حسناً يا بنغازي.. ما هي المشكلة بالضبط؟! أكُلما
وقعت فيكِ (أحداثٌ جِسام) كان عليَّ أن أكون بعيداً عنكِ؟! هل يجب أن أغادر وأكون
دوماً مُشاهِداً؟! هل يجب أن تنقطع بي السبل وأكون دوماً مُتابِعاً لأخباركِ؟! ما
الذي يحدث بالضبط بيننا يا بنغازي؟! بكل صراحة، ما الذي يحدث؟! لماذا تُبعدينني
عنكِ؟! لماذا دائماً تتظرينني لكي أرحل، بدون أن أُقبِّلكِ وأقول لكِ بأنني أُحبك، حتى تستيقظي يا بنغازي؟!
هل تريدين مني أن أنساكِ؟! هل هذا ما تريدينه؟ هل تريدين مني أن أرُش على لساني
ملح مدينةٍ أخرى وأنسى لهجتك؟ هل تريدين مني أن أتبرع بدمي كله وأمضي أيامي خاوياً
بدونك؟ هل تريدن مني أن أمحو بصماتي وأُغيِّر اسمي وأهرب عبر حدود النسيان؟! لماذا
تدفعينني بعيداً؟! لماذا لا تسمحين لي بأن أقاسمكِ رغيف مآسيكِ؟ لماذا لا تريدينني
أن أشرب معكِ من كأس أحزانكِ ونسكر معاً بالدموع؟! لماذا لا تسمحين لي بأن أعيش
فيكِ؟! لماذا تفرضين عليَّ عذاباً أسوأ من الموت؟! ألا تعلمين بأن (الذبح أروح من
تعذيبِ مُغتربِ)؟! ابن المنقذ لم يكن له مُنقذٌ من غربته، فلماذا لا تريدين إنقاذي
من الغربة؟! ما الذي يحدث يا بنغازي؟! ما الذي يحدث؟!!!
آسف... غضبت، انطلقت، تسرعت، وأشياءٌ كثيرةٌ كلها
تؤدي إلى وقوع الحوادث.. سامحيني. ربما هي الغيرة من وجود آخرين معكِ، أو الحسرة
على بُعدي عنكِ، أو فقط الحزن العميق الذي تختلط في قاعه كل المشاعر... كل ما في
الأمر يا بنغازي هو أنني لا أريد أن يضيع انتمائي لكِ، لا أريده أن يطير مني في
دوامةٍ من الخجل والتخاذل. أريد أن أقول بفخر، دائماً، بأنني بنغازينو! ولكن، إذا
بقيتُ بعيداً عنكِ على الدوام، فستفقد الكلمة حروفها واحداً تلو الآخر... (أنا بنغازينو)
ستصبح فقط (أنا من بنغازي) وهي الآخر ستصبح فقط (أنا)، وأنا لا شيء بدونكِ يا
بنغازي! فأنتِ لستِ فقط التراب الذي وضعته في زجاجةٍ صغيرة وسافرتُ به معي، أنتِ
لستِ فقط الحجر الذي أصابني به أحد الصبية وأفقدني الوعي، ولا الحجر الذي أصبتُ به
أنا زميلاً في المدرسة وفججتُ رأسه، وأنتِ لستِ فقط الشوارع التي لطالما جُرحت فيها
رُكبتي، ولطالما اهترأت فوقها أحذيتي، ولطالما (أُعذريتي!) رميتُ فيها أعقاب
سجائري، وأنتِ لستِ الشقق والمنازل التي تنقلتُ بينها، لستِ الجدران التي خربشتُ عليها،
ولا الأرض التي نمتُ عليها، لستِ فقط جسداً احتضنني يا بنغازي طيلة تلك السنين،
ولكن فيكِ أيضاً روحٌ، بل أرواحٌ! أرواح أهلي الذين يحبونكِ مثلي وأكثر مني، أهلي
الذي أنجبوني عندكِ، وسمحوا لي باللعب معكِ في صغري، وأدخلوني في مدرستكِ، ولم
يعترضوا على صداقتي معكِ التي تحولت إلى أول (وربما آخر) قصة حبٍّ في حياتي...
أنتِ لستِ فقط مكاناً، أنتِ جنةٌ من الأشخاص الأعزاء، وفضاءٌ من الذكريات، وحقلٌ
من الأحلام، أنتِ ماضٍ من الحياة، وحاضرٌ من المواساة، ومستقبلٌ (إن شاءَ اللهُ أن
يكون قبري فيكِ) مستقبلٌ من الاحتضان...
لقد أشرقت الشمس عليَّ الآن يا بنغازي... أشرقت
عليَّ في طرابلس، ولذلك أعرف بأنها تُشرق من عندك، أعرف بأنكِ تجلسين على شاطئ
المتوسط، قدماك تداعبان الأمواج، وتُلوحين لي بالشمس... أعرف ذلك، وأزدادُ
ألماً... فأنا هنا في طرابلس - التي تعاني هي الأخرى، شقيقتك في المأساة - أنا هنا
وأعرف أنهم هناك... أعرف أن بعض الرجال يجلسون هناك، عندكِ يا بنغازي، يجلسون على
عروشٍ من الجماجم، ملوك موت، يسكرون بدمائك طوال الليل، ويطربون لنحيبك وهم
يتمايلون، ينتظرون يوماً يرقصون فيه على جثتك... وكلما مرت الأيام، كلما ازدادت
عروشهم كِبراً، وامتلأت براميل خمرهم دماً، وعلت شطحات طربهم... وأما أولادكِ يا
بنغازي، أبناؤكِ وبناتك، فهم يزدادون فقراً مع الأيام، وتخلو أيديهم من مقومات
الحياة... ولا أعني يا بنغازي مقومات (البقاء) و(العيش)، ولكني أعني الحياة؛ فكما
تعلمين يا بنغازي (ليس هنا الموتُ خطباً) كلا يا بنغازي ألا إنها الحياة... الحياة لا تعود حياةً يا بنغازي حين تنهار على ركبتيها أمام مذبح الذل، ولا يعود باستطاعتنا النظر إليها من شدة الألم، ومن قبل أن يرفع السياف سيفه، تكون الحياة بالنسبة لنا ذكرى من الألم والذل... ذل الخوف، ذل الاختناق، ذل الاغتراب وسط بيتك، الاغتراب في وسط قلبكَ تماماً، كل ذلك ذلٌّ قاتلٌ حد الهجر والنسيان يا بنغازي... لا يواسينا شيءٌ سوى أن كرامتنا التي تُسلب، لا ينالها أولئك المجرمون الأشاوس، أبطال الأنانية، يأتون من كل صوب، بعضهم يرفع أسلحة الدين، وبعضهم يرفع أسلحة الجيش، وبعضهم فقط يرفع الأسلحة، ويُعلنونكِ ساحة قتالٍ، ونُخفي نبضة أملٍ في قلبنا بين نبضات الرعب، نصمت، ونقفز فوق بِرك الدماء في طريقنا لحضور الجنازات... كل هذا الألم يا بنغازي وأنا معكِ وبين يديكِ، فما بالكِ بي وأنا بعيدٌ عنكِ؟! كلا يا بنغازي (ليس هنا الموت خطباً) ألا أنها الحياة، هنا الحياةُ على البُعد خطبٌ جلل، وهناك (الحياة على الذل خطبٌ جلل)... شاعرٌ آخر، وقصيدةٌ أخرى، وأبياتٌ أخرى، وألم يقُل
عنكِ نزار قباني: (بنغازي مدينةُ ينام تحت كل حجرٍ فيها بيتُ شعر)؟ نعم، أظنه قال
ذلك، واليوم تتربص تحت كل حجرٍ فيكِ رصاصةٌ عمياء... فما فائدة قصائد الحب التي تذبل وتموت؟! وردٌ مُجفَّف؟! فأين الحياة؟!!!
لا أعلم ماذا أقول يا بنغازي، أنا فقط أهذي، خلطةُ هلوسةٍ من ساعات الأرق الطويلة وأكواب القهوة المتتالية... أنا لا أستطيع فعل
شيء، هنا أو هناك، لا أستطيع فعل شيء سوى مشاركتكِ العذاب، ومواساتك بحضوري، ومواساة نفسي بحضورك...
ولكن.. كل ما أريد أن أقوله يا بنغازي هو أنني أُحبُّكِ، وأنَّ بُعدي عنكِ يُعذِّبُني... فليحفظك الله يا بنغازي، وفليحفظ الله كل من يستحق الحفظ فيكِ... اللهم إني أستودعك بنغازي، وأهلي في بنغازي، وأهل بنغازي
الطيبيين...
وقبل أن أرفع أصابع قلبي الآن وأتوقف عن الكتابة يا بنغازي: هل تذكرين تلك الأبيات
التي كنتُ دائماً أرددها؟ عنكِ، وعن بُعدي عنكِ، وعما قد يفوتني فيكِ؟ هل
تذكرينها؟ مازلتُ أرددها...
تبقي على خير يا بنغازي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق