الاثنين، 20 أكتوبر 2014

إنسانيتنا الضائعة: اتهامٌ باطل؟ أم واقعٌ راهن؟


منذ فترة انتشر خلافٌ ثقافي/اجتماعي في الأوساط الإعلامية والإنترنتية الغربية، الخلاف لا يمكن اختصاره بالقول بأنه كان بين المسلمين وغير المسلمين، ولكنه كان بين فئات من الطرفين، وبلا شك هنالك مسلمون أيدوا الطرف الآخر، وغير مسلمين أيدوا الطرف المقابل. الخلاف بدأ بسبب داعش وما جنته على الإسلام والمسلمين من تشويه في الفترة الأخيرة، وحشية أعمال داعش، التي تمارسها باسم الإسلام، كان من الطبيعي أن تُثير فزع غير المسلمين، خاصةً في الغرب الذي كثيراً ما تتوعده داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية (والإسلامية المتطرفة). كل هذا أدى إلى ظهور حاجة ماسة لتبرئة الإسلام والمسلمين من تصرفات داعش الوحشية هذه. ومن هنا بدأ تسلسل الخلاف.

بصراحة، لم أُتابع تطور الأحداث بشكل دقيق، ولكن مرت علي عدة مراحل لعلها تكون مراحل تطور هذا الأمر.

المرحلة الأولى كانت، طبيعياً، هي مرحلة إدانة المسلمين لهذه الأعمال، كثيرون أكدوا بأن ما يحدث لا علاقة له بالإسلام والمسلمين، وبإنه لا يحدث بموافقة المسلمين. ولعل هذه الخطوة الأولى كانت الدافع وراء ظهور حملة واسعة تُطالب كل المسلمين بإدانة داعش. وهنا بدأت المشكلة. الأمر ليس مثل المطالبة بتبرئة الإسلام من هذه الأعمال، هذا عمل فكري وجدلي وتصدر له الكثير من العلماء والدعاة، ولكن المشكلة هنا هي في سطحية مطلب إدانة المسلمين لداعش، فبينما تبرئة الإسلام من داعش عمل له أعماق إنسانية ودينية وفكرية، فإن المطالبة الصريحة، قبل كل شيء، بأن يكون أول ما يخرج من فمك بخصوص داعش هو إدانتهم، وكأن ذلك سيؤكد للآخرين بأنك مسلمٌ طيب، هذا الأمر الذي يكشف عن التعصب ضد المسلمين والخوف منهم، وبالتالي يكشف عن الجهل الذي دائماً ما يُسارع ليسبق الفهم والتفهم بالخوف والكره والتعصب، هذا الأمر كان المشكلة في المسألة كلها. هذه الموجة العارمة من الجهل الذي اعتبر كل المسلمين شركاءً في جرائم داعش إلى أن تثبت براءتهم! واعتبر أنه من الضروري على المسلم، من قبل أن يُلقي التحية، أن يقول أنا أُدين جرائم داعش! ثم يمكنه أن يقول هالو أو جود مورنينج! هذه الظاهرة التي انتشرت بسرعة كبيرة – كما هي حالة الجهل الوبائية! – أدت إلى ظهور ردتي فعل، إحداهما ساخرة ومضحكة، والأخرى جادة.


ردة الفعل الساخر، والتي اجتاحت الإنترنت، كانت قيام الكثير من المسلمين في الغرب بالاعتذار على أشياء كثيرة بسخرية، على سياق الاعتذار على جرائم داعش وإدانتها! فاعتذر البعض على كل المساهمات التي قدمتها الحضارة الإسلامية لحصيلة الحضارات البشرية، كالأرقام العربية! والقهوة! بينما اعتذر آخرون بسخرية أكبر على أشياء لا علاقة لها بالمسلمين، كأن يعتذر أحدهم على جرائم هتلر! أو على أحد المشاهير المكروهين! أو على أشياء سخيفة تافهة! ردة الفعل هذه كانت ملائمة جداً لوسط الإنترنت الباحث على الدوام عن التسلية. ولكن، كما ذكرنا، كانت هنالك ردة فعل جادة، وهي وقوف بعض المسلمين بحزم لرفض فكرة أنه من الضروري على المسلمين إدانة جرائم داعش.

الفكرة هنا تتمحور حول أن المسلمين، الذين أنكروا من البداية تصرفات داعش، وأدانوا جرائمهم، وصرَّحوا بأن الإسلام بريءٌ منهم، هؤلاء المسلمين ليسوا ملزمين أبداً بأن يرضخوا لجهل فئات متعصبة من المجتمع، ويُرضوا خوفهم وتعصبهم بإدانة جرائم داعش. الأمر لا علاقة له بتعصب ما بين الديانات، ولكن له علاقة بإهانة الكرامة الإنسانية للمسلمين حين يشكك البعض في إنسانيتهم ويطالبهم بإدانة جرائم أدانها العالم أجمع! جرائم داعش، وعقليات المتطرفين الجاهلة والمتعصبة، وجهل الكثير من عوام المسلمين بدينهم، كل ذلك قد يسمح بشك في حقيقة ارتباط جرائم داعش بالإسلام، ولكن، كما ذكرنا سابقاً، فإن هنالك فرق كبير بين حوار فكري عميق يناقش هذه التفاصيل، وبين اتهام عصبي جاهل وسطحي يُصنفك فوراً بأنك تؤيد هذه الجرائم ويطالبك بإدانتها لإثبات إنسانيتك! هذا ما رفضه الكثير من المسلمين: شيطنة كل المسلمين، واعتبار أن هذه الوحشية متأصلة في ديننا وبالتالي في عقلياتنا أيضاً.  هذا الانتقاص من إنسانية المسلمين هو ما دفع بالبعض للوقوف بحزم لمواجهة هذه الاتهامات: كيف يجرؤ البعض على اتهامنا بهذه الوحشية والحيوانية وجلعنا شركاءً في هذه الجرائم البشعة التي نحن أنفسنا – المسلمين – أكثر المتضررين منها؟!

هذه القصة، أو هذا الخلاف وما نتج عنه من تطورات في خطاب المسلمين وفي الخطاب الموجه للمسلمين، وبالتحديد الموقف الأخير الذي ذكرته حول رفض هذه المعاملة وهذا الاتهام، ذكرني بها ما يحدث عندنا في ليبيا من خطاب جاهل ومتعصب مشابه تماماً.

خطاب جاهل يُصر على الانتقاص من إنسانيتك ويطالبك بإدانة كل الجرائم التي تقع وكل الدماء التي تُسفك لكي يتأكد الجميع بأنك إنسان له ضمير حي!

إذا تحدثت عن الاغتيالات والتفجيرات التي تستهدف رجال الجيش والصحفيين والحقوقيين، سيقفز لك شخص ويسألك هل تُدين اغتيال وقتل الشيوخ والإسلاميين أم لا؟! وإذا تحدثت عن انتهاكات في حق بعض الإسلاميين أو المحسوبين على الإسلاميين، يقفز لك فجأةً شخص ويسألك هل أدنت الاغتيالات والقتل في حق الضباط والجنود أم لا؟! الأمر أصبح سخيفاً للغاية! تُدين الهجوم على منزل عائلة بريئة، وقتل كل رجال العائلة وحرق بيتهم، لأن أخوهم، الذي مات منذ شهر تقريباً، كان منضماً لمجلس شورى ثوار بنغازي، فجأة يقفز لك شخص ويقول لك لماذا لا تتحدث عن الضباط الذين تم قتلهم مع عائلاتهم؟! أو تدين اغتيال ناشط حقوقي في حرمة بيته، فيقفز لك شخص آخر ويقول لك أين ضميرك وإنسانيتك من اغتيال الشيخ فلان إذاً أمام بيته؟! وفي مثل هذه اللحظات تُحس برغبةٍ حارقة في ضرب محاورك كفاً يكسر رقبته!

من أقصدهم هنا، هم من يطالبون بإدانة كل الجرائم، وينسون أنهم بمجرد أن قالوا بأن هذه جريمة، فمن الطبيعي، بل من الحتمي أن تدينها. بالطبع لا أقصد تبرير الجرائم، أو التحريض عليها، أو تجاهلها بدعوى أن الطرف الآخر ارتكب جرائماً أيضاً، هذه كلها جرائم في حد ذاتها، ولكنني أقصد هنا التهمة التي يوجهها لك البعض – وهم في العادة مذنبون بالجرائم السابقة الذكر – حين يطعنون في إنسانيتك ويطالبونك بإدانة جرائم أي إنسان بل أي حيوان لو تعلم النطق سوف يدينها أمام الجميع بكل فصاحة! كما ذكرت، هنالك من يُبرِّرون الجرائم، يُحرِّضون عليها، يتجاهلونها بحسب مصالحهم، هذه الممارسات جرائم في حد ذاتها، ولكن إن كنتَ أنتَ أحمقاً مُجرَّداً من الإنسانية فهذا لا يعني أن كل الناس مثلك! ولا يعني أن تنتقص من إنسانية الآخرين باتهمامهم بتبرير الجرائم مثلك أو بالتحريض عليها أو بتجاهلها، وتطالبهم بإدانتها لإثبات براءتهم من ذلك!

هذه الظاهرة تضايقني كثيراً، ولا أظن أنني تحدثت عنها بوضوح.

ربما ما أعنيه هو أنه ليس من الإنسانية في شيء، ولا من العدالة في شيء، أن تطعن في إنسانية وعدالة الآخرين من قبل حتى أن يتحدثوا. ليس من العدالة أن تطعن في ضمير شخص ما لأنه تحدث عن جريمة ارتكبها طرف أنت تؤيدها، وليس من الإنسانية أن تظن بأنه لم يتحدث عن جرائم الطرف الآخر وتحكم عليه بأنه، ربما مثلك، يُميز الدماء عن بعضها البعض، فيرى بعضها ثمنيةً ولا تستحق السفك، ويرى الأخرى كالتراب الذي يستحق فقط أن يُداس عليه. إن ما تفرضه علينا الإنسانية والعدالة هو إدانة الجرائم، فالجرائم نتعرف عليها فوراً، اغتيالات، ذبح وتمثيل بجثث، تفجيرات، استهداف أشخاص مع عائلاتهم وأطفالهم، اقتحام بيوت، قتل وخطف بناءً على الهوية أو الأصل أو محل السكن، الدم والدمار دائماً واضح، الجريمة واضحة. ولكن أعماق النفس البشرية ليست واضحةً على الإطلاق، وهنا تكمن مشكلة إدانة الآخرين بناءً على أفكارهم وكلامهم الراهنة، بعيداً عن تاريخهم، بعيداً عن كل مواقفهم السابقة، دون أي فهم أو سؤال، ولكن فقط بالتعصب والكره.

شخصياً لم أجد نفسي في هذا الموقف – إلى الآن! – ولكنه يمر عليَّ كثيراً، وأصبح يسبب لي صداعاً رهيباً!

ولكن، ربما كما ذكر لي أحد الأشخاص، هذا واقعنا الآن، هذه الحرب الأهلية، بكل ما فيها من عنجهية وفوضى وغوغاء وجهل وتعصب وكره وحقد، كل إنسانيتنا التي ضاعت وتضيع يوماً بعد يوم، هذا واقعنا... يجب أن نرضى به... وربما يجب أن نرضى بأن إنسانيتنا ناقصة بالفعل، والطعن فيها، والانتقاص منها، واتهامها بتأييد جرائم وحشية، كل ذلك واقع، كل ذلك واقع ولو تجاهلناه، وحاولنا إقناع أنفسنا بأنن ندين كل الجرائم، بأننا تحدثنا عن الإرهاب واغتيال الضباط ورجال الجيش والصحافة والنشطاء، وتحدثنا كذلك عن اقتحام البيوت وقتل الأبرياء باسم محاربة الإرهاب، بأننا تحدثنا عن قصف المدنيين من كل الأطراف، بأننا تحدثنا عن أخطاء الجميع، بأننا ندين جرائم هذا، وننتقد أخطاء هذا، بأننا نحاول التمسك بجمرة إنسانيتنا المحترقة بكل ما لدينا من ضمير... لعل كل ذلك مجرد خداع منا لأنفسنا، لكي نظن بأننا أفضل من الآخرين، تماماً كما يطعن البعض في إنسانية البعض لأنهم يظنون بأنهم أفضل منهم... لعل جريمة الصمت تساوي جريمة الكلام الجاهل المتعصب، وكل ما يحدث هو سلسلة طويلة من انعكاسات جرائمنا عن بعضنا البعض...


النهاية هي الحيرة... كالعادة... مقدمة الاستسلام لليأس... لعلي أقرنها باعتذارٍ لهذه البلاد المسكينة ولتلك المدينة الرهينة ولكل أهلي ومعارفي... اعتذار لأنني أزدادُ يأساً كل يوم...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق