الخميس، 10 يناير 2013

اتصال من الشيخ الغزالي.


كنت أقرأ إحدى مقالات الكاتب الرائع فهمي هويدي. والذي أحاول المداومة على قراءة مقالاته في مدونة أقامها شخص اسمه محمود فوزي، يحرص فيها على إدراج مقالات الأستاذ فهمي هويدي بمجرد نشرها. وأُحب الآن أن أشكر السيد محمود فوزي على هذا المجهود في جمع المقالات في مكان واحد وتسهيل الوصول إليها عبر الإنترنت لمن لا تتوفر لهم المطبوعات التي تُنشر فيها.

المقالة، كالعادة، كانت رائعة. نجد فيها النقد المنطقي للأمور غير المنطقية! وأيضاً التحليل الديني الواقعي للأستاذ فهمي هويدي. ولكن أكثر ما أعجبني في المقالة هو قصة رواها الأستاذ فهمي هويدي.

القصة هي اتصال ورده من الشيخ محمد الغزالي رحمه الله منذ زمنٍ بعيد.

من يطلع على كتابات الأستاذ فهمي هويدي، سيُدرك تأثره بالفكر الإصلاحي للمدرسة التقديمة التي كان من تلاميذها – وروادها في العصر الحديث – الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. وفي كتابات الأستاذ فهمي هويدي سيجد القارئ إشاراتٍ كثيرة تنبئ عن علاقة حميمة مع الشيخ محمد الغزالي. وهذه القصة كانت إحدى تلك اللمحات، والتي لا تخلو بالطبع من الحكمة العميقة للشيخ الغزالي ونظرته الثاقبة التي يخترق بها تراكمات الأعراف والتراث ويصل بها إلى غايات ومقاصد الإسلام الحقيقية.

يقول فهمي هويدي في مقالة (السؤال الفضيحة):

(قبل نحو ثلاثين عاماً دعا أحد خطباء الجمعة في حي الدقي بالقاهرة إلى عدم مصافحة المسيحيين أو إلقاء السلام عليهم. وهو ما انتقدته على صفحات جريدة الأهرام. وحينذاك اتصل بي هاتفياً الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وقال ضاحكاً إن الرجل ينهى عن مصافحة المسيحي في حين أن الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج من مسيحية، وأن يعيش الاثنان تحت سقف واحد، وينجبا أطفالاً أخوالهم من المسيحيين. لكن أمثال أولئك «الجهال» يستكثرون على المسلم أن يصافح غير المسلم، ويستكثرون على المسلمين أن يعيشوا مع غير المسلمين في وطنٍ واحد.

وختم كلامه قائلاً: لا تضيع وقتك مع أمثال هؤلاء، لأنك لو تتبعت كلامهم فسوف تجد عجباً وسيشغلك ذلك عن الكثير مما ينفع الناس، وخير لك أن تخاطب العقلاء ولا تلقي بالاً لخطاب الحمقى.)

هنالك دروس كثيرة يمكن تعلمها من هذه المكالمة الرائعة من الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. الدرس الأول، كما أشرت سابقاً، هو أن النظرة التي يجب أن يتعامل بها المرء مع الدين يجب أن تكون نظرة واسعة، نظرة بعيدة، تتجاوز كل ما تراكم في القرون الماضية من عادات وأعراف وتقاليد وظروف اختلطت في بعض الأحيان بالفقه واكتسبت صفةً (فقهية) وبالتالي صفةً (دينية) – وبالطبع لا نستطيع أن نتوقع من الناس اليوم أن يعرفوا الفرق بين الشريعة والفقه، وهنا تظهر لنا خطورة التمسك بالتراث الفقهي دون عودة للأسس الشرعية. فهذا كان الدرس الأول، النظرة الثاقبة، لا تنظر إلى ظروف الحروب الإسلامية الصليبية، أو إلى الاستعمار، أو إلى الغزو الثقافي، أو أي ظروف استثنائية أنتجت تراثاً فقهياً يتماشى معها بكل ما فيها من عصبية، ولكن عد إلى الأصل – لا تتعلق بالاستثناء وما قد ينتج عنه من تفسيرات غريبة ولكن عد إلى القاعدة العامة.

الدرس الثاني لا يحتاج لشرح ولا إيضاح، يحتاج فقط لإعادة طرح كلام الشيخ: (لا تضيع وقتك مع أمثال هؤلاء، لأنك لو تتبعت كلامهم فسوف تجد عجباً وسيشغلك ذلك عن الكثير مما ينفع الناس، وخير لك أن تخاطب العقلاء ولا تلقي بالاً لخطاب الحمقى.)

أظن أنني انحرفتُ قليلاً في الكتابة، فوجدتُ نفسي لا شعورياً أبحث عن دروس الشيخ الغزالي، وأحاول تفصيلها. ولكن في الحقيقة لم تكن هذه هي الغاية من وراء كتابة هذه الخاطرة...

كل ما كنت أريد التعبير عنه هو مدى فرحتي بأن أقرأ عن العلاقة بين مفكرين بارزين. شخصان أقدرهما كثيراً، الشيخ محمد الغزالي، والأستاذ فهمي هويدي. إنها علاقة حية بحياة فهمي هويدي وفي كتاباته، وأيضاً حية بما أورثنا إياه الشيخ الغزالي من مجهود فكري جبار... لقاء لم يحدث لي ولكنني أتمناه؛ فأجد عزائي في القراءة عنه بين أشخاص آخرين... ما هي روعة أن يتصل بك الشيخ الغزالي للتعليق على عمل من أعمالك؟!!! إنه أمرٌ يفوق الوصف في الحقيقة... أظن أن هذا هو مصدر فرحتي بهذه القصة: العلاقة الرائعة التي تجمع شخصين أقدرهما كثيراً، وواقعية هذه العلاقة التي لن أختبرها... لستُ أدري... كل ما أعرفه هو أنني سعيدٌ بهذه اللمحة... والتي ذكرتني بقراءة كلام لـ(إدموند بورك) يقول فيه أن (دايفد هيوم) أخبره بأن (جان جاك روسو) قال له شيئاً عن الأدب! إنه لقاءٌ عجيب بين عقول عجيبة! بل ربما، وهو الأعجب، لقاءات تولستوي في منزله مع تشيكوف وجوركي. أو ربما التعاون المشترك بين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني... لقاءات، أقرأ عنها فقط...

أذكر أيضاً المرة التي اشتريت فيها ديواناً لسميح القاسم من رجل كان معه في الأسبوع الذي سبق شرائي للديوان! فهذا رجلٌ لديَّ به صلة مباشرة، اشتريت منه كتباً، وتحدثت معه، وأراني صوره مع سميح القاسم، وسلمتُ عليه... لديه علاقة مباشرة بسميح القاسم، الذي ما يزال حياً، والذي كانت تجربة قراءة ذلك الديوان رائعة جداً، ليس فقط بسبب روعة ما فيه من شعر، ولكن أيضاً للقصة التي ارتبطت به، ولحياة شاعره...

لقد وُلدت في عصر قلَّ فيه المفكرون والكتاب والأدباء... وفرص لقائي بشخص من هذا النوع تكاد تكون منعدمة... فلا يبقى لي سوى ما أجده في الكتب...


رابط مقالة (السؤال الفضيحة) لفهمي هويدي، على المدونة التي تحوي مقالاته:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق