كثيراً ما يتردد في ذهني موقفٌ أعتبره طريفاً...
بعد زيارة لعمتي رحمها الله – إحدى أكثر
البشر عطفاً ومودةً – خرجتْ معي تودعني عند الباب رحمها الله،كانت تنصحني، كعادتها
الطيبة، بأن أهتم بنفسي، ولكنها فاجأتني بنصيحة جديدة، نصحتني بأن لا أُصلي الفجر
في المسجد، وبأن الصلاة في البيت أفضل وأكثر أماناً، وكانت نبرتها رحمها الله جادة
تماماً، مليئة بالقلق والعطف.
لا أعلم لماذا بالضبط أعتبر هذا الموقف طريفاً، لعل
الأمر من قبيل (شر البلية ما يُضحك)؛ فالأوضاع الأمنية في زمن القذافي كانت مُفزعةً
لدرجة أن عمتك وأهلك يخشون عليك من الصلاة في المسجد، ويُحذِّرونك من صلاة الفجر
وكأنهم يُحذِّرونك من تعاطي المخدرات! ولكن، هذا كان الواقع حينها... هكذا كانت
الحياة: إذا صليت الفجر في المسجد فهذا دليل يأس: أنت لم تعد تكترث! وحين تُصلي
صلاةً أخرى في المسجد فأنت لا تستطيع إلا أن تلحظ رجال (الأمن الداخلي)، وتتظاهر
بأن صلاتك (اجتماعية) محضة! وإذا مررت في الليل على دوريةٍ أمنية فأنت تحرص على إبراز
سجائرك! وقد كان بعض (الملتزمين) يقومون بذلك عمداً، أعني وضع علبة سجائر في
السيارة لكي يظن رجال الأمن بأنهم يدخنون وبالتالي ليسوا متطرفين! وأذكر أيضاً بعض
الفترات التي كانت اللحية فيها تهمة! حتى إن شخصاً سكيراً (صايع!) مشهوراً في إحدى
المناطق لديه لحيةٌ كثيفة، اختفى من الشارع لفترة خوفاً من أن يُعتقل ويتم تجليم
لحيته! كنت إذا تكاسلت عن الحلاقة لفترة تخرج خائفاً! وتحفظ عباراتٍ ساخرة مثل:
(كسرة شفرة!) لترد على أي سؤال قد يُوجه إليك بخصوص اللحية!!! وفي إحدى المرات،
ولا أعلم كيف بالضبط، وجدتُ نفسي وسط إحدى هذه الدوريات الأمنية!
كنت عائداً إلى البيت من سهرةٍ مع صديق، وإذا بي
فجأةً أجد نفسي في مقابلة دوريةٍ أمنية! سيارةٌ أمامي وسط الطريق، وسيارتين أو
ثلاث متوقفةٌ على جوانب الطريق، وسيارتي أمن تسدان الطريق، ورجال أمن منتشرون هنا وهناك...
توقفت، وتذكرتُ بيأس بأن ما كان يحدث تلك الأيام هو أن رجال الأمن يُوقفون الشخص
الملتحي، يحلقون لحيته، ثم يجعلونه يُوقِّع على تعهدٍ ما – ورقةٌ تصبح سنداً
قانونياً ضدك، تسمح بالاشتباه فيك وتسمح بتلفيق التهم. والكارثة أنني كنتُ قد
تكاسلت عن حلاقة اللحية لفترةٍ طويلة!!! لماذا لم أسمع كلام أهلي وأصدقائي وأحلق
لحيتي؟! لماذا جئتُ من هذه الطريق؟! أنا لستُ زنديقاً!!! ولا حتى متديناً فعلاً! هذا
المكان لم تكن تتمركز فيه دورياتٌ أمنية من قبل!!! بعد نوبة هلع، سلمتُ أمري لله،
وقررتُ أن أرضى بمذلة حلاقة اللحية على أيدي رجال الأمن، وكل ما بقيَّ يشغلني
حينها هو ذلك التعهد الخبيث! فأنا أعرف أشخاصاً لا ناقة لهم ولا جمل في التطرف أو
الإرهاب أو حتى التدين أوصلتهم (تحقيقاتٌ بريئة) و(تعهداتٌ عادية) إلى سجن بوسليم!