بنغازي رباية الذايح... مثلٌ يعرفه كل الليبيين، وهذا
المثل لم يعد مثلاً تاريخياً فقط، بل أثبتت بنغازي أنها بالفعل تحتضن كلَّ مَن لا يجد
ملاذاً... ومرت ببنغازي ثورة الشعب المُشردة، اليتيمة، واحتضنتها بنغازي، رَحَّبت بها
في شهر فبراير الماضي... وجميعنا نعلم أن التمرد لطالما كان ضيفاً مُرحباً به في بنغازي،
والآن جاءت الثورة، وأقسمت عليها بنغازي أن تبقى فيها، أقسمت عليها أن تحميها بدمها
وبأرواح أبنائها...
والآن ها هي بنغازي، ها هي ما تزال تستضيفُ الثورة،
وتُصرُّ على حمايتها، والقذافي فقد كل ما تبقى له من عقلٍ مُتعفِّن، وتملكه اليأس،
نعم، لقد سيطر عليه اليأس، لم يستطع مجابهة أبطال مصراته، وقفز وراء البريقة وإجدابيا
خوفاً من أن تنكسر قواته على دفاعاتها، وهو الآن يركض مثل كلبٍ مسعور، لا يرى شيئاً
سوى الدم، لا يريد شيئاً سوى الانتقام... إنها قصةٌ قديمةٌ قِدم الدهر: الطاغية المتهاوي،
السفاح المجنون الذي فُضحت جرائمه ولم يعد في وسعه فعل شيءٍ سوى توجيه ضربةٍ أخيرة...
ضربةٌ أفضل ما يصفها هو كلمة (انتحارية)، ضربةٌ أخيرة يُشبع بها شهوته للدم، ضربةٌ
أخيرة يستهلك بها ما بقيَّ من حياته النجسة... القذافي حكم على نفسه بالهلاك منذ بداية
ثورة 17 فبراير، حكم على نفسه بالهلاك بعد سقوط أول قطرة دم طاهرة، وأصدر هو بنفسه
الحكم بالإعدام على نفسه حين كان يظن أنه يُصدر أوامراً لقمع الثورة... القذافي انتهى...
كل ما يفعله الآن بمدفعيته، ودباباته، هو أنه يحفر قبره، يحفره أعمق وأعمق...
وبالرغم من خوفي الشديد على مدينتي الحبيبة وأهلها،
وفزعي المُطلق على كل قطرة دماء ليبية مقدسة قد تُسفك، رعبي على بنغازي الذي يصيبني
بالشلل، مع كل ذلك يجب أن أحاول رؤية الأمر من كل زواياه، حتى إن كانت غيوم الرعب الحمراء
هي كل ما نراه في الأفق، حتى إن كان مستقبلنا سيكون جنازةً أبدية، فيجب علينا الآن
دراسة كل جوانب الأمر؛ لعلنا نجد فيها أملاً يُساعدنا على الصبر...
كلنا نعلم ماذا سيحدث إذا سيطر القذافي على بنغازي...
كلنا بكينا الدمع والدم على الزاوية الأبية، رأينا القتل الجماعي، الدمار، القصف، تدمير
المقابر، كل البشاعات التي لا يمكن لعقلٍ بشريٍّ أن يُحيط بها، تم ارتكابها في كل مكان،
منذ بداية الثورة إلى الآن، كل المدن شهدت كوارثاً إنسانية، جرائم حربٍ مُتعمَّدة...
ولكن ربما، ربما هنالك أمورٌ أخرى قد تُنقذ بنغازي...
الموقف الدولي لا يمكننا إنكار وزنه في المسألة. بلا
شك التحرك بطيءٌ جداً في ضل الظروف الراهنة في الأراضي الليبية، كل قوات القذافي التي
تزحف على بنغازي كان يجب أن يتم قصفها منذ ساعات، بل أيام، وهذا التأخير ساعد القذافي
كثيراً طيلة عمر هذه الثورة الفتية. ومع ذلك، مع كل هذا التعطيل، فإن مواقف المجتمع
الدولي الحازمة – بدايةً من تصريحات فرنسا وبريطانيا، وموقف أمريكا، وصولاً إلى موقف
مجلس الأمن – كل هذه المواقف الصارمة قد يكون لها أثرٌ فعَّالٌ على مُجريات الأحداث.
قد لا يكون هذا الأثر واضحاً الآن، ولكن فداحة ما يحدث في ليبيا، بالإضافة إلى هذه
المواقف الحازمة، قد يتمخض عن مفاجأتٍ لا يتوقعها أحد؛ فالقوات الدولية مُستنفَرة منذ
أسابيعٍ حول ليبيا، وكلنا نعلم أن المجتمع الدولي، وبالأخص أمريكا – قائدة المجتمع
الدولي – يعرفون كل شيءٍ عن تحركات القذافي في ليبيا، ويرصدون بأقمارهم الصناعية كل
تحركاته، كل هذا قد ينتج عنه ضربات مفاجئة في الساعات القادمة، خاصةً وأنَّ تحفظ المجتمع
الدولي بخصوص التدخل العسكري كان متعلقاً بشكل أساسي بحماية المدنيين، وبناءً على ما
ارتكبه القذافي إلى الآن في ليبيا من جرائم، وبناءً على تهديداته الوقحة والواضحة لبنغازي
ولكل الشعب الليبي الثائر، بالإضافة إلى أن العالم كله أصبح يعلم أن بنغازي هي (مدينة)
عدد سكانها يفوق 700 ألف نسمة وليست قاعدةً عسكرية للثوار، كل هذا قد يُعجِّل من تحرك
المجتمع الدولي، هذه التحركات التي ترد أنباءٌ عن بدايتها أصلاً، وعن تحليق عدد من
الطائرات الفرنسية والبريطانية في الأجواء الليبية.
ومع ذلك، فهذه تبقى مجرد توقعات مستقبلية متفائلة نوعاً
ما، فما تعلمناه من الماضي، وما أكدته لنا الأيام الماضية، هو واقع أن العالم (دائماً)
يتدخل متأخراً، يتجاهل كل شيء في البداية، ثم يتدخل وهو غارقٌ في العار والندم. ولذلك
علينا أن نتطلع بشكلٍ أساسي، بل حيوي، إلى الواقع على الأرض الليبية – الواقع العسكري
في الداخل، مع بقاء الأمل في وصول المساعدة. بنغازي تُعتبر حالياً معقل ثورة 17 فبراير،
وهي نقطة تجمع وتمركز للثوار والقوات العسكرية التابعة للثورة، وعليه، فيجب أن لا نتجاهل
القدرة الدفاعية المتواجدة في بنغازي ومحيطها، وجميعنا شهدنا وخبرنا قدرة أهل ليبيا
على الصمود أمام القذافي، ولعل أفضل دليل على ذلك ليس الزاوية أو مصراته أو إجدابيا
أو الزنتان، بل هو صمود ليبيا كلها طيلة 42 عاماً... وصحيح أن القذافي نجح في فصل وحصار
القوات المتواجدة في البريقة وفي إجدابيا، ومع ذلك، نعود ونقول أن القوات المتواجدة
في بنغازي كبيرة، نعم تسليحها لا يمكن مقارنته بتسليح قوات القذافي، ولكن عدد الثوار
أكبر، شوقهم إلى الحرية أكبر، إيمانهم بالنصر أكبر، استعدادهم للموت أكبر... كما أننا
يجب أن لا ننسى أن القذافي وجرذانه يهددون بنغازي منذ أيام، وهذه التهديدات لابد أنها
دفعت بالقوات في بنغازي إلى العمل على تحصين المدينة، وتنسيق دفاعاتها. وإذا أردنا
أن نُثبت لأنفسنا أن بنغازي قادرة ومؤهلة على الصمود، فما علينا إلا أن نعود بذاكرتنا
ثلاث أسابيع إلى الوارء، لنتذكر أن بنغازي حرَّرها أهلها مُجردين من السلاح، حرروها
بأصواتهم، بإرادتهم، بدمائهم... هذا العزم لا يُبشر إلا بالصمود المتين...
إنها معركةٌ خطيرة، تهديداتها مُخيفة إلى أقصى الحدود،
فالخسائر في الأرواح والأملاك تبدو حتميةً ولا مفر منها... ولكن بنغازي الصامدة، المتمردة
على الدوام، الأصيلة، هي أهلٌ لهذا التحدي، وهي مستعدةٌ له، بما لديها من عتادٍ بسيط،
وبشعار عمر المختار الخالد (نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت).. وكأنني بأهل بنغازي الآن
تسري عبر جموعهم الصامدة الخطبة الشهيرة المنسوبة إلى طارق بن زياد، بل إنني أكاد أُحس
بأن هذه الخطبة موجهة بالتحديد لكل ثوار 17 فبراير في ليبيا:
(أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم،
وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيعُ من الأيتام في
مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم
إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم،
ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا
عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته
الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت.)
إن أهل بنغازي، وقوات الثوار حولها، هم في خضم معركة
حاسمة.. معركة قد لا يتحقق فيها نصرٌ على الأرض لأي طرف.. ولكنها في جميع الأحوال ستكون
نصراً لثورة 17 فبراير؛ فبنغازي هي المكان الذي أشرق فيه نداء الحرية الطاهرة، فاستيقظ
أهلها ولبوا النداء، وانطلقت منها الثورة... بنغازي أصبحت رمزاً من رموز ثورتنا المباركة
هذه، وهي الآن معقلها الأول، ونحن لا نخشى على قدرة بنغازي وأهلها في الدفاع عن أنفسهم
وفي الكفاح، ونعلم بأنهم لا ينتظرون مساعدةً من أحد، فرنسا ليست موجودةً في شارع جمال
أو في شارع أحمد رفيق، بريطانيا لم ترسل قواتها إلى البركة والسلماني، أمريكا لم تدعم
الحدائق والفويهات، النايتو لم يتدخل في قاريونس والهواري.. المجتمع الدولي ليس موجوداً
في بنغازي... ولكن أهل بنغازي موجودون في كل شارع، في كل منزل، في كل شبر... وحتى إذا
سقطت بنغازي – لا قدر الله – فالثورة قد تجاوزت مرحلة الاستسلام، لن تنتهي، سيكافح
الشعب في الجبل الأخضر، في البيضاء، في درنة، في شحات، في طبرق، سيقاتل شعب ثورة
17 فبراير في كل مكان، وسيدافعون عن كل حبة تراب ليبية غالية...
وفي هذا الوقت، يجب علينا أن لا نفكر في الدمار والدماء،
يجب أن نحاول أن نتفادى الخضوع لشلل خوفنا على بنغازي... رعبنا عليها... يجب علينا
أن نتجاوز فزعنا على بنغازي في هذه الأوقات – حين لا نستطيع سوى البكاء، والصراخ في
فراغ العالم الصامت – فالعبرة الآن هي في الثورة (كاملة)... لا أقول بأن نتخلى عن بنغازي...
بنغازي هي مدينتي... كل سكانها أهلي، وكل بيوتها هي منازلي، ضحكي ودموعي، دمي وعرقي
جزءٌ من كل شوارعها، حياتي كلها قضيتها في بنغازي، انتهت حياتي حين غادرتها... أرتعشُ
عليها كل لحظة، تفيض روحي بكاءً عليها، اشتعلت حياتي كلها شيباً فجعاً عليها، قلبي
هرِم ومات فزعاً عليها... يا إلهي يا بنغازي يا روحي، يا حياتي، يا دمي... ولكن يجب
أن لا نسمح للدماء المسفوكة بأن تحبط عزيمتنا، ومهما هددنا هذا الواقع بمستقبلٍ أسود،
فيجب علينا أن نتمسك بالكفاح، من أجل الثورة أولاً، ومن أجل بنغازي وكل المدن الليبية
ثانياً...
ونحن ندعو الله في هذه الأوقات المظلمة، نرجوه بأملٍ
وبيأس: اللهم إنا نستودعك أهل بنغازي، اللهم إنا نستودعك بنغازي، اللهم ثبِّت أهل بنغازي،
اللهم لا ملجأ لهم سواك يا عزيز يا كريم، لا ولي لهم ولا مساند لهم سواك يا جبار يا
عظيم، فانصرهم على القوم الظالمين واحمهم يا غفور يا رحيم... لا إله إلا أنت سبحانك
إنا كنا من الظالمين... اللهم إنا دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا يا رب...
19 مارس 2011.
* هذه المقالة كَتبتُها في آخر ساعات يوم 18 مارس سنة
2011، بعد أن بدأت الأخبار المتضاربة حول الرتل المتقدم نحو بنغازي في إصابتنا
بالجنون من شدة الخوف على بنغازي. كنتُ حينها في غربة، وكنتُ أظن أنني عانيتُ
كثيراً في هذه الغربة، ولكن الحقيقة أنني لم أعانِ من شيءٍ سوى الندم على تلك
الغربة نفسها... وعلى سبيل الذكرى والتذكير، فها أنا أعيد نشر المقالة على هذه
المدونة... لا أعلم ما فائدة ذلك، ولكن ربما فقط لكي أحاول إيهام نفسي بأني فعلتُ
شيئاً، ولو كان كتابة كلماتٍ بائسة وعديمة الفائدة... لا مفر من كل الندم والخزي
الذي حكم به على الدهر الذي ألقاني بعيداً عن بلادي قبل أن تبدأ أحداث أهم قصة في
تاريخها المعاصر... نشرتُ هذه المقالة في بضعة مواقع، يبدو أن أغلبها مُغلقٌ الآن،
ولكنني وجدتُ رابطاً للمقالة في أحد المواقع، وهي مدونة المنارة للإعلام، قبل أن تتوسع
وتنتشر في الأوساط الصحفية المختلفة. وكنتُ وقتها أكتب تحت اسمٍ مستعار، وكم أشتاق
له وللخصوصية التي كان يمنحني إياها الاختباء خلفه... على أي حال، لا أعلم سبب فعل
أي شيء، لعلي فقط أقوم بملء هذه المدونة لغاية ملئها... وهذا هو الرابط...
مدونة المنارة: 19 مارس 2011.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق