الخميس، 9 أكتوبر 2014

بنغازي المُحيِّرة...


بنغازي اشتهرت على مر السنين بعدة صفات... بداياتها كمرفأ تجاري حط فيه الكثيرون رحالهم أكسبتها لقب (رباية الذايح) الذي مازال لقبها الأبرز.. شقاوتها المستمرة على الدوام جعلتها شهيرةً بأنها مدينةٌ متمردة، سواءً في عهد الملك، أو في عهد القذافي، أو في العهد المظلم ما بعد انفجار الثورة (فتماماً كالانفجار، بعد ومضة الضوء الأولى الباهرة، ينطفئ كل شيء...)، بل إن تمردها ذاك – إبان الثورة سنة 2011 – جعلها من أشهر المدن الثائرة في المنطقة، وربما حتى في العالم.. كثرة كتابها وشعرائها جعلتها تشتهر بأنها من مدن ليبيا الثقافية.. انهيارها الحالي جعلها أيضاً تشتهر بأنها مدينةٌ أعطت الكثير وفي المقابل تخلى عنها الجميع... ومازالتُ تعطي الكثير، مازالت تُقدِّم أبناءها وبناتها قرابيناً على مذبح المستقبل... فهل سيبقى كل ما تلقاه هو الدم والدموع؟ لا أعلم... ولا أظن بأن أحداً ما يهتم...

وهذه الحيرة هي صفةٌ جديدة لعله يجب إضافتها لصفات هذه المدينة...

بصرف النظر عن كل الحيرة التي تُحيط بأوضاع ليبيا عامةً، فإن أخبار بنغازي الأخيرة لعلها تكون أكثرها حيرةً... القتال محتدمٌ بشكلٍّ رهيب، أصوات المدفعية، وأصوات الطيران الحربي، وأعداد القتلى، الجثث المنتشرة في المدينة (يجدها الناس على قارعة الطريق، وتنهشها الكلاب، وكأنها – للأسف – مجرد قمامة)، والاغتيالات أيضاً (التي شهدت ارتفاعاً مُفجعاً في الفترة الماضية) كل شيء بدأ يتضخم في الفترة الأخيرة... ولكننا لا نعرف شيئاً! لا توجد أي جهة رسمية أو فقط موضوعية في المدينة تُوفِّر لنا أخباراً واضحة، لا يوجد شيء في المدينة، باستثناء بعض المستشفيات التي تنشر تقاريراً مُلطخةً بالدماء عن أعداد القتلى والجرحى، وشركة الكهرباء التي تحاول جاهدةً الحفاظ على بعض الأضواء في المدينة (التي ليست أضواء القصف...)، وربما أيضاً الهلال الأحمر الذي يكاد ينحصر دوره في انتشال الجثث... من يقصف؟ من يهاجم؟ من يدافع؟ من يسيطر؟ من يتراجع؟ لا نعرف شيئاً... وإذا حاولت متابعة (إعلام المواطنين) على مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً، فسوف تُصاب بالدوار من كثرة تبادل الطرفين لكلمات: المجاهدين، الأبطال، الشهداء، النصر، سحق، تدمير، انسحاب، فرار، صد... وقد تُصاب بنوبةٍ جنونٍ خفيفة، ربما جلطةٌ مُصغَّرةٌ عابرة، من كثرة الشائعات التي تكاد تجزم بأنها جزءٌ من الحرب: السيطرة على المطار من قبل قوات مجلس شورى ثوار بنغازي، دحر قوات مجلس شورى بنغازي من قبل الجيش وإخراجهم من منطقة بنينا بالكامل، تعزيزات، نقص، انسحاب، سحق، موت فلان، جرح فلان، تفجيرات... عشرات (الأخبار) التي تشك في أن الجميع يجلبونها (كما يقول المثل الإنجليزي)  من مؤخراتهم! نعم، إنه مثلٌ سخيف، ولكن الأمر ذاته سخيف وتجاوز الحدود المنطقية للتخمين أو لتناقل أنصاف حقائق وأخبار غير واضحة، الأمر أصبح كذباً واضحاً لا يؤدي أي وظيفة سوى إصابتك بالحيرة...

إنها حيرة الوضع الذي يتغير تدريجياً دون أن نلاحظه، الحياة مستمرة، مستمرة رغماً عن أنوفنا، تضطر للخروج، تضطر لقضاء أعمال، تضطر لفعل كل شيء، لأن الحياة لا تهتم بنا، وتستمر رغماً عن أنوفنا! وهذا يجعلنا نتغافل عما يحدث، نتجاهل أصوات القصف، ونتجاهل أصوات الرصاص، نتجاهل الجثث في الشوارع، نقفز عبر بِرك الدماء لنصل إلى الجانب الآخر، الجانب الآخر من نفس الشارع في نفس المدينة في نفس البلاد في نفس القارة على نفس الكوكب، نحن لم نغادر، نقفز في مكاننا، ولكن عقولنا ربما تغادر، تنسى، تتجاهل، وأعيننا بلا شك تغادر، بلا أدنى شك، عيوننا وآذاننا وكل حواسنا تغادرنا، لتعود لنا فجأةً في لحظة إدراك وتجعلنا نتساءل عن آخر التطورات في الحرب؟ ما الذي حدث؟ من يفوز؟ من يخسر؟ حسناً، نحن لا نفوز ونحن نخسر! ولكن من يتقاتلون، أسباب خسارتنا نحن، من يفوز ومن يخسر منهم؟! ولا تفهم شيئاً، ولا تعرف شيئاً، وكل ما تنقله الأخبار هو عن أشخاص بعيدون كل البُعد عن واقعنا، يتحدثون ويُصرِّحون ويلتقون ويجتمعون ويسافرون، والناس تتفاءل بكلامهم وتتشاءم به، ويا إلهي كم هم بعيدون عن واقعنا! ماذا تفيد المجالس والقرارات والاجتماعات والزيارات والمؤتمرات التي يعقدها أشخاصٌ لا ناقةٌ لهم ولا جمل بما يحدث؟! الأمر أشبه بفتح باب الحوار وعقد مفاوضات سلام بين السويد والإكوادور بسبب الأزمة الدائرة في أوكرانيا! كل إضافة جديدة للمعادلة الحالية تزيد من حيرتنا، تُطيل المعادلة، دون نتيجة.

لا أفهم بالضبط ما الذي يحدث في بنغازي، ولا أعرف كيف ستنهتي هذه المشكلة، ولا ماذا سيفعل أحد حالياً، ولا أعرف ماذا سيحدث إذا انتهت هذه المعركة بفوز أحد الطرفين، كل شيء مُظلم، كل شيء غامض... كل ما أعرفه هو أن أصوات الناس تغيرت.. أصوات الناس تبدو خاليةً من الحياة، كل من أقابله وأتحدث معه أجد نبرته مختلفة، وهذا يؤلمني، يؤلمني كثيراً.. أن يتغير صوت شخصٍ لطالما كان متفائلاً ليصبح صوت شخصٍ أصابه الملل من أصوات القصف، لا يعد يقول لك بأن الأمور يجب أن تتغير ولا يمكنها أن تستمر هكذا، ولكن يقول لك أن القصف مستمر، أن الطائرات اليوم حلقت فوق هذه المنطقة، أن أصوات القتال في الليل كانت عالية.. أن يتغير صوت شخصٍ عنيد، شخص مليء بالحياة، ويصبح صوته منهزماً، أن تسقط الكلمات من فمه بحزن بدلاً من أن تُحلِّق بشجاعة، لا يحدثك عن البقاء والتحدي ولا يتمنى لجميع من يُفسدون المدينة رحلةً طيبةً إلى الجحيم، ولكنه فقط يتحدث بجدية عن إمكانية السفر ويحاول حساب الأمر وتكاليفه وإجراءاته.. أن يتغير صوت شخصٍ نشيطٍ مثابرٍ حريصٍ دائماً على العمل، ويصبح صوت شخصٍ حريصٍ عل الصمت، فلا يُحدِّثك عن آخر المشاريع، لا يقترح عليك الانضمام لهذا الأمر أم ذاك، لا يقترح أفكاراً ويطلب منك أفكاراً، ولكن يتذكر معك أشخاصاً ماتوا، يترحم عليهم، ويصمت، ربما لأن ضميره لا يسمح له بشتم الجميع وبالاعتراف بأن عمله كله ذهب هباءً... فقط يصمت، يصمت طيلة طريقه إلى المطار، وفي الطائرة، وبعد أن ينزل إلى بلادٍ أخرى يبحث فيها عن أي عمل لأجل نفسه فقط...

أصوات الناس تغيرت، نفسياتهم ومشاعرهم تغيرت، أرواحهم تغيرت... فماذا كانت بنغازي إلا أرواح أهلها المتفائلة الشجاعة العنيدة والمتمردة؟ ماذا كانت بنغازي إلا أرواح أهلها الكريمة العزيزة الطيبة والمتكبرة أيضاً؟ ماذا كانت بنغازي إلا أهلها؟ فماذا يحدث إن بدأت أرواح أهلها تذبل؟ ماذا يحدث، إن لم يكفنا موت أبنائها وبناتها، وأمسى الأحياء منهم يموتون على قيد الحياة؟

هل مازالت بنغازي موجودة؟


الحيرة... الحيرة موجودة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق