصيب عبدالرحمن بشظية أدت إلى موته. أخبرتُ المُتصل بي بأن يمر علي لأذهب معه إلى العزاء.

جاءني في البيت، صعدتُ معه في سيارته وانطلقنا نحو العزاء... كانت تُخيم علينا صدمةٌ غريبة. صدمةٌ كنتُ أُفكِّر فيها منذ أن أخبرني في اتصاله بأن عبدالرحمن مات وهو مع مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي (الذين يجمعون الدروع وأنصار الشريعة ومتطوعين مختلفين). لم أفهم تماماً ما هي هذه الصدمة: هل لأنني أعرف هذا الشخص؟ ولكن أنا لا أعرفه جيداً لهذه الدرجة! هل هي فقط بشاعة الموت؟ بشاعة هذه الحرب التي تدور وسط مدينتنا وبيننا؟ بشاعة أن يكون من ضحاياها شخصٌ تعرفه وشاركته جلسةً لطيفة؟

كنتُ حائراً، وكان المُتصل الذي اصطحبني حائراً هو الآخر، قال لي:

-       أحس بشعورٍ غريب، لا أفهم ما الذي يحدث... لماذا يُربكنا موت عبدالرحمن هكذا؟
-       ربما لأن موته يُوضِّح بأن هذه الحرب حقيقيةٌ أكثر مما كنا نتصور، حقيقةٌ لدرجة أن من يقاتلون فيها هم نحن، وهم أشخاص يجلسون معنا في المقاهي هذا اليوم، ويحملون السلاح في اليوم التالي... الحرب ليست في (ضواحي) بنغازي، وليست عشوائيةً وحسب، ولكنها حربٌ حقيقيةٌ نخوضها جميعاً...
-       نعم... ولكن، هنالك شيءٌ آخر... موت عبدالرحمن هكذا، وهو يقاتل معهم، يجعلني أشك... أعني ربما الحق معهم هم؟ ربما نحن مخطئون؟
-       صحيح... موت مثل هؤلاء، من كنت تعرفهم وتحترمهم، في سبيل موقفٍ مخالفٍ لك يجعلك تشك في صحة موقفك أنت... ولكن هذه هي المشكلة، كل طرفٍ لديهم جزءٌ من الحق، لا أحد يمتلك الحق كاملاً...
-       نعم، لو أن الجميع يتوحدون لتوحدت أجزاء الحق، ولما تدمرت البلاد هكذا...

تحدثنا طويلاً حول تلك النقطة: الشك الذي يراودك حول موقفك... الشك الذي يجعلك تتساءل: لقد كان عبدالرحمن شخصاً ودوداً، طيباً، رائعاً... لقد كان فناناً مُبدعاً... لقد كان متعلماً، ومثقفاً... لقد كان متقبلاً للآخر، مستعداً للحوار، عقلانياً وليس عاطفياً... لقد كان عبدالرحمن أشياءً كثيرةً رائعة، فكيف يموت وهو يدعم طرفاً أنت تعارضه بشدة؟! هل أنا مخطئ؟ هل كان هو على صواب؟ أين الحق؟ أين الحق وسط كل هذا الموت وكل هذا الفقد وكل هذا الألم... أين الحق وسط كل هذه الحيرة الملطخة بالدماء... أين الحق... الحق لا يحتكره أحد، كل طرفٍ لديه جزءٌ من الحق، هذا ينادي بالشريعة التي نؤمن بها، وذاك ينادي بالجيش والشرطة الذين نحتاج لهما، هذا يتحدث عن الثوار، وهذا يتحدث عن الإرهاب، هذا يتحدث عن الفساد، وهذا يتحدث عن الفوضى، هذا يتحدث عن مؤامرات التدخل الأجنبي، وهذا يتحدث عن المساعدات الأجنبية... كل طرفٍ لديه جزءٌ من الحق، جزءٌ صغيرٌ ربما، وحده لا يعني شيئاً، وحده قد لا يرتقي إلا لمستوى (كلمة حق)، كلمة حق قد يُساء استغلالها بشكلٍ يجعل الناس يبذلون ويُضحون ويموتون في سبيل تلك الكلمة التي أُريد بها... أُريد بها شيءٌ ما لا نفهمه ولا ندركه ولا نستطيع فعل شيء سوى إعلان أننا أصابتنا الصدمة مرةً تلو الأخرى... ويبقى سؤال أين الحق يتزعزع دائماً... تقول لنفسك: أنا أتساءل الآن فقط بسبب الصدمة، ولكنني أعرف، منذ حديثي معه كنت أختلف معه، كنت أعرف بأنه مخطئ، أو على الأقل أعرف بأنه ليس على صواب، أو ليس على كل الصواب، أو أظن بأنني أعرف بأن الحق ليس معه ومع أولئك الذين يؤيدهم، وربما هو ليس مع الآخرين ولكنهم الأقرب له، وربما أنا فقط أحمق لا يعرف شيئاً...

تمر بك بضعة لحظات هدوء.. قد تستعيد فيها قناعاتك، تقول: موته مؤلم، ولكن الحق ليس معهم... وتعود وتعاتب نفسك: حسناً، الحق (كـــلـــه) ليس معهم، ربما لديهم جزء، جزء يجذب أشخاصاً قد تحترمهم، أشخاصاً رائعين ومحترمين ومثقفين ومبدعين وطيبين، ربما يحذبهم ذلك الجزء من الحق... ولكن، لديهم الكثير من الباطل أيضاً! ومضةٌ من صواب، وظلماتٌ من خطأ... ولكن عبدالرحمن! دائماً هذه الــ(ولكن) دائماً تقفز وسط حبل أفكارك، معها صورة عبدالرحمن، ومعها ذلك الإحساس بالراحة معه وبالمودة تجاهه... ولا يبقى عندك شيء سوى الحيرة... لا يبقى لك خيار سوى مناورة هذه الحيرة بالابتعاد عن الجميع: كلهم مخطئون، كلهم مخطئون، كلهم مخطئون! من يجلب معه جيوش الموت والألم بلا معنى، بلا حقيقة واضحة قوية، بل حق جهوري، لا يمكن أن يكون على صواب، كلهم مخطئون...

لا أعرف هل كان عبدالرحمن على الحق أم لا، ولكنني أعرف بأنه كان يستحق أن يعيش، كان يستحق حياةً أفضل بكثير... كان يستحق ذكرى تخلو من الحيرة، ذكرى جميلة عن حياةٍ جميلة عاشها شخصٌ جميل...

الكثير لا أعرفه، والكثير مما ظننتُ أنني أعرف اكتشفتُ أنني لا أعرف حتى نصفه... ولكنني أعرف أن عبدالرحمن يستحق أن نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويدخله فسيح جناته... أعرف أنه يستحق دعاءنا...


يبدو أن هذه الحرب لن تنتهي قبل أن تأخذ منا كل شيء... حتى أملنا، حتى مبادئنا، حتى إيماننا، حتى عقولنا... كل ما نتمسك به ونظن بأن أحداً لن يأخذه منا، ستسلبه منا هذه الحرب... كل شيء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق