مثلي مثل أي إنسان آخر، أو على الأقل مثلي مثل أي
عصفور آخر! (ولو أنني لا أمتلك ريشة واحدة، ولا حتى تأشيرة تسمح لي بالطيران!) فأنا
أحب الاستماع للموسيقا. ولأنني شخص لا أحب إزعاج الآخرين، أو ربما لأنني شخص لا
أحب أن يزعجني الآخرون! فغالباً ما أرتدي السماعات... ولكنني الآن قررتُ أن لا
أرتديها، بل تركتُ الموسيقا تنساب من الكمبيوتر، يرافقها إيقاع القصف والانفجارات،
وأظن أنني بذلك أستطيع تصنيف نفسي على أنني موسيقار، أو على أقل تقدير DJ يهتم بالانصهارات الموسيقية لعدة أصناف مختلفة... موسيقا كلاسيكية
+ إيقاع حربي... مثلاً...
الموسيقا الكلاسيكية الآن لأن الوقت متأخرٌ جداً
على ميتاليكا بصراحة (والتي ستكون أكثر ملائمةً!)، ولأنني لا أرتدي سماعات، فلا أريد إيقاظ أحد! ولو أن الجميع
مستيقظون أصلاً!!!
ثلاث ساعات يا سيدي الفاضل والقصف متواصل...
بالطبع، أنت وغيرك ممن لديهم مسؤوليات وعمل وفائدة حقيقية في العالم الواقعي، بلا
شك كان سيكون من بين همومك هو حاجتك الماسة للنوم قبل أن تضطر للاستيقاظ في الصباح
لكي تخوض أنتَ أيضاً معركة كرامة، ولكن في جبهةٍ مختلفة.. وربما أيضاً ستُفكر في
الطريق للعمل غداً، هل هنالك عمل أصلاً؟ إلى متى سيستمر القتال؟ (أعلم أنك لستَ في
بنغازي، لكن تخيل مثلاً أنك موجود في بنغازي... يعني نفس مسرحية الحياة البائسة،
لكن في مسرحٍ مختلف، فيه مؤثرات بصرية وموسيقا تصويرية أكثر حماسة!)... ولكن،
بالنسبة لمن هو مثلي، لا خدمة لا قدمة، ولا حتى مرارة! فإن همومي هي أشياءٌ مثل: هل
يوجد خبز أستطيع أن أتعشى به؟ أرجو أن يكون هنالك فيلم جيد بعد المبارة... ومع أن
كلا المثالين مصابين كما هو واضح (على الأقل لخبيرٍ مثلي) بمرض اللامبالاة، إلا أن
الحالة الثانية الأعراض فيها أكثر وضوحاً...
مقياس دقيق جداً لمدى لامبالاة المرء:
تجلسُ على الكنبة... تشاهد مبارة البوسنة ونيجيريا...
تُشجِّعُ البوسنة... لا أشجعهم لأنهم مسلمون، ولكن لأني أُحب البوسنة (لله في لله)، وأحب علي عزت
بيجوفيتش كثيراً، وحارس البوسنة اسمه إزمير بيجوفيتش، لا أظن أن هنالك قرابة، ابن عمه
وحسب! (مع أن الحارس رزيل بكل طلع! دار حركة حقيرة وكر لاعب نيجيري مصاب عشان
يطلعه من الملعب، لعند قعد واحد من الحكام يدف فيه يحول فيه!!! بس بصراحة تألق
الحارس يعني!) تفسيري الشخصي لتشجيع كثيرين للبوسنة تحت دعوى أنهم مسلمين (بينما
يتجاهلون أن نيجيريا دولة مسلمة، أو نصف مسلمة، ويتجاهلون الجزائر بدعوى أنهم
قالوا عنا جرذان! ويتجاهلون إيران بدعوى أنهم كلاب رافضيين! ويتجاهلون واقع أن
أغلب المنتخبات فيها مسلمين...) تفسيري لهذه الانتقائية في الانتماء الإسلامي
الفياض والحمية الدينية الأخوية هو أن البوسنة مسلمين (حلوين)! ناس شعل وعيونهم
زرق، يا فرحتنا بيهم وخلاص! أخي في الإسلام! أختي في الإسلام!
في آخر رحلة لي لمطار الأبرق حدث لي شيء شبيه بما
يحدث الآن: أخطأتُ الطريق عند المرور على جسر البيضاء وسلكتُ طريقاً متجهاً نحو
الشمال (باتجاه البحر)، وانتبهتُ لخطأي، واضطررتُ للعودة من حيث جئت... ضاعت
تقريباً نصف ساعة في هذا الأمر... والآن أعود إلى المفترق الذي ضعتُ منه هنا...
مقياس دقيق جداً لمدى لامبالاة المرء:
تجلسُ على الكنبة... تشاهد مبارة البوسنة
ونيجيريا... تُشجِّعُ البوسنة... حماسة المُعلِّق في هذه المبارة القوية تكتمها
بين الحين والآخر أصوات الانفجارات... أصواتٌ أحياناً تكون قريبةً جداً وقويةً لدرجة أن
البيت يهتز...
لاحظ معي دقة مقياس اللامبالاة...
هجمة لمنتخب البوسنة: أتحمس! أعتدل في جلستي! أقفز!
أقف وأُشجِّع!
انفجارات قوية تهز البيت: أُفكِّرُ لوهلة في فتح النوافذ
لئلا تنكسر من الارتدادات، ثم أتساءل عن لاعب بوسني لديه أوشام!
اللامبالاة كارثة كبيرة، لأنها تعني أننا رضينا
بمتابعة كأس العالم، وسنرضى بمتابعة مسلسلات رمضان، وكل ذلك لأننا رضينا (ضمنياً)
بالوضع القائم... تأقلمنا مع الحياة بلا حياة، كما نعيشها (أو نموتها) الآن. الغنى
غنى النفس حين تكون مليارديراً وترضى ببيتٍ عاديٍّ وسيارةٍ متواضعةٍ وحياةٍ
طبيعية.. ولكن حين تكون (ليبي متبهدل) فغنى النفس هنا يعني أن تلف على نفسك الكفن
جيداً قبل أن تنام في انتعاش المكيف... هذا إن لم تكن الكهرباء قُطعت، وأنت راضٍ،
والمياه قُطعت، وأنت راضٍ، وشحن هاتفك فرِغ، وأنت راضٍ، ووقود سيارتك نفد، وأنت
راضٍ، والمخابز أُغلقت، وأنت راضٍ... وهكذا سوف ترضى بكل شيء، حتى تلك الفجيعة
التي ستصيب أهلك، وتلك الحفرة الضيقة التي سيرمونك فيها ويُغلقون عليك بالإسمنت
لكي لا تهرب، ثم يحشون الفراغات بأكياس الإسمنت المرمية هنا وهناك لكي لا تتنفس،
كل هذا سترضى به، وسترضى حتى بمن سيدوسون على فراشك الجديد غداً لكي يضعوا زميلك
في الفراش الترابي المجاور... سوف ترضى بالموت دون أن تكون قد اختبرت الحياة...
وما خلاصة هذه الهلوسة (عقاب الليل) يا صديقي؟
خلاصتها هي أنني أخشى أن لامبالاتنا هذه ستجعلنا
نرضى بالجحيم بعد موتنا... ولعلنا نجد بعض العزاء في وجود بعض أبطال كرة القدم
الكفار معنا في الجحيم، وربما سوف نستطيع إقامة دوري كرة قدم من نوعٍ ما... كأس أبطال
جهنم (للأسف لا أظن بأن البوسنة سيتأهلون! أو ربما للفرحة! وليس للأسف!)... وحينها
يا صديقي لن نهتم بشيء، ومرةً أخرى، سنجلس ونشاهد ونتغافل ونتهرب، وسوف نرضى...
ولكن.. هل تعلم أين الكارثة الحقيقية في كل هذا الكلام
الغبي؟
الكارثة الحقيقية هي أننا لا نتهرب من واقع أننا في
الجحيم، كلا، بل الكارثة هي أننا نتهرب من واقع أننا نستحق الجحيم...
ملاحظة أخيرة: أنا مقتنع قناعة تامة بأن البوسنة
كان يجب أن تفوز في المبارة. نيجيريا لعبت بشكل مُبهر بصراحة، لكن نتيجة المبارة
لم يكن سببها مهارات اللاعبين بل سببها الأخطاء التحكيمية! هدف (سليم) للبوسنة لا
يُحتسب! وهدف (غير سليم) لنيجيريا يُحتسب! هؤلاء الحكام لا أظن بأن الفرصة سوف
تتوفر لهم للمشاركة في كأس أبطال جهنم، سيكونون منشغلين بعذابات أكبر!!! اتفو
عليهم وخلاص...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق