الأربعاء، 2 يناير 2013

255 يوماً من الجهل...





شاهدتُ جزءاً من برنامجٍ وثائقي عن الدكتور مصطفى محمود رحمه الله. وهو بالطبع الكاتب الأديب والمفكر، الطبيب والعالم،  الصوفي والفيلسوف، والذي باختصار لا حصر لصفاته، والذي أعتبره من بين الجيل الثاني أو الثالث لعصر العمالقة في مصر، ذلك العصر الذي تفجر بالاستنارة والتقدم الثقافي والفكري حتى وصل إلى تلك القمم الشاهقة التي جعلت من الناظرين إليه يصفونه بأنه عصر (العمالقة) من شدة ما اضطرهم أهل ذلك العصر إلى رفع أعينهم والنظر إلى أعلى!

وهو بالطبع – وللأسف الشديد – عصرٌ آخر من العصور لا اختلاف بينه وبين العصر الأموي أو العباسي أو الأندلسي؛ مجرد (عصر)، جاء ومضى، ولم يبقى لنا منه سوى الكثير من الكتب التي يعلوها الغبار المتصاعد من ركضنا بعيداً عنها... وبقيَّ لنا من ذلك العصر أيضاً بضع جنازات.. بضعة فرسان مازالوا في ساحة المعركة ضد الجهل، مازالوا يحاولون أن يمنعوا ذلك العصر من أن يكون عصراً عتيقاً من تخصص علماء الآثار والتنقيب، يحاولون أن يزرعوا البذور ليستمر الحصاد، ولكن سنة الحياة تُدركهم، أو بالأحرى سنة الموت.

ومن بين هؤلاء كان مصطفى محمود الذي تُوفي سنة 2009 دون أن ينتبه له أحد.. هناك وسط ساحة المعركة ضد الجهل، تلك الساحة الخاوية على عروشها اليوم، إلا من بضعة قبور...


لم أشاهد البرنامج الوثائقي كاملاً، ولكنني أدركتُ جزءاً لا بأس به. وقد كان البرنامج يعرض أعمال مصطفى محمود في حياته، مع تعليقات وآراء مجموعة من الكتاب والمفكرين والمقربين من مصطفى محمود. ولعلهم بذلك اختاروا ترك المجال للمشاهد نفسه لكي يتوصل إلى شخصية مصطفى محمود من خلال الإطلاع على أعماله. وبالرغم من الشهرة (النسبية) لمصطفى محمود بين الناس – أقلهم يعرف كل أعماله وسيرة حياته، وبعضهم يعرف كتبه وجزءاً من أعماله، والبعض الآخر يعرف فقط برنامجه الشهير (العلم والإيمان)، والغالبية العظمى اليوم، كما أظن، يعرفون أنه مُفكر له بعض المقولات والاقتباسات التي يتداولها الناس على الإنترنت هنا وهناك – بالرغم من هذه الشهرة النسبية، إلا أنني أظن بالفعل أن الغالبية العظمى لا تعرف تماماً من هو هذا الرجل، وأنا شخصياً تفاجأتُ ببعض ما ورد في هذا البرنامج الوثائقي عنه.

شخصياً، أول ما يبدر إلى ذهني عند الحديث عن مصطفى محمود ثلاثة أمور:

أولها، الكمية الكبيرة لمؤلفاته، وبالأخص كتبه العديدة ذات الطابع الإسلامي.

ثانيها، اهتمامه الشديد بالعلم، ومحاولاته الحثيثة لربط العلم والإيمان، وذروة هذا الاهتمام المزدوج التي تمثلت في برنامجه الشهير (العلم والإيمان).

ثالثها، الجدل الديني الذي أثارته أفكاره، سواءً كان ذلك في بداية مسيرته ببعض الأفكار الإلحادية، أو في بقية مسيرته ببعض الأفكار والتفسيرات العلمية والعصرية للدين.

هذه الأمور الثلاثة نالت نصيبها وأكثر من العرض والتأويل والتعليق في البرنامج الوثائقي. وكانت الآراء المطروحة من قبل بعض المفكرين والكتاب المشاركين في البرنامج رائعة جداً من حيث إجلاء سوء الفهم عن بعض أعمال مصطفى محمود، وأيضاً في بعض الحالات من حيث التماس بعض الأعذار له. ولكن لم تكن هذه هي كل فائدة البرنامج وحسب. فقد كشف لي البرنامج جوانباً في حياة هذا الرجل لم أكن أعرفها، ولكنني حين عرفتها ازداد احترامي له وتقديري لرسالته.

لقد اكتشفت، باختصار، أن مصطفى محمود لم يكن يكتب فقط، أو يتحدث على التلفاز وحسب...

مسجد مصطفى محمود

لقد اكتشفت أن مصطفى محمود أنشأ مسجداً أسماه (مسجد محمود)، وهذا المسجد لم يكن مجرد مكانٍ مُقدسٍ للعبادة، ولكنه كان مسجداً دينياً، وثقافياً، وعلمياً، وخيرياً. لقد كانت تُقام في هذا المسجد محاضرات وجلسات حوار ثقافية وعلمية تحضرها نخبة من المفكرين والعلماء في ذلك الوقت. وكان بالمسجد أيضاً مكتبةٌ تضم تشكيلةً قيمة من النتاج القديم والحديث لأقلام بعض أبرز المفكرين والعلماء. وكان في المسجد أيضاً متحفٌ طبيعي. وفيه أيضاً متحفٌ جيولوجي. ولم تكن هذه (الملحقات) في المسجد للعرض وحسب، ولكنها كانت أيضاً للدراسة والتعلم، فقد كان مصطفى محمود يتواصل مع طلبة الجامعات، ويدعوهم لدراسة العينات، بل ويسألهم إن كانوا يحتاجون لأي شيء مُحدد لكي يحاول الحصول عليه. وفي سطح المسجد كان هنالك منظار (تيليسكوب) لمن يبحث عن علم الفلك، أو من يبحث عن قدرة الله في الطبيعة. ولا شك عندي في أن هذا المسجد كان محاولةً من مصطفى محمود لاستنساخ تجربة المساجد خلال ازدهار الحضارة الإسلامية، تلك المساجد التي كانت بيوت عبادةٍ وعلم: كانت مدارساً، وجامعات، ومكتبات، بل كانت تُصدر الشهادات والإجازات، ويقول بعض المؤرخين أن المساجد في الحضارة الإسلامية، بكل هذه الصفات العلمية، لربما كانت أولى الجامعات التي عرفتها البشرية، مثل مسجد القرويين الجامعي في فاس بالمغرب، الذي كانت تُدرس فيه، بالإضافة إلى علوم القرآن والحديث واللغة، علوم الحساب والرياضيات والطب والكيمياء والفلك والجغرافيا والتاريخ والمنطق والبلاغة (هذا المسجد الجامعي بنته فاطمة بنت محمد الفهري رحمها الله من ميراثها الذي نذرته كله لبناء المسجد وأشرفت شخصياً على ذلك). أظن أن مصطفى محمود كان يسعى لإعادة هذه التجربة الحضارية التي يقترن فيها العلم بالإيمان وتنطلق فيها الحضارة من محرابٍ واحد.

مع الشيخ الشعراوي في جلسة ثقافية في المسجد

ولم يكن المسجد دينياً وعلمياً فقط، فقد كان أيضاً جمعيةً خيرية، لعل أبرز إنجازاتها هي (مستشفى محمود) التي كانت موجهة للطبقات المسحوقة بكل ما للكلمة من معنى، والتي لم تكن أسعارها (رمزية) وإنما كانت عجيبة!!! فالفحص الطبي كان يُكلف جنيهاً مصرياً واحداً!!!

نعم، لم يكن مصطفى محمود يكتب فقط، لم يكن يتحدث فقط... لم يكن (مفكراً) وحسب، بل كان (فاعلاً)... صاحب رسالة.. هو الذي فكَّر فيها، وكتبها، وتحدث عنها، وهو الذي حملها وحاول أن يوصلها إلى الناس.

ولكن، في هذا العالم – وبالتحديد في عالمنا العربي الرائع! – كثيراً ما يجد أصحاب الرسالات أنفسهم يعودون من رحلةٍ طويلة، رسائلهم في أيديهم، ويتحصنون في أمان العزلة، بعد أن يكون الناس قد رجموهم بالتعصب وسوء الفهم. وكذلك كانت رحلة مصطفى محمود؛ فقد ركن في سنوات عمره الأخيرة إلى العزلة.


أذكر، في أول مرأة قرأتُ فيها أنه كان منعزلاً وأنه تزوج وتطلق كثيراً، أذكر أنني قلتُ في نفسي أن هذه ضريبة تأليف ما يقارب من 80 كتاباً! هي فقط تلك الفُسحة التي يحتاجه المفكرون لتتنفس فيها عقولهم، وليسكبوا أرواحهم على صفحات الكتب. وهذا الرأي ذكره أحد الأشخاص المشاركين في البرنامج الوثائقي. ولكن، كانت هنالك وجهة نظر أخرى لمشاركٍ آخر، وهي أن عزلة مصطفى محمود الحقيقية بدأت بعد نشره لكتاب (الشفاعة)، ذلك الكتاب الذي يبدو أنه فتح عليه جبهةً واسعة من الهجوم. وجهة نظر.. ربما لم أستطع قبولها في البداية، ولكنني أميل الآن إلى أن سبب عزلته مختلط؛ فهو رجلٌ مُفكر، رجلٌ من يقرأ له بعض أعماله يُدرك أنه ممن يستغرقون في التأمل – رجلٌ ذو (أعماق). وفي نفس الوقت، وكغيره من المفكرين والمتأملين، فإنه لا مفر أمامه من آفة سوء الفهم. ذلك الداء الذي لم ينج منه أرسطو وتجرعه سماً غريباً يراه لأول مرة وقال قولته الشهيرة: من ليبيا يأتي الجديد (وأوردها البعض: من ليبيا يأتي الشر... واليوم العبارة الثانية أقرب للحقيقة!) الداء الذي حكم على الشعراء والكتاب منذ الأزل بالسجن والجلد والموت في السجون، ذلك الداء الذي دفع بالشعراء والكتاب إلى اعتزال الناس، فدخلوا بيتوهم في حركةٍ ثقافيةٍ أدبية خرجت بعد ذلك حركةً دينيةً سُميَّ أصحابها بالمعتزلة. ذلك الداء الذي دفع أبوحيان التوحيدي لحرق كتبه بنفسه، ودفع ابن رشد ليرضى بأن تُحرق كتبه، ودفع ابن الهيثم للتظاهر بالجنون! ذلك الداء الذي قال عنه الراحل الرائع خليفة الفاخري: من لم يمت بالسيف، مات بسوء الفهم والتفاهم... فهل يُلام مصطفى محمود على عزلته؟ لا أظن ذلك... ولكن، هنالك من يمكن أن يُلام، بل يجب أن يُلام...

في السنين الأخيرة من حياة مصطفى محمود أنهكه المرض كثيراً، وربما كانت نعمةً من الله أن يُصاب بمرض الألزهايمر لينسى كل معاناته وآلامه التي سببها له الناس وسوء فهم الناس وجهل الناس. وقد تنقل بين عدة مستشفيات، ولكن، وفي النهاية حين أدركوا بأن الأمل معدوم، وجدوا بأن الحل الأفضل والأوفى لرسالته هو أن يُنقل إلى المستشفى التي أنشأها هو، ليتلقى فيها العناية في آخر أيامه...


وفي تلك المستشفى، وفي الحقيقة حتى قبل تلك المستشفى، كان مصطفى محمود يعاني من عزلةٍ من نوعٍ آخر، عزلة ليست اختيارية، بل إجبارية... ما الذي أجبرها؟ جهل الناس. لقد تجاهل الناس أن أحد أبرز العقول في عالمنا العربي يتعذب ويحتضر وحيداً، تجاهله المفكرون والكتاب والصحافيون، تجاهله الإعلام تماماً، تجاهله الجميع... وكأنهم نسوه كلياً... وهذا لم يكن في سنةٍ قديمة تشفع فيها صعوبة التنقل ورداءة الاتصالات لمثل هذا النسيان، بل كان في سنة 2009. بالأمس القريب جداً...

تلك الأيام المؤلمة الأخيرة في حياة مصطفى محمود، الأيام المليئة بالمرض والنسيان، جعلتني أفكر في وضع شعوبنا العربية.

لا يخفى على أحد أن الأنظمة العربية المستبدة تُحارب المفكرين والمثقفين، حتى ولو لم يتدخلوا في السياسة، فهي – من حيث المبدأ – تُحارب الإصلاح بكل أنواعه، فالإصلاح يعني الاستنارة، والاستنارة تعني الإدراك، والإدراك يعني الثورة. ولكن، هذا ليس ما يهمني. ومع أنه ليس غريباً أن نكتشف مثلاً أن هنالك أوامر علية بمنع الظهور الإعلامي لمصطفى محمود (وهو قد تعرض سابقاً لمثل هذه السياسة حين تم وقف عرض برنامجه على المحطات العامة) مع أن هذه المحاربة الصريحة من الحكومة لن تكون غريبة، إلا أن هنالك شيء أكثر رعباً... هنالك محاربة أكثر قوة وأكثر انتشاراً... الجهل. لقد نجحت الأنظمة المستبدة في محاربة الثقافة والفكر والتطور لدرجة أنها حوَّلت شعوباً كاملة إلى شعوب جاهلة تكره المعرفة، ولا تهتم لأي شخص يعرق ويبكي وينزف لأجل أن يفتح أعين الناس ولو قليلاً... لقد نجحت الأنظمة العربية في ذلك، فأصبحت لدينا شعوبٌ الجهل عندها طبيعي، والمعرفة مرضٌ تجب محاربته والأفضل اجتنابه، والوقاية خيرٌ من الإدراك. وهذا بكل بساطة ما حدث... عقود من تهميش المفكرين والعلماء والمثقفين، عقود من قمع العقول، عقود من سياسة تجهيل ممنهجة أدت في النهاية إلى تحويل العقل إلى العدو الأول للشعوب العربية. فيموت المفكرون والعلماء قبل أن يموتوا... يقتلهم التجاهل والنسيان، ويدفنون تحت أكوام الجهل...

وهكذا... أمضى مصطفى محمود 255 يوماً في مستشفاه... يكابد أمراضه التي أنهت حياته، ويكابد أيضاً مرض الجهل الذي أنهى حياة الجميع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق