خطبة الجمعة وكأس العالم ورمضان (والتسويق أيضاً!).

لقد أصبحتُ مقتنعاً بأن خطباء مساجدنا يحتاجون لدراسة التسويق!

أنا على يقين بأن خطباء مساجدنا متفوقون في علوم الخطابة والبلاغة والفصاحة والعنتريات، وأشك أن بعضهم يدرسون علوم الصوتيات ويعرفون أسرار تضخيم الصوت داخلياً، وهم بلا شك خبراءٌ في الاعتناء بحناجرهم وفي إطالة أنفاسهم... ولكن كل هذا ينفع في المسرح فقط، حين تُمثِّل دور طارق بن زياد وتنادي في رجالك (العدو من أمامكم والبحر من ورائكم)! وبالرغم من أنني لا أشك في نية الخطباء، إلا أنني لا أظن بأن هذا الأسلوب ينجح في إقناع أحد بأي شيء...

لقد أصبحت الخطب تشبه التعليق على مباريات كرة القدم! كلما تحدث الشيخ عن شهر رمضان مثلاً أحسست بأن مهاجماً يكاد يسجل هدفاً! وبأن المُعلِّق متحمسٌ جداً:

"عباد الله! رمضان! شهرُ رمضاااان! رمضااااااان! رمضااااااااااااااان!" 

ولكن تضيع الفرصة! ويهدأ المُعلِّق: 

"رمضااااااااااااااااااااااااااااااااان! رمضاااان شهر الرحمة والغفران..."!

أصبحت الخطب تشبه التعليق على المباريات، لا تُقدِّم ولا تؤخِّر: تعليقٌ تستمع إليه، لا يؤثر على مجرى المبارة، ولا يؤثر على حياتك بعد المبارة. تستمع دون أن تشارك، أعني أنك لا تجد حوافزاً حقيقية في الخطبة تدفعك لفعل شيء، ولا تجد حتى توضيحاً عملياً أو تفسيراً واقعياً لكل تلك الآيات العظيمة والأحاديث الجليلة والأجر الكبير! وإن كنتَ مؤمناً صالحاً تقياً، حياتك أصلاً مليئةٌ بهذه الأمور، فوضعك حينها – في خطبة الجمعة – شبيهٌ بوضع كاكا وهو يُشاهد مبارة البرازيل من المدرجات!

هذه الظاهرة العنترية يجب أن تنتهي، وإلا لن تكون للخطب أيُّ فائدة سوى ضمان عدم نوم الحاضرين!

اليوم كانت الخطبة، كما هو مُتوقع، عن رمضان... عن الصيام، عن القرآن، عن صلاة التراويح وقيام الليل... العبادة مهمة جداً، سواء من حيث الجانب الروحاني، وأيضاً من حيث جانب تربية النفس وتدريب الرجال والنساء على أمور عملية مثل النظافة والاحترام والالتزام وتنظيم الأولويات... ولكن، في مثل هذا العصر، كيف تستطيع الترويج للعبادة بالصراخ وحده؟! فلنأخذ مثال الدعوة لقراءة القرآن...

الشيخ لم يُبح صوته (ماشاء الله!) وهو يصرخ بعظمة معجزة القرآن... المعجزة المعجزة المعجزة، والأجر الأجر الأجر! ما المشكلة لو استغل الشيخ واقع رمضان وواقع ليبيا وقال أشياءً مثل: أبقِ معك مصحفاً صغيراً على الدوام، إذا وجدت نفسك في طابورٍ طويل في إحدى المصالح العامة أو انتظارٍ مُمل في العمل، أخرج المصحف واقرأ قليلاً... إذا انقطعت عليك الكهرباء، صبِّر نفسك بقراءة القرآن، لن تحتاج للكهرباء أثناء النهار للقراءة وكسب الأجر... النهار في رمضان طويل، ومليء بالأعصاب! فجرب مثلاً أن تُمضي منه ساعةً أو ساعتين في قراءة القرآن، هكذا يمر الوقت، وفي نفس الوقت تُهدئ نفسك بهذه العبادة... أَبقي معك مصحفاً في السيارة، أنظر إليه إذا تعصبت أثناء القيادة، ذكر نفسك بالهدوء، أو حتى تَدخَّل في المشاكل، وأخرج القرآن وأقسم للناس عليه بأن يهدؤوا مثلاً أو يسامحوا بعضهم...

لا كلام واقعي ولا شيء...

ولا أريد أن أتحدث هنا مثلاً عن أنني لم أسمع خطبةً واحدة يتحدث فيها الشيخ عن قراءة القرآن بإدراك روحاني لأن هذا كلام الله! أو خطبةً يُنصح فيها بالإطلاع على التفاسير لفهم القرآن الذي نتعبد الله بتلاوته ونردده في كل صلاة... هذه أمور لا أظنها تدخل في أولويات شيوخنا على الإطلاق! فقط: القرآن العظيم! المعجزة العظيمة! الأجر العظيم! ورمضان شهرٌ أنزل فيه القرآن!

شيوخنا عليهم دراسة علم النفس، وعليهم دراسة علم الاجتماع، وربما حتى عليهم دراسة فنون أدبية مثل فن المقالة، قرأتُ عنه قديماً وكان مُعقَّداً بصراحة! ولكن من الواضح أن وراءه هدف: هنالك مقدمة واضحة، هنالك جمل افتتاحية، هنالك متن مُختصر، هنالك أفكار رئيسة، هنالك خاتمة تختزل الفكرة... وأهم شيء عليهم دراسة علم أو فن التسويق!

مثال بسيط على فكرة فن التسويق...

حين تكون في سوق الخضار، أو سوق السمك... سوف تسمع الجميع يصرخون! أحلى طماطم! أحسن دلاع حمر! أنظف تريليا! أحسن بوري! كلهم يصرخون... ونعم، سوف يشدك صراخهم، ولكن أنت أصلاً جئت للسوق، صراخهم لا فائدة حقيقية منه سوى إثارة ضجيج يقودك إلى هذه الطاولة أو تلك. فماذا ستفعل بعد أن يُلح عليك صراخ أحد الباعة؟ سوف تذهب إليه، سوف تسأله عن السعر، سوف تسأله عن المصدر، سوف تسأله هذي خضرة اليوم ولا لا؟ طبيعي ولا صوبات؟ الحوت هذا جولاطينا؟! باهي كنه معوج هكي؟!!! سوف تتناقش معه مطولاً، وحينها سيبدأ التسويق الحقيقي!!! الصراخ ليس تسويقاً، الصراخ هو فقط صوتٌ عالٍ يقول لك: توجد هنا بضاعة...

فأين خطب الجمعة اليوم من التسويق؟! أين خطب الجمعة اليوم من الدعوة؟ من النصيحة؟ من الإقناع؟! هل أصبحت خطب الجمعة فقط كدخولك إلى محلٍّ ما، تبحث فيه عن شيء مُحدد، تلف وتلف، ولا تجده، فتخرج فارغ اليدين؟ الدكان مفتوح، البائع موجود، والإعلانات موجودة، ولكن البضاعة...؟! فهل نستطيع أن نقول لله يوم القيامة مثلما نقول لأهلنا اليوم: والله مشيت لعند المسجد (الدكان) لكن ما لقيتش عندهم...؟!

هنالك مسؤولية تقع على خطباء المساجد... وللأسف، أظنهم لا يُدركون بأنها مسؤولية نصح وتطوير مجتمع، وليست مسؤولية تمثيل مسرحي درامي...

وخلاصة الكلام: أهم شيء خرجتُ به من خطبة اليوم هو أنني تذكرتُ مسلسلات الفارس الملثم وتحت ظلال السيوف!!!

* هذه الخاطرة لم أكتبها أنا بقدر ما كتبها صديق عزيز (الذي أرسلتُ له الرسائل المنشورة سابقاً). هو يحفزني، وينتقدني، ويُعدِّل لي، وينشر لي أيضاً! ويزرع في رأسي بذور أفكار، ويشجعني... إنه يفعل كل شيء! وليس من الغريب أن أقول بأن خلاصة كل ذلك هو أن أجلس أنا على لوحة المفاتيح، لكي يكتب هو... وفي هذه الحالة بالتحديد، العنوان هو الذي كتبه، وأضفتُ له (والتسويق أيضاً!)...