الجمعة، 19 أبريل 2013

هل عاشرنا القذافي أكثر مما يجب؟


بعد انتقال رسولنا الكريم – عليه الصلاة والسلام – إلى الملأ الأعلى جاء عهد الخلفاء الراشدين، الذين كان حكمهم الأكثر شبهاً بحكم الرسول، فكأن تلك الفترة كانت امتداداً للوحي واستمراراً لتأسيس الإسلام. وهي بالطبع نتيجةٌ طبيعية؛ فالصحابة الكرام عايشوا الرسول الكريم، وتعلموا منه وتأثروا به مباشرةً، فمن المنطقي أن يُطبقوا ما تلقوه منه، ويحكموا بمثل ما حكم. وبعد عهدهم الراشد، انتهى العصر المعروف بـ(صدر الإسلام)، وبدأت تنتشر مدارسٌ جديدة، وتعاليمٌ جديدة، تنحرف تارة عن الإسلام، وتعود إليه تارةً أخرى. ولكن إلى اليوم، يظل أكثر من التزموا تعاليم الرسول الكريم هم صحابته الذين عاشوا في كنف دروسه ونموا في أمان تعاليمه الشريفة.

الأمثلة كثيرة لتأثر الإنسان بمن يُعايشه، وبالبيئة التي عاصرها؛ فهذه هي سنة الحياة: من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم. وهي نحيزةٌ بشرية تُقلقني للغاية في وضعنا الحالي... فهي تطرح أسئلةً هائجة، تُغرق خاطري في الفزع، فلا أستطيع بدءها إلا بقول (يا إلهي!)... هي أسئلةٌ مهمةٌ للغاية في مسار ثورة 17 فبراير... ولابد أنَّ الكثيرين منا قد طرحوها على أنفسهم... ولا مفر من عرضها، وبدايتها كما ذكرت: يا إلهي! ممن تعلم شعبنا؟ بمن تأثروا؟ ومن أين تلقوا معرفتهم بالسياسة والقيادة؟ ومن الذي تطبعوا بطباعه؟... حين تُفكرون في إجابة هذا الأسئلة، فستجدون أن بدءي لها بكلمة (يا إلهي) كان مُبرَّراً...

شعبنا، وقادتنا الجدد على وجه التحديد، لم يعاشروا القذافي أربعين يوماً، بل أربعين عاماً! فهل يمكن لأحد بأن يقول بثقة بأننا، وقادتنا الجدد، لم نتأثر بالقذافي إطلاقاً؟

لأربعة عقود ونحن نعيش في مدرسة القذافي، وحتى إن قلنا بأننا كنا ننام في الحصص والمؤتمرات، وحتى إن قلنا بأننا كنا نقف في طابور الصباح وأيدينا في جيوبنا، وأننا كنا نُحرك شفاهنا بدون أن ننطق بنشيد القذافي، ومهما حاولنا تبرئة أنفسنا من تهمة أننا (خريجي مدرسة القذافي) فإننا لن نستطيع ذلك؛ ففي النهاية مدرسة القذافي ومناهجه هي الوحيدة التي عرفناها؛ فكيف يمكننا أن نعرف علماً غير علمه؟ كيف يمكننا أن نقول بأننا لم نتعلم حرفاً واحداً من تعليمه الإجباري لنا وهو كان التعليم الوحيد الذي درسناه وعايشناه وتعذبنا في ظلماته؟

إنها نتيجةٌ – للأسف – طبيعية، بل حتمية، أن يَخلفَ القذافي (قذافيون) جُدد. ونحن بدأنا نرى هؤلاء الطغاة الجدد أصلاً، فكل من تولى منصباً، كل من شارك بفعلٍ أو بكلمة، كل من جلس على كرسي مُرتفع قليلاً، وإن كان يسنده بجريدة أو بحذائه، بدأ (يتفرعن) كما يُقال... وإن كان انقلاب سبتمبر 1969 قد ألقى علينا بقذافي واحد، فإن ثورة فبراير 2011 قد ألقت علينا القذافي بالجملة!

في بداية الثورة تفاجأنا نحن الليبييون، قبل الجميع، بفيض الأخلاق والإنسانية الذي اغتسلت به ثورتنا. لم يكن أي ليبي عاش و(تبهدل) في ليبيا يتصور أن يصدر من الشعب الليبي كل هذا التحضر والمدنية؛ خاصةً بعد أن أفنى القذافي 42 عاماً في تدمير الشعب بتهشيم أخلاقه وتقطيع قيمه ومبادئه... وكانت المفاجأة: أظهر شعبنا العزيز سمواً ملائكياً. وإن المرء ليكاد يبكي حين يسمع عن قصص تعاون الشعب وتضحياتهم وإنسانيتهم، بل إننا تفاجأنا أكثر برحمة هذه الثورة وتقبلها لكل من انضم إليها بصدورٍ واسعة خالية من الحقد...

وبعد أن هدأت نشوة الثورة، بعد أن انكشف غبار الاندفاع نحو الحق والحرية، عدنا إلى المرحلة التي يغلب فيها العقل والمنطق على الروح والقلب، وبدأ الغرور يظهر، ومعه الاستغلال والاستبداد، تراجعت التضحية أمام كتائب الأنانية... وبدأت دروس تلك العقود الأربعة تُبدي نتائجها، بدأ (عِلم القذافي) يطفو إلى السطح، بدأت أعرافه وعاداته تعود لتظهر في تصرفاتنا. وعادت رائحة الظلم والضياع النتنة لتفوح في أوساطنا بعد أن أصبحنا مدمنيين لنسيم الحرية، بعد أن أصبح عطر بلادنا الرسمي هو دماء الشهداء، عادت خباثة الماضي لتطفح على جدران ثورتنا كالطحالب الخضراء، وعادت قذارة الماضي لتُغرق مسار ثورتنا كمياه المجاري... فيا إلهي، هل سنرضي بالظلم بعد الظلم؟

هل يمكننا، بعد كل الشهداء والدماء، أن نرضى بأن نُمارس نفس أساليب القذافي في الحكم والقيادة؟ هل سنسمح لأنفسنا ولغيرنا بأن يمارسوا سياسة الاقصاء والتهميش؟ هل سنوافق على طرد كل من يعارضنا وكل من يتفتق ذهنه عن رأي مخالف؟ هل سنؤيد تقييد الناس بالاتهام وجلدهم بالصمت؟ هل نرضى بأن يكون كل شخص لديه (وظيفة) في الثورة رباً أعلى؟ هل سنسمح لهم بأن يقولوا لنا أنهم مشغولون لأنهم يريدون الصعود إلى أعلى برج ليروا (زميلهم) رب موسى؟ يا إلهي! هل سنرضى بتلاميذ القذافي قادةً وحكاماً بعد 42 عاماً من القذافي؟

أنا لا أتكلم هنا عن المجلس الوطني وحده، وفي نفس الوقت لا أُبرئه؛ فأنا أقصد هنا كل المقاعد التي تم شغرها في مسرح الحكم والقيادة، بدايةً من الصف الأول حيث أعضاء المجلس، وانتقالاً إلى ممثليه ومبعوثيه، ثم إلى فريق الأزمة وكل اللجان المكلفة رسمياً من قبل المجلس، ووصولاً إلى كل شخص كُلف بعمل في هذه الثورة – أي مسؤول عن تسيير عمل معين، أو تنظيم مجهودات والإشراف عليها، وحتى أي شخص تم تكليفه بتنظيف الشوارع، بل حتى من يُحضر الشاي، أو يداوم باستمرارٍ متفانٍ على الجلوس في شوكةٍ ما بقرب المظاهرات والاعتصام – أي شخص ارتفع عن الأرض ولو شبراً واحداً منذ قيام الثورة أصبح (قذافي صغير)... مع وجود بعض الاستثناءات النزيهة، لكن هذه الشخصيات الأمينة نادرة اليوم كما كانت نادرة في عصر القذافي... وأخشى أن يكون هؤلاء الأشخاص النزهاء على وشك الانقراض...

إنها طامةٌ كبرى، أن يحمل شعبٌ كامل شهادة مدارس الظلم والاضطهاد. ولكن الأمل ليس مفقوداً، فالحل موجود... والحل هو (الحوار)، حرية التعبير، نبذ العمى والصمم، ورؤية ما يعرضه الغير وسماع ما يقولونه. لا أقول بأن حرية التعبير وحدها ستنقلنا من جاهلية القذافي إلى حضارة المستقبل، ولكنني أقول بأن حرية التعبير ستُبقينا دائماً في حالة يقظة؛ فنسمع من يُنبهنا للخطأ، ونرى من يُشير إلى الغلط.

كارثة استمرار حكم القذافي لم تكن مبنيةً فقط على عنفه الدموي، وإنما كانت تستند بشكلٍ أكبر إلى الصمت، ولذلك أدعو الجميع إلى أن ينطقوا ويدعوا غيرهم ينطق، بأن يتحدثوا ويسمعوا، فالحق لا يدحضه الباطل، بل الحق هو الذي يقضي على الباطل؛ ولذلك يجب علينا أن لا نخاف من أن ينطق شخصٌ ما بالباطل، لأننا حين نكتم الأصوات جميعها خوفاً من الباطل، فنحن نكتم معها أيضاً الحق، وبدون الحق والحقيقة لن تستقيم حياتنا أبداً، ولن تنهض بلادنا من مقبرة الظلام...

وإذا أصرَّ قادتنا على الابتعاد عن الشعب ومعاملة الجميع كالخدم، وإذا أصررنا نحن على استبعاد آراء الغير وإسكاتهم، إذا أصررنا على الصراخ بمصالحنا بدون أن نستمع للغير، إذا أصررنا على هذا التخلف، فالأحرى بنا أن نُلقي بالسلاح، وأن نُنزل أعلام الاستقلال، وأن نبحث عن خرقةٍ خضراء نذهب بها إلى القذافي لنُبايعه على أربعين سنةٍ أخرى... فنحن إذا بقينا نسير في نفس هذا الطريق، فسينتهي بنا المطاف في هاويةٍ أشد هولاً من هاوية القذافي، وسيأتي علينا يومٌ في المستقبل نقول فيه (يا يوم من أيام معمر...)

ليبيا المستقبل: 20 مايو 2011.

* ملاحظة: كتبتُ هذه المقالة منذ ما يُقارب سنتين، في وقت كان فيه مصير الثورة ما يزال غامضاً، وكان الصراع محتدماً في جبهة المستقبل بين الأمل واليأس... ولكن، مع أن بوادر الانحراف كانت ظاهرة منذ تلك الفترة، إلا أننا أخفقنا في التقاطها ومعالجتها... الشيء المحزن.. المؤلم.. هو أن الكثير من الناس اليوم تجاوزوا مرحلة عبارة (يا يوم من أيام معمر...) وبعضهم وصل مرحلة (يا ليت الثورة لم تقم...) وغيرهم ضاعوا بعيداً جداً ووصلوا إلى كارثة (لقد ضيعنا القذافي...) والمشكلة ليست في الثورة، ولا في دماء الشهداء، ولا في قيامة الغضب التي كان لا بد منها، ولا يوجد أي إنسان عاقل يمكنه أن يفكر ولو للحظة في أن القذافي كان أي شيء سوى شيطان حقيقي يشتهي دماء الليبيين... المشكلة هي بكل بساطة: نحن.
وقبل أن أنسى: 
هذه المقالة نُشرت أيام الاسم المستعار، الله الله!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق