ويحمى وطيس الحرب المقدسة التي تدور في رؤوس
المتطرفين... تفجيرٌ انتحاريٌّ هنا، وهجومٌ عنيفٌ هناك، وذبحٌ وحرقٌ وتمثيل...
ونحن نقف مدهوشين، أفواهنا مفتوحةٌ على مصراعيها، لا نستطيع حتى الصراخ من شدة
الصدمة... وأجدني أتساءل في هذا الوقت: هل دار الإفتاء أيضاً تقف مصدومةً مثلنا
بفمٍ مفتوح ولا تستطيع الكلام؟!
لقد تحدث بعض (الإسلاميين) عن هذه الجرائم... وكم
كانت أحاديث بعضهم مؤلمة، خاصةً لمن يتوقع من أشخاص ينسبون نفسهم للإسلام ألا يكون
إخلاصهم إلا للإسلام... كلهم يستنكرون التفجيرات والعنف (بلا شك!) ولكن بعضهم لا
ينسون الحديث عن الفساد في الأجهزة الأمنية وتقصيرها في تأمين المدن! وبعضهم
يتحدثون عن حقوق الثوار! وبعضهم يلفون ويدورون (ليس تفجيراً انتحارياً...)، (ليس
هجوماً انتقامياً...)، ليس، ليس، ليس، وكل شيء بالنسبة لهم (سوء فهم)، حتى الدماء
التي تسيل مجرد سوء فهم وقد تكون هذه الدماء مياهاً!!! وبعضهم يصمتون وحسب، وهذا
أهون الشرين حسبما أظن... ولكن، هؤلاء (سياسيون) لديهم مصالح وغايات شخصية أو
حزبية، ولديهم شعارات ودعايات سياسية، ولديهم وسائل ضغط وتهديد، ففي النهاية
تستطيع تبرير مواقفهم العجيبة... ولكن، أين دار الإفتاء من كل هذا؟! لم أرى لها
حضوراً قوياً إعلامياً بخصوص هذه المواضيع، باستثناء إعادة نشر بعض مقاطع الفيديو
على صفحتها الرسمية على الفيسبوك التي يتحدث فيها فضيلة المفتي عن تحريم القتل
والتفجير وعن ضرورة القصاص وعن موقف الناس من قوات الجيش والشرطة. وهي مواقف
ممتازة بلا شك، ولكن أين المواقف المواكبة والجديدة؟! وأين الحضور الإعلامي القوي
والمهيمن الذي نتوقعه من المرجعية الدينية؟!
لقد دفعني التفكير في هذا الأمر، للتساؤل عن موقف دار
الإفتاء مما يحدث، ووظيفتها ومسؤولياتها تجاه الليبيين...
1
يقول البعض بأن دار الإفتاء، أو مجلس الإفتاء، أو
المفتي العام، هي ابتكارات حديثة لا أصل لها في تاريخ الإسلام. ابتكارات ربما ظهرت
في سياق استغلال الحُكام للدين لحصر المرجعية الدينية في سلطانهم، وبهذا يحتكرون
أقوى سلاح للسيطرة على الشعب: الدين. ربما كان هذا الأمر صحيحاً من ناحيةٍ ما، ولا
يستطيع أحد إنكار استغلال الحُكام للدين وللعلماء على مر التاريخ. ولكن سوء
الاستغلال لا يعني انعدام فائدة أو وظيفة دار الإفتاء، فالمرجعية الدينية مهمة، وكما
نحتاج لأطباء ومحامين ومهندسين وفنيين متخصصين، فنحن أيضاً نحتاج لفقهاء متخصصين.
وعلى مر التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوة وعصر
الخلافة الراشدة، ومنذ العصر الأموي وصولاً إلى منتصف العصر العباسي بالأخص، ظهر
أشخاص وجهات شبيهة جداً بديار ومجالس الإفتاء والمفتين اليوم. فكثيراً ما تميز بعض
العلماء بأنهم المرجعية الدينية الأفضل في هذه المنطقة أو تلك، وكثيراً ما تميزت
بعض المساجد والمدارس في بعض المناطق بأنها المرجعيات الدينية الأفضل. المساجد
الشهيرة في تاريخ الإسلام لا داعي لتعدادها وذكرها، وكذلك العلماء الذين اشتهروا في
مناطقهم واكتسبوا ألقاباً مثل عالم المدينة، أو فقيه العراق، أو عالم أهل الشام،
وغير ذلك من ألقاب تناقلت بين العلماء في مختلف الأماكن ومختلف العصور... فلم يكن
غريباً – في التاريخ الإسلامي – أن تظهر مرجعيات دينية في مختلف المناطق، سواءً في
هيئة أشخاص منفردين، أو في هيئة جهات جماعية كالمساجد والمدارس.
ولكن، هنالك نقطة مهمة جداً يجب أن نُدركها، حتى
وإن قلنا بأنه ليس من الغريب أن تكون في البلاد مرجعيةٌ دينية، وهي أن وظيفة هذه
المرجعية، بل أهميتها كلها، مُعلَّقة على شرط مهم جداً...
2
من أبرز المرجعيات الدينية في تاريخنا الإسلامي
أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله جميعاً – والذين ربما كانوا أبرز تجسيد حقيقي
لمرجعيات دينية واسعة بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة. لكُلٍّ منهم قصصٌ كثيرة عن
مواقفهم ومبادئهم، ولكنني أريد فقط الاستشهاد باثنين منهما.
أولهما الإمام مالك رحمه الله، والذي قد نعرف
جميعاً قصته الشهيرة التي تقول بأنه كان يروي حديثاً شريفاً ينص على أن طلاق
المُكرَه لا يقع، وكان مالك يُعلِّم هذا الحديث في المدينة ويُعلِّم أحكام بطلان
ما يقع بالإكراه، ونظراً لأن بيعة الخليفة العباسي في ذلك الوقت – أبو جعفر
المنصور – كانت بالإكراه، فقد حاول والي المدينة منع الإمام مالك من رواية الحديث
وتعليمه، وحين رفض الإمام مالك، قاموا بجلده إلى أن انخلعت كتفه رحمه الله. كما
يُورد البعض بأن الإمام مالك سُئل مرةً عن الخروج على الحاكم، فأجاب بما معناه بأن
الخروج على الحاكم لا يجوز إذا كان الحاكم مثل عمر بن عبدالعزيز! فهذا مالك رحمه
الله كان واضحاً في معارضته للحُكم، وكان واضحاً في موقفه حول الخروج على الحكام،
ولكنه لم يقف مع كل من انتفضوا على الحكام وخرجوا عليهم.
ولدينا أيضاً الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي
وجد نفسه وسط معمعة (خلق القرآن) – وهو موقفٌ عقائدي تبنته الدولة العباسية ولا
داعي لنا للحديث عنه والضياع في تفاصيله الفلسفية – وقد فرضت الدولة العباسية في
تلك الفترة على كل العلماء والفقهاء والقضاة بأن يُقروا بخلق القرآن ويتبنوا موقف
الدولة، فرفض البعض، ومن بينهم الإمام أحمد رحمه الله، وقصته شهيرة في هذا الأمر،
فقد عذبوه أشد عذاب، وسجنوه، وفرضوا عليه إقامةً جبرية، ومنعوه من التدريس، ولكنه
لم يتزحزح عن موقفه أبداً، ومع كل ذلك فلم ينضم الإمام أحمد إلى أي حراك مُسلح ضد
الدولة العباسية وضد فتنة خلق القرآن، بالرغم مما يُروى عن محاولة الكثيرين
لاستعاطفه واستمالته للانضمام إليهم، وفي نفس الوقت لم يكن الإمام أحمد يُنكر على
كل من يخرجون على الحكام فعلهم، فقد مدح وترحم على الإمام الخزاعي الذي خرج على
العباسيين.
وأنا هنا لا أتحدث عن مسألة (الخروج عن الحاكم)، فواضحٌ
مما ذكرناه – ومن غيره – أن هذه المسألة رهينة بالمواقف والظروف. ولكن ما أريده من
هذه القصص هو بيان أن هؤلاء العلماء – وغيرهم كثيرون لهم مثل هذه المواقف –هؤلاء
العلماء الذين كانوا يُعتبرون مرجعيةً دينية كان أهم شرط في تأدية وظيفتهم المهمة
هو: الاستقلالية. فمنهم من عارض الحكام وأباح الخروج عليهم، ولكنه لم يقف مع كل من
يعارض الحكام، ومنهم من كان يعترض على الخروج على الحكام، ولكنه لم يكن يداهن
الحكام ويدعمهم بل يعارضهم أشد معارضة. فلم ينحز هؤلاء العلماء إلى أول شخص أو أول
جهة وافقتهم في آرائهم، ولم يعتبروا أن (التوافق) أو (التقارب) في المصالح يُلزمهم
بدعم هذه الجهة أم تلك، وإنما التزموا بالاستقلال التام، لأنهم يُدركِون بأن
مسؤوليتهم الدينية (والاجتماعية) تفرض عليهم ألا يساندوا إلا الحق، وأن ينبذوا
تماماً قاعدة مساندة أخيك في الرأي وابن عمك في المصلحة!
وهنا نجد سؤالاً مُلحاً: ما مدى استقلالية دار
الإفتاء الليبية؟!!!
3
شخصياً، أنا لستُ من الذين يقولون بأن دار الإفتاء
والمفتي لهم ولاء حزبي، أو لهم تحالف مع بعض الكتائب والمليشيات الإسلامية...
نظريات المؤامرات هذه لا أؤمن بها، ولو أنني لا أنكر أثرها بشكلٍ مطلق؛ فما نجهله
أكثر مما نعرفه في هذه الأيام، وهذا لا يسمح لنا أبداً بأي يقين، بل فقط بدرجاتٍ
متفاوتة من الشك! فنحن لا نستطيع إنكار وجود حالات (استغلال) واضحة لدار الإفتاء،
ولا نستطيع إنكار (تهميش) دار الإفتاء... ولكن المرء لا يستطيع منع نفسه من
التساؤل حول مدى جدية دار الإفتاء في مواجهة هذه التحديات. ولذلك فإن مواقف دار
الإفتاء المثيرة للحيرة تجعلني لا أستبعد أن تكون دار الإفتاء مُتأثرةً بهذه
التيارات والجماعات بشكلٍ أو بآخر ينتقص من استقلاليتها...
هذا الأثر –
حسبما أتصور – يتمثل في تعاطف دار الإفتاء الواضح مع كل من يرفع شعاراً إسلامياً،
وهذه بصراحة كارثة؛ لأن بعض من يرفعون الشعارات الإسلامية هم أبعد ما يكونون عن
الإسلام! والعاطفة الدينية التي تدفع بالواحد للانحياز لأي شخص يدعو لتطبيق
الشريعة أو يرفع علماً عليه الشهادة أو ختم النبي عليه الصلاة والسلام هي بالضبط:
عاطفة؛ أي أنها ليست عقلانية، ليست مبنية على تفاهمٍ يُؤكِّد بأن هذا الشخص أو هذه
الجماعة تمتلك نفس المبادئ الدينية، وتعتنق نفس التفسير والفهم للشريعة الإسلامية.
واختلاف دار الإفتاء مع بعض هذه الجماعات موثق بكل تلك التصريحات والبيانات
والمواعظ والخطب والحوارات الصادرة عنها أو باسمها والتي تستنكر تصرفات تلك
الجماعات. وبالتالي فإنه من الضروري أن تكون دار الإفتاء واضحةً تماماً في
استقلاليتها عن كل هذه الجهات التي تنسب نفسها للإسلام، وأن تتخلى عن مشاعرها
العاطفية تجاه كل من يتحدث عن الإسلام والشريعة. فلا داعي للتحالف أو حتى فقط
التعاطف مع أحد من أجل غاية (تطبيق شرع الله)، وبالأخص لا داعي للتحالف مع من يتفقون
مع دار الإفتاء (ظاهرياً) في هذه الغاية، ولكنهم يختلفون معها (جوهرياً) في كل شيء
آخر...
هذه العاطفة الإسلامية بلا شك تؤثر على مواقف دار
الإفتاء، وإن كانت لا تلجمها تماماً عن استنكار العنف والقتل والدمار والتطرف، ولكنها
قد تجعلها أكثر تحفظاً في الإعلان عن مواقفها، فهي بلا شك لا تريد أن تظهر بأنها
معادية للإسلام أو للشريعة أو لأي شعار آخر ترفعه هذه الجماعات... وهذه العاطفة
الإسلامية قد تؤثر أيضاً على استقلالية دار الإفتاء من حيث الحصول على المعلومات
والحكم على المواقف... هذا ما يُعرف في علم النفس باسم (التحيز التأكيدي) أو
(التحيز التوافقي)، حيث أنك من الطبيعي أن تميل وتتحيز للجهات وللآراء التي تؤكد آراءاك
وتوافقها. وشخصياً – ولو كان في كلامي هذا إثم الكثير من الظن وليس فقط بعضه! – أُحس
بأن دار الإفتاء ستميل للاستماع للجهات والأشخاص الذين ينسبون أنفسهم للتيار
الإسلامي، ولن تمنح نفس الانتباه والاهتمام لمن ينتسبون لجهات أخرى مدنية أو
ليبرالية أو علمانية أو فقط جهات لا تُعلن مليون مرة بأنها إسلامية! هذا شيءٌ
طبيعيٌّ في علم النفس: نحن ننحاز لما يوافق آراءنا ويؤكد معلوماتنا. ولكنه طبيعي
حين يكون شيئاً مبنياً على العاطفة، بدون تفكير عقلاني، وبدون دراسة متأنية، وبدون
بحث دقيق...
فهل يصح أن تتخذ دار الإفتاء مواقفها دون تفكير أو
دراسة أو بحث، وفقط بالعاطفة؟
4
هذ الميول، أو التحيز، لا يمكن أن يستمر. وهو واضح،
سواءً في بعض المواقف المتذبذبة لدار الإفتاء، أو في بعض التصريحات التي تُعلن
صراحةً دعم أي شخص يريد تطبيق الشريعة ومعارضة الآخرين، أو في البيانات المتحفظة
والتي يبدو أنها تأثرت أكثر مما يجب بالانقسام في الشارع الليبي بين تيار إسلامي
وتيار مدني... وكما ذكرنا سابقاً فهذا الميول كارثة كُبرى؛ لأن عدم استقلالية دار
الإفتاء (ولو عاطفياً) يجعلها متحيزة تجاه البعض على حساب البعض الآخر، ودار
الإفتاء مسؤوليتها هي تجاه كل الليبيين، دون أي تمييز!
ولذلك يجب على دار الإفتاء أن تسعى نحو الاستقلالية
التامة، من كل المؤثرات. ولا داعي لأن تخشى دار الإفتاء من أنها لو اتخذت مواقفاً
ضد الكتائب الإسلامية والجماعات المتطرفة (وحتى الأحزاب والتيارات السياسية
الإسلامية ذات التصرفات المشبوهة)، لا داعي لأن تخشى بأن هذا قد يؤثر على مكانتها
كمرجعية دينية، بل يجب أن تسعى دار الإفتاء لإثبات مكانتها بصفتها مرجعية دينية
وطنية علمية تُمثِّل الإسلام والشريعة أكثر من كل تلك الجماعات والتيارات، ولا يجب
عليها أن تتحفظ في مواقفها، بل يجب عليها أن تفتح النار (مجازياً!) على كل الجماعات
التي تُفسد وتُدمر تحت دعوى تطبيق الشريعة، ويجب أن تتبرأ منهن ومن تصرفاتهن. فدار
الإفتاء يجب أن تنتزع المرجعية الدينية من هؤلاء المتأسلمين، ليس لكي تحتكرها،
ولكن فقط لكي تُعيد المرجعية الدينية إلى مكانها الطبيعي: بين العلماء، وفي أوساط الدعوة
الحسنة، وفي ساحة الحوار والجدال المكشوف أمام الجميع، وتخرجها من مخازن الأسلحة
ومن تحت طاولات السياسة... وهذا يقتضي ألا تكتفي دار الإفتاء بإصدار البيانات
والتصريحات وحسب، ولكن يجب أن تشن حملةً إعلاميةً قوية، أن تعقد ندوات، أن تُقيم
ورش عمل، أن تتعاون مع وزارة الثقافة لتصوير إعلانات، أن تُصدر بيانات بدعوة تلك
الجماعات للتوبة، أن تُصدر منشورات علمية موثقة ومعتمدة تنتقد فيها عقائد وأفكار
وتصرفات تلك الجماعات، يجب أن تُوضِّح دار الإفتاء بأنها لا تمت لتلك الجماعات بأي
صلة، ويجب أن تسحب منهم المصداقية تماماً!
ويجب على دار الإفتاء أن تتحالف مع الشرطة والجيش
(وغيرها من مؤسسات الدولة)، أن تدعمهم بقوة، وأن لا تسمح للعواطف الإسلامية (الظاهرية)
بالتأثير على مواقفها، وألا تسمح أيضاً لعواطف المحن والقمع بأن تُشوِّش على حكمها
ومواقفها. جميعنا نقول بأن الجيش والشرطة يحتاجان للتطهير، ففيهم مفسدون من زمن
القذافي، وفيهم مُفسدون جدد من زمن الثورة، ولكن هذا (التطهير) لن يحدث بالتخلي عن
الجيش والشرطة وانتظار نزول جيش وشرطة من الملائكة!!! أو – وهو الأعتى! – بتدمير مؤسستي
الجيش والشرطة! بل سيحدث هذا التطهير بدعمهم والوقوف مع النزهاء منهم، وبالضغط على
السلطات القضائية والرقابية لتسريع عملية التنقية هذه، فلا يحتاج أحد للتحرج من
دعم الجيش والشرطة بدعوى أن فيهم مجرمون من النظام السابق أو فيهم فاسدون أو بأنهم
صياع! نحن لا ندعم أفراداً، نحن ندعم مؤسسات! ويجب أن نسعى لتنقية وإعادة بناء هذه
المؤسسات.
ويجب على دار الإفتاء أن تتحالف في هذه الفترة حتى
مع الليبراليين والعلمانيين. لا أعني بالطبع المتطرفين منهم، فالتطرف في أي ناحية
غير مقبول، وليس من المنطقي أن نطلب من أي جهة أن تتبرأ من فئة متطرفة وتتحالف مع
فئة متطرفة أخرى! ولكن على دار الإفتاء دعم الحراك السلمي في كل مجالاته السياسية
والاجتماعية والثقافية، ودعم نقل الخصومات والنزاعات من ساحة القتال إلى ساحة
الحوار. ولا داعي لأن يُعتبر هذا الأمر بأنه خيانة للإسلام أو انحراف عن العقيدة،
هذا لن يكون تحالفاً أيديولوجياً بقدر ما سيكون تحالفاً عملياً، فأنت إذا أردت أن
تتجدال مع شخصٍ ما فسوف تتفق معه كثيراً قبل أن تختلف معه: سوف تتفقان على مكان
اللقاء، وموعد اللقاء، وسوف تتفقان على لغة الحوار، وسوف تتفقان على موضوع الحوار،
وسوف تتفقان على الحوار نفسه. وهذا ما نريده اليوم، أن يتفق الجميع على نقل
الخلافات إلى ساحة الحوار السلمية. ودار الإفتاء يجب عليها أن تدعم هذا التوافق
وهذه النقلة، ولو كان ذلك بالتحالف مع العلمانيين والليبراليين.
وبالطبع، فإن كل ما سبق يعني أن دار الإفتاء يجب تسعى
لتقوية حضورها على الساحة، ويجب أن تحاول التغلب على كل عقبات التهميش والتعتيم
الإعلامي الذي تتعرض له، سواءً بفرض نفسها بقوة لا يمكن تجاهلها، أو بالبحث عن
قنوات اتصال أخرى مع المواطنين. أنا لستُ ممن يقولون بأن دار الإفتاء وفضيلة
المفتي لا يتحدثون عن شيء، بل أعلم بأنهم يتحدثون ويُصدرون البيانات، ولكن هذا الحراك
الإعلامي يحتاج أن يكون أقوى وأن يصل إلى مرحلة تبثه فيها كل القنوات، وينتشر على
صفحات الفيسبوك، ويتحدث به الناس في الشوارع، وإلا فلن يكون له أثرٌ حقيقي في
الشارع. وأغلب مشاكل دار الإفتاء – من وجهة نظري – كمشكلة التعاطف مع من يوافقك،
ومشكلة القطيعة مع التوجهات الأخرى، ومشكلة الابتعاد عن الشارع، ومشكلة الاتهامات
الدائمة لدار الإفتاء بالتواطؤ في الكثير من الأمور، كل هذه المشاكل من أبرز أسبابها
ضعف حضور دار الإفتاء في الساحة، الأمر الذي يجعل مواقفها غير واضحة، ويسمح للجميع
بالتخمين والتدليس والاتهام...
5
بلا شك هنالك جرأة (أو حتى وقاحة!) في استخدامي
لكلمة (يجب) بهذا الشكل المنفلت! وفي حديثي بهذا الشكل، ولكن السبب في ذلك هو وجود
مسؤوليات ضرورية تقع على عاتق دار الإفتاء تُوجب عليها التقدم لتأدية وظيفتها
الحقيقية كمرجعية دينية، وهي وظيفة مهمة للغاية في البلاد، ومسؤولية كُبرى تجاه
الشعب. ودار الإفتاء لن تستطيع النهوض بأعباء هذه المسؤولية إلا أذا سعت فعلاً نحو
الاستقلالية، وتخلصت من كل ما قد يؤثر عليها من عواطف وميول إسلامية، وجعلت
معيارها الوحيد هو الحق.
فإذا حكمت دار الإفتاء بالعقل وليس بالعاطفة، فسوف
تتحيز فقط للحق، وسوف تكون مستقلة: لا ولاء ولا ميول منها إلا للحق... وإذا مدت
دار الإفتاء يديها لكل من يدعو للحق، بدون تحفظ على أيديولوجيات أو اختلافات
فكرية، وسعت فقط نحو الحق، فستجد بأنها تقترب أكثر وأكثر من الحق، بدلاً من التعلق
بمظاهر وشكليات وشعارات تُبعدها عن الحق... وإذا تواجدت دار الإفتاء في الشارع
أكثر، وتواصلت مع الناس، فلن يستغلها أحد بإعطائها معلوماتٍ تخدم مصالحاً شخصية،
ولن يستطيع أحدٌ تسخير دار الإفتاء لخدمته بأنصاف الحقائق، فهي ستستمد كل
معلوماتها من مصدرها الرئيسي: الشعب، ولن تختلط عليها المصالح والحقائق، ولن تبقى
سوى مصلحة الشعب وحقيقة الشارع... وإذا كانت دار الإفتاء حاضرة على الدوام، واضحةً
في مواقفها وصريحةً في الإعلان عنها، فلن يستطيع أحد اتهامها بما ليس فيها...
وأنا أكتب كل هذا الكلام لأنني أرجو بالفعل أن تكون
دار الإفتاء عندنا مرجعيةً دينيةً وطنيةً علميةً وسطيةً سلمية، وأرجو أن تساعد
شعبنا في الخروج من الحيرة الدينية والمذهبية التي تغزو بلادنا ويرافقها التعصب
والعنف، وأرجو أن تكون دار الإفتاء منارةً دينية تُرشد الناس إلى طريق الدعوة
الصحيحة وإلى ساحة الحوار والجدال بالتي هي أحسن، حتى لو اختلفنا مع دار الإفتاء
فكرياً، فإنني أرجو فعلاً بأن تكون دار الإفتاء مصدراً لنشر أخلاقيات الدعوة
وأخلاقيات الحوار وآداب الاختلاف... وكل هذا من شأنه أن يواجه التطرف المتسلح
بالعنف، وأن يقلل من نفوذ وهيبة هؤلاء المتطرفين، وأن يسحب منهم إدعاء تمثيل الدين
وينزع عنهم المصداقية، وكل هذا بلا شك سيساهم في دعم بناء الدولة وفي تشجيع الشعب
على الوقوف مع بناء الدولة دون التخوف من أنهم بالوقوف ضد هؤلاء المتطرفين فهم
يقفون ضد الدين...
أرجو كل ذلك... ولذلك أرجو أن تسعى دار الإفتاء نحو
ذلك بكل جدية، أرجو ذلك لكل ما سبق، وأيضاً لكي تطمئن قلوبنا ونتأكد من أن دار
الإفتاء بريئة من كل ما تُتهم به... وأرجو حقاً ألا يتضح بأنها متواطئة في كل ما
يحدث، وبأنها تُغلِّب العاطفة الدينية والميول الظاهرية على الحق... فإن كان هذا
هو الحال، فسوف يستمر الوضع على ما هو عليه، وسوف يزداد الانقسام الأيديولوجي
والسياسي في بلادنا اتساعاً وعُمقاً، وقد لا نخرج من هذه الفوضى إلا عبر بحارٍ من
الدماء، بعد أن يلقى الإسلام من هذه المعارك أكثر الضربات الموجعة...
ليبيا المستقبل: 4 مايو 2014.
* ملاحظة: لا أظنُ أنني عبرتُ عن الفكرة المحورية بشكل جيد، أي فيما يخص تأدية دار الإفتاء لدورها الاجتماعي الإرشادي (المُستقل) عن الجميع، وتشجعيها نقل الحوار الديني، والمرجعية الدينية بصفة عامة، إلى الأوساط العلمية السلمية. وأظن أنني ربما تعاطفت مع دار الإفتاء أكثر مما ينبغي في فترة ينصب فيها غضب شعبي عارم على دار الإفتاء والإسلاميين كلهم، ولكن في النهاية هذه مجرد آراء وأفكار، ليست حقائق ووقائع، وإنما فقط تخمينات، ولن أخسر شيئاً في التعبير عنها، وفي نفس الوقت واقع أنها مجرد آراء يعني أنني أمتلك دائماً حق تغييرها بحسب الحقائق المتوفرة...
وفي سياقٍ آخر، فقد نُشرت المقالة على موقع ليبيا المستقبل تحت اسمين! العنوان مقترناً باسمي المستعار سابقاً (إبراهيم محمد طاهر)، والمقالة مُذيلة باسمي (إبراهيم سليمان الشريف)!!! خطأ عادي، ولكنني أجده طريفاً... لعل أي شيء جديد في هذه الفترة، ولو كان خطأ، يمنح المرء شعوراً بالانتعاش إن جاز التعبير... وفي النهاية، كل هذا مُجرد رماد يتراكم....
ليبيا المستقبل: 4 مايو 2014.
* ملاحظة: لا أظنُ أنني عبرتُ عن الفكرة المحورية بشكل جيد، أي فيما يخص تأدية دار الإفتاء لدورها الاجتماعي الإرشادي (المُستقل) عن الجميع، وتشجعيها نقل الحوار الديني، والمرجعية الدينية بصفة عامة، إلى الأوساط العلمية السلمية. وأظن أنني ربما تعاطفت مع دار الإفتاء أكثر مما ينبغي في فترة ينصب فيها غضب شعبي عارم على دار الإفتاء والإسلاميين كلهم، ولكن في النهاية هذه مجرد آراء وأفكار، ليست حقائق ووقائع، وإنما فقط تخمينات، ولن أخسر شيئاً في التعبير عنها، وفي نفس الوقت واقع أنها مجرد آراء يعني أنني أمتلك دائماً حق تغييرها بحسب الحقائق المتوفرة...
وفي سياقٍ آخر، فقد نُشرت المقالة على موقع ليبيا المستقبل تحت اسمين! العنوان مقترناً باسمي المستعار سابقاً (إبراهيم محمد طاهر)، والمقالة مُذيلة باسمي (إبراهيم سليمان الشريف)!!! خطأ عادي، ولكنني أجده طريفاً... لعل أي شيء جديد في هذه الفترة، ولو كان خطأ، يمنح المرء شعوراً بالانتعاش إن جاز التعبير... وفي النهاية، كل هذا مُجرد رماد يتراكم....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق