الجمعة، 27 ديسمبر 2013

عن كتابة ما يُقرأ...

في أحيانٍ كثيرة قد تمر على بضعة أمور تُثير فيكَ حماسةً للكتابة.. مواضيعٌ تُثير اهتمامك، ذكرى تفاجئُك، معلومةٌ جديدة، شيءٌ ما كنتَ تبحثُ عنه قديماً ولكنك نسيته... أشياءٌ كثيرة مختلفة تكاد ترى أثرها عليك واستنارتها في عقلك كالأفلام الوثائيقة الطبية: تراها تشتعل عبر خلاياك العصبية وهي تنتقل بسرعة إلى عقلك كالكهرباء لتنفجر فيه وتُشعل فيك تلك الرغبة في الكتابة...

ولكنك تتذكر شيئاً، شيئاً مثل مسمار جحا، إن كان مسمار جحا مُعلَّقاً وسط صدرك تماماً ليحمل كل تلك الهواجس التي تجعلك تتوقف عن التفكير في الكتابة وليس حتى الكتابة!

نعم، تريد الحديث عن هذا الابتكار وذكر قصةٍ طريفةٍ عنه، أو الحديث عن فليسوفٍ عابر ونظرياته العميقة والبعيدة، أو ربما حتى ذكر قصيدةٍ عابرة، أو التحسر على فوات فرصةٍ لحدثٍ من نوعٍ ما... لا تستطيع فعل أيٍّ من ذلك، لأنك بكل بساطة لا تريد أن ترمي بما لديك ليقرأه آخرون لا تريدهم أن يقرأوه، فتجد نفسك في نهاية المطاف لا تكتب شيئاً، أو تكتب هراءً (وهذا هو الوصف العلمي لهذه السطور!) والهراء أدنى مرتبةً من العدم، أعني (الشيء التافه) أسوأ من (اللاشيء)، ولعل رغباتنا في إرضاء غرورنا والتواصل وكل الكلام الفارغ الذي يتعلق بهذه الأمور النفسية قد يُفسِّر أننا نُقدِّم (أشياءً تفاهة) مع أننا نعلم أنها أسوأ من عدم تقديم أي شيء، وهي نتيجة طبيعية لتضارب حاجتين: الغرور والخصوصية، تريد أن تُعبِّر عن نفسك (الغرور لا يحتاج لأن يكون بمفهوم سلبي هنا، قد يكون بمفهوم إيجابي، وأنا لستُ عالم نفس!) ولكنك في نفس الوقت لا تريد أن تُعبِّر عن نفسك للجميع، والنتيجة نصٌ تافهٌ لا تعلم لماذا تكتبه أو كيف يمكن قراءته... والمأساة كلها حلقةٌ مفرغة، فلكما ازداد ارتيابك كلما ازدادت حقيقة ضياع خصوصيتك، على الأقل بالنسبة لك أنت وجنونك، وفي النهاية تجد أن الخصوصية أصبحت زاويةً ضيقة تزداد ضيقاً من كثرة ما تضطرك الحياة للتراجع بعيداً عن الناس...

لا تستطيع حتى أن تُلمِّح لأي شيء، لأن جوجل قد أنهى تماماً وظيفة (التلميح)، فكل تلميحٍ يكاد يكون مجرد رابط! أو بالأحرى عبارةً يتم قصها ولصقها (كوبي بيست!) في محرك بحث جوجل لكي تفقد كلماتك أي نوع من أنواع الخصوصية. والأمر بالطبع أسوأ بكثير حين تُدرك أن بعض الناس لديهم هوس أو رغبة أو فقط فراغٌ عميق يمنحهم قدراتٍ جاسوسية في البحث الجوجلي! لم يعد بإمكاننا إخفاء أي شيء – ناهيك عن التلميح! – وأصبحت كل كلمة مُعلَّقة على الخوف من انتهاك خصوصيتك، وهو خوفٌ حقيقيٌ جداً: شخصٌ ما يُفتش جيوبك، ويعبث بهاتفك، ويُقلب صفحات دفاترك، وينتزع الكتاب من بين يديك ليقرأ عنوانه ويرى أن وصلت، ويغمس أصابعه في عقلك وقلبك ليعبث بأفكارك ومشاعرك، وكل ذلك دون أن تستطيع أنت فعل شيء سوى الالتزام بالصمت ومحاولة كتم الألم الذي تُحس به في صدرك، مدعياً الأدب والاحترام والإنسانية، أي ببساطة مدعياً الاجتماعية، وهي في خلاصتها مجرد رياء وخداع وليغفر الله لي زلتي!

ولكن، كيف تستطيع اختيار من يقرأ ومن لا يقرأ، ومن يفكر، ومن يبحث، ومن يتجسس، ومن يفعل أي شيءٍ يريد إذا كنت تكتب لتنشر على الإنترنت أمام أعين الجميع؟!!!

سؤالٌ غريب... ولكن، أظن أن المرء لا يتصور أنه يكتب لكي يتم انتهاك خصوصيته، ولكنه فقط يكتب ليُعبِّر عن شيءٍ ما، فكرة أو أي شيءٍ تافهٍ أخر قد يمر بباله أو عبر أصابعه، ولكن ما أن تظهر بوادر انتهاك الخصوصيات، حينها فقط يُقدِّر المرء نعمة الصمت، أو بالأحرى الكتمان، فحتى الصمت قد يقول الكثير أحياناً، ولكن المشكلة أن الكثير من الناس لا يفهمون من لغة الصمت شيئاً، والذي يبقى لك هو المزيد من انتهاك الخصوصيات بمحاولة إرغامك على الكلام! وبصراحة لم أعد أعرف إلى أين أريد أن أصل بكل هذا الكلام، ولكن للعودة إلى بداية الفكرة، فإن المشكلة التي أواجهها ليست في مدى ما يمكن أن أكشفه في الكتابة، ولكن في من سيكتشف هذه الأمور... وأنا لا أتحدث هنا عن أسرارٍ دولية، ولكنها مواضيعٌ قد تبدو للبعض تافهةً جداً بينما تمتلك أهميةً من نوعٍ ما لي، فالأهمية في حياة البشر هي في الحقيقة مجرد أوهام نتعلق بها، أو بالأحرى أوهام نُعلِّقها على الأشياء: هذا (الشيء) أو هذا (الشخص) مهمٌ جداً في حياتي! اهتمامٌ مبالغٌ فيه، والمبالغة أو التطرف هي دائماً ردة فعل غير منطقية سببها في الأغلب الجهل، والجهل يمكن تعريفه بأنه (وهم المعرفة)، وهكذا نجد أنفسنا نعود للوهم من جديد.

ولكن هذا لا يُجيب عن سؤال: لماذا تكتب إذاً؟ ولماذا تتشر هذه الكلمات على الملأ؟! لا يحق لك التذمر حين تتخلى عن حقوق ملكيتك الشخصية بالتبرع بأفكارك أو مشاعرك أو هلوساتك... الإجابة (المثالية) في عالم الكلمة والكتابة ستكون (أنا أكتبُ لنفسي...) وهي إجابة (مثالية) لأنها إجابة (خيالية)، لا يوجد أي شخص يكتب لنفسه، على الأقل لا يوجد أي شخص يكتب وينشر لنفسه، فالنشر هو معادلة يكون الآخرون طرفاً حتمياً فيها. ولكن هنا يتضح لي أمرٌ ما، فمع التفكير في الآخرين ستفكر في أنهم يحكمون عليك وعلى كلماتك، ستفكر في أنهم ينتهكون خصوصياتك، وتكتشف الآن أن المشكلة هي فيك أنت!!! نعم! فأنت تعرض ما لديك ليس لكي يحكم عليك الآخرون ولكن لكي تقول بأنك أنت هكذا، كما أنهم لا ينتهكون خصوصيتك لأنك تواجههم بها بكل صراحة. وفي الحقيقة فلا يوجد شيء خصوصي حقاً، فكل ما لدى المرء قد أخذه من مكانٍ آخر، هو ليس له أصلاً، ولا يوجد في جيبه صك ملكية يمنع أي شخص آخر من البحث أو التفكير أو الاقتباس... فيبدو أن المرء بالفعل يبدأ بالكتابة لنفسه، وربما يتطور الأمر لكي يكتب للآخرين، وإن كان هنالك شيءٌ ما أعرفه (بالإضافة إلى أنني أعرف بأنني لا أعرف شيئاً، وأحياناً لا أعرف بأنني لا أعرف شيئاً!) فهو أنني لم أصل مرحلةً يكون فيها الآخرون طرفاً حقيقياً في المعادلة، وأنني مازلتُ حالياً أكتب لنفسي، إن استطعت أن أكتب أي شيء.

لقد انقلب الموضوع على رأسه تماماً...

الخلاصة إذاً أنني لا أكتب لأحد، وأكتب فقط لنفسي، للتعبير عن نفسي، وهذا لا يعني أنني أكسر أي حاجز، أو أهدم أي جدرانٍ بنيتها حولي، وإنما فقط يعني أنني أقول بأنني موجودٌ في مكانٍ مُعيَّن وأن هنالك بضعة أشياء أخذتها من عدة أشخاصٍ وأماكنٍ، ومعرفة هذه الأشياء أو إيجادها لا يعني أن شخصاً ما سوف يتسلق الجدار ويقفز إلى الداخل معي! أما الخصوصية، فهي أصلاً مفهومٌ غير حقيقيٍّ في حياتي، إلا حين أخترعُ شيئاً أو أبتكرُ لغةً جديدة! وواقع أنني أعرضها يعني أنه لا يمكن لأحد انتهاكها...

ولكن، مهما حاولت التفلسف حول الأمر، فالارتياب والقلق والجنون المطلق لا مناص منها وأنت تُدرك أن شخصاً ما في مكانٍ يزحف فوق ما تكتبه كالأفعى السامة! تشبيهٌ غريبٌ جداً، ولكنه الأقرب لوصف شيء خفي ومُخيف في نفس الوقت، ولا يُرحب به أحد على الإطلاق... إلا إن كان المرء صائد أفاعٍ، أو لديه أفعى أليفة، وكلا الوصفين لا ينطبقان علي، الوصف الوحيد الذي ينطبق علي هو شخصٌ تم إرغامه على الذهاب في رحلةٍ برية، وفجأةً تسللتَ وراءه أفعى، وبعد أن صرخ ملء رئتيه لبعضت كيلومترات وهو يركض، صعد في السيارة وأصرَّ على المغادرة فوراً!!!

أظن أنني الآن حائرٌ أكثر من قبل... ولكن، من الذي يهتم فعلاً؟!

تباً... أنا أهتم، وإلا لم أكن لأكتب كل هذا الكلام!!!

أظن أن الحل الوحيد قد يكون بغلق هذه المدونة تماماً... كسر الأقلام، وتمزيق الأوراق، والخلاص من هذا الوهم نهائياً، والاختفاء تماماً من على كوكب البشر!


فكرةٌ جديرةٌ بالتفكير... وأظن أنها الحل الوحيد الممكن... بضعة أشياءٍ فقط أحتاج لكتابتها، وتركها في أثير الإنترنت، لتكون شاهداً على قبرٍ لحياةٍ رقمية لم تدم طويلاً... ولن ألعن البشرية ولن أدعو لهم بالمغفرة... كل شخصٍ يستطيع أن يلعن نفسه أو يستغفر لنفسه، ولا داعي لأن أهتم أنا بالآخرين أكثر مما يجب...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق