السبت، 14 ديسمبر 2013

مَن يُحرِج مَن؟

وبدأ الإحراج العالمي لليبيا يوم 9 ديسمبر حين فضَحَنا مُمَثِّل الأمم المتحدة طارق متري أمام مجلس الأمن (والعالم!) بتقريره الذي ذكر بأن 27 شخصاً قد لقوا حتفهم نتيجةً للتعذيب في سجون ليبيا في السنتين الأخيرتين. هذا الإحراج (الأُممي) تلاه بيانٌ صحفي من منظمة العفو الدولية، بنفس التاريخ، تُطالِب فيه بالتحقيق في وفاة أحد أفراد القوات الخاصة جراء التعذيب أثناء اعتقاله في طرابلس. وفي نفس السلسلة من الإحراجات الدولية صَرَّحت سفيرة الاتحاد الأوروبي في ليبيا بضرورة قيام السلطات الليبية بالسيطرة على جميع (مقرات الاحتجاز)، وتحدثت عن التعذيب بالإضافة إلى العنف وحقوق النازحين والمهاجرين. وكأن كل هذا لا يكفي، فقد جاء كل هذا الإحراج (الإنساني) بالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان!

موقفٌ مُحرِجٌ بلا شك، أن يكتشف العالم بأن الشعب الليبي كان يكذب حين ادعى بأن ثورة 17 فبراير هي ثورة تطالب باحترام الحقوق الإنسانية! وأن يتضح أن اتهامنا لنظام القذافي بارتكاب جرائم التعذيب كان مجرد (بروباجاندا) عادية في سياق تشويه سمعته. نحن شعبٌ عنيف ودموي إلى أقصى الحدود، والتعذيب بالنسبة لنا مجرد هواية لقتل الوقت (والأسرى أيضاً!)؛ ولذلك فإن مواقفاً دوليةً من هذا النوع بلا شك سوف تُحرِجُنا وتفضحُنا... أليس كذلك؟

بالطبع سوف نقول بأن هذه الجرائم لا تُمثِّل إرادة الشعب، ومَن يقومون بها هم أشرارٌ مارقون يمارسون العنف والترهيب لترسيخ سلطة الرعب والسلاح – أمرٌ حتمي في فوضى ليبيا ما بعد الثورة. جرائمٌ يرتكبها مجرمون وحسب، سواءً أكانوا ثواراً حقيقيين قاتلوا ونزفوا في الجبهات، أو أشباه ثوارٍ جمعوا السلاح المترامي بعد انتهاء المعركة؛ فأي شخص يَسجِن أناساً دون أدلة ودون حقوق إنسانية ويُعذِّبهم ويقتلهم هو مُجرد مجرم لا يمتلك أي حق أو شرعية، يمتلك فقط سجناً وأدوات تعذيب. وهذه الجرائم لا تُمثِّل الشعب الليبي الذي ثار أصلاً ضدها؛ وبالتالي فإن هذا (الإحراج العالمي لليبيا) قد لا يكون إحراجاً وإنما (دعماً دولياً لليبيا) لكي تواجه مشكلة التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، بل هو دعمٌ حتى لشرعية الحكومة التي يجب أن تدعم حقوق الإنسان في مواجهة الكتائب والمليشيات والعصابات التي تنتهك هذه حقوق. إذا كان هذا هو الواقع، فلابد أن الحكومة المُنتخَبة سوف تُعبِّر عن إرادة الشعب المؤيدة لحقوق الإنسان والرافضة لهذه الانتهاكات، وسوف تكون سعيدةً بهذا الدعم الدولي لشرعيتها... أليس كذلك؟


كلا... الحكومة ليست سعيدةً بهذا الدعم، وهي لا تراه دعماً، ولا تريده، وإنما تراه فقط إحراجاً وفضيحة... على الأقل هذا ما يمكن استنتاجه من موقف الحكومة من تقرير طارق متري.

ففي أول ردة فعل حكومية على هذا التقرير، صرَّح السيد عمر حميدان الناطق الرسمي باسم المؤتمر الوطني العام بأنه لا وجود لعمليات تعذيب! هكذا وبكل بساطة اتهم المؤتمر الوطني بعثة الأمم المتحدة بالكذب! وذكر الناطق الرسمي بأن أي عمليات تعذيب حدثت فقط إثناء الثورة (وكأن الثورة عذر!) وكانت فقط للحصول على معلومات وليس لغايات الانتقام أو الحقد (الحمد لله! يبدو أن التعذيب جيد في بعض الأحيان!!!) وهو كلامٌ عجيبٌ جداً؛ فبعثة الأمم المتحدة تؤكد بأن لديها أدلة على وقوع 27 حالة وفاة جراء التعذيب في سنتي 2012 و2013، 11 حالة منها ما بين شهري يناير وأكتوبر من سنة 2013. منظمة العفو الدولية وثَّقت وقوع 20 حالة وفاة جراء التعذيب ما بين شهري سبتمبر 2011 ويوليو 2012. بل إن كل مواطن ليبي يعلم تماماً أن هنالك تعذيب في مقرات الكتائب والسجون... ولكن المؤتمر الوطني يؤكد لنا بأنه لم تقع أي حالات تعذيب بعد الثورة!!!

وبالرغم من تأكيد المؤتمر الوطني بأن التعذيب مُجرد خُرافة اختلقتها بعثة الأمم المتحدة (بالأدلة!)، فهم لم يتوقفوا عند هذا الحد، بل قاموا بنسف العذر الوحيد الذي التمسته لهم كل الجهات الدولية حول الموضوع! فالجميع يقولون بأن السبب الأساسي للمشكلة هو عدم سيطرة الدولة على (مقرات الاحتجاز)، وبالتالي يُلقون باللوم على الكتائب والجماعات المسلحة، ولكن المؤتمر الوطني لا يمكنه الاعتراف بأنه لا يسيطر على شيءٍ ما في ليبيا! هذا مستحيل! وبالتالي كان رد المؤتمر الوطني هو أن الحكومة تسيطر على كــــــــــل السجون في ليبيا، وبأن وزارة العدل تُشرف على كل السجون وتُموِّلها!!! بالطبع لم يغب على المؤتمر الوطني أن يُوضِّح بخجل بأن الحكومة تسطير على كل السجون من ناحية (رسمية) وليس (تنظيمية)، أي أن الحكومة وظيفتها فقط تمويل هذه السجون، وليس إدراتها، وبالتالي فالحكومة تقوم بتمويل التعذيب دون محاسبة المسؤولين عنه!!!

العذر الأول الذي يمكن أن نلتمسه للحكومة على هذا الموقف العجيب هو أنها لا تريد الإحراج – فضيحة في شوارع المجتمع الدولي! وهذا عذر لا يمكن لنا قبوله؛ أولاً لأن ليبيا الجديدة قامت على (دعوى) تأييد حقوق الإنسان، وإدارة ظهرنا لحقوق الإنسان يعني إدارة ظهرنا لكل ما كسبناه وكل ما ضحينا به وكل ما نسعى لتحقيقه! وثانياً لأن الحكومة تحتاج للمساعدة والدعم لتأكيد شرعيتها في مواجهة الجماعات المسلحة التي تعرقل عملها، ومثل هذا الموقف الدولي يمكن للحكومة الاستفادة منه – إنه دعمٌ دولي إنساني وسياسي وقانوني على طبقٍ من فضة، رفضته الحكومة بدعوى أنها قد تناولت عشاءً دسماً وهي في الحقيقة تموت من الجوع! العذر الثاني الذي يمكن أن يطرحه البعض هو أن الحكومة لا تعلم شيئاً وأن هذه تقاريرٌ مفاجئةٌ لها! وهذا عذرٌ غير سليم لأن ممثل الأمم المتحدة طارق متري ذكر أنهم قدموا تقريراً عن التعذيب للحكومة الليبية وأنه قد نال ما يستحقه من اهتمام وقامت الحكومة الليبية بالترحيب بتوصياته!!!! وهو تصريحٌ مُثيرٌ للسخرية؛ فلابد أن الرجل قد أصابته صدمة حين نفت الحكومة الليبية وقوع أي حالات تعذيب! وزارة العدل قامت بزيارات ميدانية لبعض السجون، ووزير العدل اعترف بوقوع انتهاكات لحقوق الإنسان. المنظمات الدولية، مثل العفو الدولية والصليب الأحمر، أصدرت تقاريراً مبنية على زيارات ميدانية للسجون ومقرات الاحتجاز تُوضِّح أوضاع بعضها غير الإنسانية. مجلس الأمن نفسه أدان جرائم التعذيب في ليبيا شهر يونيو الماضي! فكيف يمكن للحكومة أن نفترض جهل الحكومة؟! فلا تفسير سوى أن الحكومة تحاول الحفاظ على ماء وجهها! أي ماء وجه؟! لقد جفت كل منابع كرامة الحكومة الليبية، ولم يعد لديها شيء يحفظ لها ماء وجهها سوى فضيلة الاعتراف بأخطائها... ولكن أظن أن حكومتنا أسوأ حتى من أن تعترف بعجزها وأخطائها...

في ظل كل ما يحدث في ليبيا اليوم من كوارث، قد يقول البعض بأن هذا الموضوع ليس مهماً... موت 27 شخصاً على مدى سنتين بسبب التعذيب لا يُقارن بموت العشرات كل شهر بسبب التفجيرات والاغتيالات والجرائم المختلفة، ولا يُقارن بموت العشرات في اليوم الواحد في بعض المظاهرات... بلادنا تعاني من كل شيء، وبكل بساطة، و كل صراحة، مشاكلنا في ليبيا تضعنا في أبعد نقطة ممكنة من مواجهة مشاكل المجتمعات المثالية مثل انتهاكات حقوق الإنسان؛ فما يحدث في سجونٍ مُظلمة بعيداً عن حياتنا اليومية لا يهمنا بقدر ما تهمنا الاغتيالات والتفجيرات والاعتداءات والكهرباء والبنزين والصحة وظروف الحياة المأساوية في شوارعنا وأماكن عملنا وبيوتنا – لا يمكننا الاهتمام بحقوق الأسرى ونحن لم نحصل بعد على حقوق المواطنين.

ربما هذا هو واقعنا... وربما سيقول البعض أن مَن يُسجَن ويُعذَّب، وربما يُقتل، في هذه السجون يستحق هذا المصير بسبب جرائمه، ولو كان هذا المنطق يجعلنا مجرمين بنفس القدر... وربما سيقول البعض بأن كل هذه المنظمات الدولية لا تتحدث عن التفجيرات والاغتيالات والأوضاع الاقتصادية والصحية والاجتماعية ومشاكل المواطن اليومية، إنها تتحدث فقط عن التعذيب لأنها تريد تشويه سمعة ليبيا! وهذا كله في سياق المخطط الصهيوني الإمبريالي الصليبي الأمريكي الفضائي لتدمير الدول الإسلامية والعربية!!!

ربما هنالك الكثير مما يمكن قوله حول مشاكلنا في ليبيا وأولوياتنا في الفترة الراهنة...

ولكن، كل ما أريد قوله الآن هو أن هذه الحكومة قد فشلت في خدمة الشعب، أفلا تستطيع على الأقل تمثيله بطريقة جيدة؟! نحن لا نتوقع من الحكومة أن تقضي على ظاهرة التعذيب، ولكن لا داعي لأن تُحرِجنا أمام العالم بالتظاهر بأنه لا يوجد تعذيب في ليبيا، فيُدرك العالم بأن حكومتنا المشلولة تكذب بكل وقاحة وتتجاهل حقوق الإنسان، وربما يظن العالم بأن شعبنا أيضاً لا يهتم بحقوق الإنسان... إن حقيقة ما حدث هو أن العالم لم يُحرِج ليبيا بفضيحة التعذيب، ولكن الحكومة الليبية هي التي أحرجت الشعب الليبي بفضيحة الإنكار...

11 ديسمبر 2013.



بعد أربع أو خمس مسوَّدات، لم لا أنشرها... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق