الثلاثاء، 2 أبريل 2013

الكفر بتاريخ العرب...


أشهدُ أني كفرتُ بتاريخ العرب، وأشهد أن العار فقط يبقى، فلا مجد ولا فخر ولا عزة...

شعبٌ يذبحه الظلم في سوريا دون أي دموع... وثورةٌ تُدفن حية عندنا في ليبيا تحت أكوام الأنانية... وطغيان يُداعَب ويُعاد انتخابه في مصر... واليمن يعاني من مجاعة العدالة... وكلنا نُغير المحطة بضجر... فهل يدل هذا الحاضرُ المُخزي على تاريخٍ مُشرِّف؟!!!

اسمحوا لي بأن أقول بكل إيمانٍ بالكفر، بكل فخرٍ بالعار، بأن البطولة العربية كذبة، وأن التاريخ العربي ليس له وجودٌ أصلاً... فرحم الله طه حسين الذي جادل مرةً بأنه لا وجود للشعر الجاهلي، ثم عاد وأعتذر... لم يكن يجب أن يعتذر، فلم يكن مُخطئاً...

لا تحدثوني عن الإسلام أو تاريخه، فأولئك الناس لم يكونوا عرباً، كانوا (مسلمين)، وذلك التاريخ ليس تاريخنا اليوم؛ إنه أسطورة قومٍ حملوا رسالةً ربانية، يقودهم نبيٌّ كريم وتؤيدهم الملائكة، وشيئاً فشيئاً انعدموا عبر العصور – الإسلام اليوم دينٌ بلا أتباع، أسطورةٌ ليس لها سوى بعض الرواة المُخرِّفِين. فلا داعي لأن نتحدث عن الإسلام والدين ونحن لا نعرف منه شيئاً، لا نعرف إلا أن الخروج على الحاكم حرام، وأن طاعة ولي الأمر واجب – دين ملوكنا وحكامنا...

لم يبقَ لنا اليوم سوى الوقوف أمام بشرٍ مُجرَّدين من أي دينٍ أو مبدأ، مُجردين من أي شيء يدل على وجود روح أو عقل... وبعد دراسة هذا (الكائن) العربي، من المستحيل ألا يكفر الواحد منا بذلك التاريخ الذي تناقلت الأجيال ملاحمه الخيالية، وتسمرنا أمام التلفاز نتابع قصص أبطاله في مسلسلاتٍ كاذبة: إنه تاريخٌ دجال...


الزير سالم لم يكن أخاً وفياً يطلب ثأر أخيه العزيز، كان مجنوناً يطلب ثأر طاغية؛ فلا تقولوا أنه بطلٌ وهو يُبيد أبناء عمومته انتقاماً لملكٍ مُستبد. لقد نسيَّ خلع درعه من نشوة السكر والنساء، وليس من الوفاء.. فلو كانت فيه ذرة شرفٍ أو وفاء، لما قتل ابن الحارث بن عباد، ذلك (المبعوث السلمي) الذي جاءه من طرفٍ محايد يطلب السلم والصلح. وذلك المجنون يقتله ثم يقول أن حياته تساوي خيط نعل كليب! أفليس هذا جنوناً؟! أظن أنه التعريف العلمي للجنون: أن تقتل ابن الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يُدمرك، ثم تهزأ به وتنتقص من شرفه! وهو هذا الجنون الذي أنهى الزير سالم حين صرعه ابن عباد وكسر شوكته وشرد جيشه. فيا ليت ابن عباد لم يكن ضعيف البصر والبصيرة... أتعلمون لما يقول العرب في أمثالهم: (أوفي من ابن عباد) أتعلمون؟! لأن ابن عباد قبض على الزير سالم في معركة يوم تحلاق اللمم، ولكنه لم يعرفه فأخذ عليه الزير سالم عهداً بأن يطلق سراحه إن دله على الزير سالم، أي على نفسه! فوافق ابن عباد ودله الزير على نفسه! فأطلق ابن عبادٍ سراحه!!! فقالت العرب (أوفى من ابن عباد) فسحقاً لابن عباد الذي أطلق سراح مجرم حربٍ مجنون، ولكن بورك لأنه كشف لنا جُبن الزير سالم الذي لا يعرف الشجاعة إلا وخلفه جيشٌ عرمرم.
كفانا تمجيداً لأسطورة الزير سالم؛ فقد أهلكت أسطورته ابن أخته امرؤ القيس، الذي خُدع بملحمة خاله وظن بالعرب العجائب؛ فتشجع امرؤ القيس على طلب ثأر أبيه، وانتحر بطلب الدعم من العرب... لقد خرج الملك امرؤ القيس يشحت مملكته من العرب، فكان ذلك بمثابة الانتحار.. وياله من انتحارٍ أحمق! لقد كان يظن أنه سيلقى عند العرب شرفاً أو معونة! فانتهى به المطاف يواسي نفسه بالغرباء ويقول أن (كل غريبٍ للغريبِ نسيبُ)، فلم يجد من العرب سوى التعريد، ولم يقف معه أحد سوى صاحبٌ (ضائع) يبكي على تشرد العربي بين العرب، صاحبٌ يبكي المنفى الدائم الذي تفرضه علينا (عروبتنا) الكاذبة تلك:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونهُ     وأيـقـن أنَّـا لاحـقانِ بقيصرا
فـقُـلتُ له: لا تـبكِ عينكَ إنما       نُحاولُ ملكاً، أو نـَموت فنُعذَرا

خاله المجنون خدعه بتاريخه، والعرب قتلوه بتخاذلهم، وصاحبه يبكي العروبة التي طردتهم... أفلا يحق لامرئ القيس أن يلتمس العذر لموته؟ أنا أعذره، أعذره فلم يبقَ في كوننا اليوم سوى القيصر... لم يبقَ لنا اليوم سوى سيف القيصر. فهل يُلام امرؤ القيس على موته بسم القيصر؟ لا يُلام ولا يُعاتب، بل يُعذر لأن قاتليه هم العرب الذين خذلوه، يُعذر لأن الروم الذين طلب مساعدتهم أشرف وأنزه من العرب، وكذلك قال أبوفراس الحمداني، عدو الروم وأسيرهم:

إذا خفتُ مِن أخواليَّ الروم خطةً    تخوفتُ من أعمامي العُرب أربعا

وآه كم كان أبو فراس مُحقاً؛ فقد قتله أعمامه، قتله العرب، ولم يقتله الروم الذين حين أسروه أبقوا عليه شرفه وتركوا له متاعه وسلاحه، بينما جرَّده العرب من فخره وعزته، واغتالوه بنسبه.. فما كان في بعض وفاء أبي فراس للعرب مذلةٌ، ولكن كان في كل وفائه غدرٌ ومقتلٌ...

أعرف بماذا تفكرون: لعلكم تركضون في دهاليز الخاطر بحثاً عن قصةٍ شريفةٍ في التاريخ العربي، ولعلكم تظنون أنكم وجدتموها في قصة عنترة العبسي... ولكن أرجوكم لا تتحدثوا عن عنترة...

لا تتحدثوا عن هذا العبد الذليل، هذا العبد الذي كان أسير الشرف والذل في وقتٍ واحد:

يُنادونني في السلمِ يا ابن زبيبةٍ     وعندَ صدامِ الخيلِ يا ابن الأطايبِ!

أهله، أبوه وأعمامه، هم مَن كانوا يشتمونه في السلم ويمدحونه في الحرب، فيا إلهي كم هو عبدٌ ذليلٌ لا كرامة له! يظن بأنه البطل الوحيد في الساحة، ولكنه يخشى من الاعتراف بأن الشعراء لم يغادروا بسبب التردم، وإنما غادروا ترفعاً عن مخالطة العبيد... عنترة يقلب موازين المعارك وحده، رجلٌ واحد يتنزع نصر معركةٍ كاملة!!! ولكنه لا يستطيع قلب موازين قبيلته، لا يستطيع أن ينتزع لنفسه الشرف من أهله. بل حتى بطولاته وانتصاراته كانت عاراً في أعين العرب! فبعد إحدى المعارك التي فاز بها عنترة، عاتب قبيلة عبس سيدها قيس بن زهير، وصرخ فيهم غاضباً: (والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء)! يا لها من فضيحة!!! فبئس العبد عنترة، وبئس الأهل العرب... هؤلاء القوم الذين يُنكرون أبطالهم ويستعبدونهم بالعروبة، بل ويُهلكون أشرافهم ويدفعونهم للجنون... أفلم يفقد قيس بن زهيرٍ، سيد بني عبس وحكيمهم، ألم يفقد عقله بسبب تعصب العرب؟!

جميعنا نعلم القصة: سباقٌ بين داحس (حصان قيس بن زهير العبسي) وبين الغبراء (فرس حذيفة بن بدر الذبياني) ويبدأ الجنون بغش بني ذبيان في السباق. غش في سباق، ينتهي بالمجازر الجماعية وتعذيب الأسرى وذبحهم والإبادة البشرية (نعم كل هذا حدث بكل شرف وعزة ولكل حادثة قصائد فخرٍ وإباء توثقها!) وبدأ قيس بن زهيرٍ يفقد عقله وهو يذبح يميناً وشمالاً. ويتجلى لنا جنونه في تلك اللحظة التي وقف فيها يبكي على جثث حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر... لقد قتلهم وكاد أن يبيد عشيرتهم، ثم وقف يبكي عليهم! فهل من المعقول أن يقع الرجل الذي يُلقب بـ(قيس الرأي) لنباهته، هل من المعقول أن يقع في حرب طويلة بسبب رهان؟! وهل من المعقول أن يقف بعد ذلك ويبكي على جثث أعدائه؟!! إنه الجنون العربي!!!

هذا تاريخ العرب كما هو... لا خير فينا، وليس في عروبتنا وروابطنا سوى الغدر والخيانة. فلعل هذا الواقع العربي هو ما دفع طرفة بن العبد إلى اعتزال قومه، ذلك الشاعر الفارس الذي أثخنته جراح روابط العروبة كأنه شهد الوغى، فأعلن للعالم ثورته:

وظُلمُ ذوي القربة أشدُّ مَضاضةً      على المرءِ مِن وقعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
 فَذَرني وخُلقـي إنني لكَ شَاِكرٌ       ولو حَـلَّ بيتي نائيـاً عِندَ ضَرْغًدِ

فبورك كيف ترك مخالطة العرب واختار المنفى في ربوع الصحراء! لقد ترك العادات والأعراف البالية، ترك المجاملات الاجتماعية، فبادر المنية بيده، وروى نفسه بكرم، حتى أبدت الأيام أخباره... لقد خاض ثورةَ حريةٍ وكرامةٍ مع العرب... ولكن هيهات للأبطال مثله أن يدوموا في الحياة... هيهات...

لقد أرعب طرفة بن العبد، بهذا الفكر الثوري المعارض، أرعب أحد ملوك العرب في ذلك الزمان وهو عمرو بن هند. هذا الشاعر الذي لا يمتلك سوى لسانه وسيفه وحياته، هذا الشاعر أرعب ملكاً. أُعجب الملك بشعره، فأكرمه وأحسن ضيافته.. وبعد ذلك أعطاه حكم إعدامه في يده وبعثه إلى الجلاد... فقتلت العروبة طرفة خوفاً على شرف ملكها! ومن حق ذلك الملك أن يخاف من طرفة بن العبد، فالغلام القتيل كان يُدرك أن الملك لا يساوي بيت شعر واحد من قريضه، ولا يساوي نفساً واحداً من حياته؛ فحين قيل لطرفة أن الملك قد يكون أصدر عليه حكماً بالإعدام، ضحك طرفة من هذا الكلام وقال أن (الملك) لن يجرؤ ولا يستطيع...

وبالفعل، لم يستطع الملك قتل طرفة، وإنما أُقيمت لطرفة مملكةٌ في عالم الخلود، بينما تدمرت مملكة عمرو بن هند على أيدي عمرو بن كلثوم، حامي حمى الديار، ورائد القومية العربية! فقد أصدر هو الآخر حكماً بالإعدام على عمرو بن هند مازلنا نُردده إلى اليوم مفتخرين بالطغيان والتجبر...

ألا لا يجهلنا أحدٌ علينا     فنجهل فوق جهل الجاهلينا

والحقيقة أن عمرو بن كلثوم الذي نفتخر به اليوم لم يكن وطنياً ولا قومياً... لقد كان مجرد طاغية آخر، لا فرق بينه وبين عمرو بن هند الذي قتله بسيفه. عمرو بن كلثوم لم ينتصر للعرب والكرامة، كل ما فعله هو أنه أخلى الساحة لنفسه ليبيض وينقر كما يشاء، فجعل نفسه ملكاً بعد أن قتل ملكاً، ثم طغى القاتل وتكبر كالقتيل... فصدق أبو العلاء حين قال:

يَتشبَّهُ الطاغي بطاغٍ مثله،    وأخو السعادةِ بينهم مَن يَسلمُ

فآهٍ وألف آه منا ومن تاريخنا الكاذب... آهٍ وألف آه من كل من يرى في العروبة شرفاً أو خيراً...

نبني تاريخاً من الخداع والخيال، ونفخر به إلى حد الهذيان... فأين العرب اليوم؟ وأين هي تلك (القيم) العربية العريقة؟!!!

أين الفرسان والشجعان من الدماء التي تفيض اليوم في سوريا؟! أين جنون الثأر ونزعة الانتقام من أركان الأنظمة في ليبيا ومصر واليمن الذين يُطلق سراحهم ويعودون لمناصبهم؟!!! أين الحكماء والشرفاء والأوفياء مما يحدث اليوم في بلداننا من سرقة للثورات وسلب للسلطات؟!

أين أساطير تلك القيم العربية اليوم؟! أين؟!

غير موجودة... لا يوجد لها أي أثر على مدى هذه الـ14 مليون كيلومتر مربع التي نسميها (الوطن العربي)... وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن تاريخنا مُختلقٌ كله؛ فليس عليه أي دليل، لم تعد له حتى أطلال أو آثار يبكي عليها العرب... فقفوا نبكي على تاريخٍ مُختلقٍ وشرفٍ مُصطنع؛ فنحن لم نتغير أبداً، يومنا كأمسنا، والعار حرفتنا منذ الأبد، فرحم الله أبا العلاء الذي نظر عبر تاريخ العرب وحاضرهم ومستقبلهم، فأبصر الحقيقة وقال:

وهكذا كان أهل الأرض مُذ فُطِروا      فـلا يظنُّ جَـهولٌ أنـهُم فَـسدُوا


القصة الوحيدة، من التاريخ العربي كله، التي يمكنني أن أصدقها اليوم هي القصة التي تؤكد أن (الكذب التاريخي) هو العادة العربية الوحيدة التي توارثتها الأجيال...

كان هنالك فارسٌ مقدام اسمه عمرو بن معدي كرب. لم يكن كأي فارس، بل من أولئك الفرسان الذين يُحسب لهم ألف حساب في (الوطن العربي) كله، يتحدث عنه الفرسان في كل الأقطار ويخشون الالتقاء به. وكان أيضاً شاعر القبيلة الذي يُوثق انتصاراتها وإنجازاتها كوزارة الإعلام!

وفي إحدى المعارك هُزمت قبيلته، فبدأ شعراء القبيلة الأخرى يتغنون بقصائد بالفخر ويتباهون بالنصر، فسارع رجال قبيلة عمرو إليه، فيما يمكن اعتباره سابقةً تاريخيةً في تزوير التاريخ، سارعوا إليه وطلبوا منه أن يصدح بقصيدة فخر... قصيدة فخر بعد خسارة المعركة!!!

وبالفعل، قام عمرو بإلقاء قصيدة... ولكنها لم تكن قصيدة فخر، كانت قصيدة عار... لقد رد عليهم عمرو في قصيدته قائلاً:

ولو أنَّ قوميَّ أنطقتني رِماحُهُم      نَطقتُ؛ ولكنَّ الرماحَ أجرت

لقد قال لهم عمرو أن رماحهم كان من الممكن أن تلهمه بالنصر قصيدة فخر، ولكن القوم أسكتوه بخسارتهم وعارهم، فلم تنطقه الرماح (ولكن الرماح أجرت)، أي قطعت لسانه كما كان العرب قديماً يشقون لسان صغير الناقة لئلا يرضع من أمه – قومه يطلبون منه تزوير التاريخ، ولكن عارهم قطع لسانه فأبكمه.

فهذا ما يحدث لنا اليوم... ألسنتنا تُقطع برماح العار، فلا نستطيع أن نفخر بذلك التاريخ الكاذب... أفلا نكفر بتاريخ العرب إذاً؟!!!

وإن كنا لا نستطيع أن نفخر بتاريخٍ كاذب، فإننا نستطيع، كما فعل عمرو بن معدي كرب، نستطيع أن نبكي على هذا العار... نستطيع أن نبكي وننوح ونصرخ على هذا التاريخ الكاذب الدجال الذي كفرنا به...

فالبكاء والعويل لا يحتاجان للألسنة والكلمات...

ليبياالمستقبل: 3 يونيو 2012

-----

* ملاحظة: النسخة المنشورة على موقع ليبيا المستقبل بها خطأ تاريخي فاضح! فحين جلستُ لأكتب المقالة اختلط عليَّ الملك عمرو (بن هند) والملك عمرو (بن كلثوم)، في قصة طرفة بن العبد. ولكن هذه النسخة قمتُ فيها بتصحيح الخطأ، ومراجعة باقي المعلومات المذكورة للتأكد من أن الذاكرة لم تخذلني في موضعٍ آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق