ها هي ذكرى 19-3
تعود من جديد.. السبت الأسود.. سبت العزة.. يوم
دخول الرتل.. يوم هزيمة الرتل.. يوم نزوح أهالي بنغازي.. يوم صمود أهالي
بنغازي.... يوم بطولات صقور الجو.. يوم بطولات منطقة القوارشة.. يوم التدخل
الفرنسي.. يوم هزيمة من هزائم الطاغية..
يومٌ مِن أيام تاريخ بنغازي... مِن أكثر الأيام
فخراً لكل أهل بنغازي الذين لا يضاهيهم أحدٌ في حُبِّ مدينتهم...
كم آسف لأنني لستُ كاتباً حقيقياً، ولا شاعراً
موهوباً، لأنني لا أستطيع الحديث عن بطولات ذلك اليوم، لا أستطيع فعل أي شيء..
أحاول فقط أن أتذكر، أن أتذكر بعض من سيعيشون على مر التاريخ في ذلك اليوم، بعض من
استشهدوا فيه ليعيشوا في تاريخ بنغازي، بعض من اقترنت أسماؤهم بكل معاني البطولة
والوطنية...
فخر الدين الصلابي.. المهدي السمين.. محمد العقيلي..
عبدالله المسماري.. محمد نبوس.. راف الله السحاتي.. عامر بوعمود.. معاوية عصمان..
كم آسف على أنني لستُ كاتباً ولا شاعراً، وكم آسف
لأنني لا أحفظ أسماء كل من استشهدوا ذلك اليوم، ولا أحفظ تواريخ ميلادهم، ولا أحفظ
آخر كلماتهم ووصاياهم، ولا أحفظ ابتساماتهم... وكم آسف أكثر من ذلك لأنني لم أكن
موجوداً ذلك اليوم حتى لأهرب.. لم أكن موجوداً لفعل شيء.. وكل ما أستطيع فعله الآن هو محاولة التذكر...
فهذا كل ما لديَّ الآن، وهو في الحقيقة كل ما لدينا جميعاً اليوم: محاولة التذكر. الذكرى
تعود، وستعود كل سنة... الذكرى باقيةٌ ما بقيَّ لدينا تاريخٌ وسنينٌ وشهورٌ
وأيامٌ، فهل الذاكرة باقيةٌ أيضاً؟ أم أن ذاكرتنا الضعيفة تنسى كل شيء، ولا تتذكر
من هذا اليوم إلا أنه عطلة؟
لا أعلم... أظن أننا اليوم نفعل ما فعلته أنا الآن،
وهو أننا نتذكر (أسماءً) فقط ولا نتذكر (مسميات)، أعني أننا نتذكر اسماً مثل فخر
الدين الصلابي أو عبدالله المسماري، ولكننا لا نتذكر فعلاً رجلاً حلَّق في سماء
البطولة واستشهد، ولا نتذكر رجلاً ترك كل شيء وحمل سلاحه وركض نحو الشهادة.. نتذكر
أسماءهم، ونرفع صورهم، ولكننا لا نتذكر أفعالهم ولماذا فعلوا ما فعلوه... نتذكر
تاريخ هذا اليوم، 19-3، ولكننا لا نتذكر فعلاً ذلك اليوم، لا نتذكر الخوف والرعب
والقلق، لا نتذكر الشجاعة والإقدام والبطولة، لا نتذكر التضحيات والعزم والصمود،
لا نتذكر إلا يوماً نحتفل به أو ننام فيه، وتنتهي القصة، لا نتذكر حقيقة ذلك
اليوم، وما عناه من بطولة وتضحية ووحدة، وما يدعونا إليه من توحيد الصف والدفاع عن
مدينتنا والتضحية في سبيلها... لا نتذكر هذه المعاني، نتذكر فقط مظاهراً، ولا
نتذكر جوهراً...
كل شهيدٍ ليس فقط شخصاً قُتل في سبيل قضية، ولكن كل
شهيد هو دعوةٌ للعمل، وصيةٌ بالتضحية، ومنارةٌ للقادمين من بعده... وكل يومٍ في
التاريخ ليس مجرد رقم، بل هو درسٌ يجب حفظه وفهمه وتطبيقه...
ولكن أظن أننا نرتاح ونختار الاحتفال وحسب، نحتفل
بالشهداء وننسى وصاياهم وحقيقة تضحياتهم، ونحتفل بالدماء الطاهرة وننسى أنها رسمت
لنا طريقاً لنعبره، ونحتفل بالتاريخ وننسى أنه موجوداً ليُذكِّرنا وليس لنحتفل به
ونتخذه عطلة... نحتفل ونحتفل ونحتفل وليس لدينا في الحقيقة أي حق في الاحتفال، ليس
فقط لأن ظروف بلادنا لا تسمح بذلك، والدماء التي مازالت تُغرق مدينتنا لا تسمح لنا
بإقامة المهرجانات والمسيرات الاحتفالية، ولكن لأننا لم نكتسب بعد الحق في
الاحتفال بأي شيء، فنحن لم نفهم شيئاً، ولم نحفظ وصايا الشهداء، ولم ننتصر على
أنفسنا، ولم ننجح في أي امتحان، وإنما فقط اكتفينا بكتابة التاريخ على ورقة
الامتحان، وتركناها فارغة، وخرجنا نحتفل...
وتعود الذكرى، وستعود، وستبقى، ونحن سنبقى نعاني من
مرضٍ مُزمنٍ في ذاكراتنا، وسنبقى نحتفل إلى أن ننسى لماذا نحتفل... ويا إلهي...
رحمة الله على الشهداء الأبطال... رحمة الله
عليهم... ورحمة الله على الثورة التي قتلها النسيان ودفنتها الأنانية في ليلةٍ
مظلمة، واستيقظنا نحتفل دون أن ننتبه لشيء... فرحمة الله علينا نحن أيضاً...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق