في الأيام الماضية مررتُ على مقطع من كتاب ينتقد
فيه المؤلف رواية (الجريمة والعقاب) لفيدودور دوستويفسكي، ويصف الرواية بأنها
متناقضة، بل يقول بأن بنيتها قد انهارت بعدما تحول بطل القصة راسكولنيكوف من شخص
يُخطط ويُنفذ جريمة قتل في بداية الرواية إلى شخص يُعذِّبه ضميره ويتقبل عقابه في
نهايتها. وقد أشار المؤلف أيضاً إلى رواية (الغريب) لألبير كامو، ووضعها مع
(الجريمة والعقاب) في مرمى نيرانه.
ربما تكون هذه النظرة سليمة من ناحية نقدية محضة
تهتم بمكونات الرواية وتسلسل أحداثها وتطور شخصياتها وترابط كل هذه الأمور بشكل
منطقي. ولكن ميزان المنطق ليس ميزاناً عالمياً، أعني أن لكل شيء ميزاناً خاصاً به،
والنظر في أعمال دوستويفسكي وكامو بأعين النقد الأدبي وحدها وقياسها على ميزان
منطق أدبي محض أمرٌ غير سليم؛ ربما هذا المنهج يُفيد من يريد نقد روايات مبتدئين،
أو روايات أسلوبها الأدبي جديد، أي أن هذه النظرة الأدبية المحضة لا يمكن تطبيقها
إلا عندما تسعى لتحليل شكلي/أدبي وحسب، ولكن تحليل أعمال دوستويفسكي وكامو يحتاج
لنظرة فلسفية أيضاً... ولإيضاح وجهة النظر هذه، يكفينا أن نقول بأن أعمال دوستويفسكي لها أهمية كبيرة من ناحية فلسفية، من ناحية تُعتبر بعض من أهم الأعمال الأدبية الممثلة لفلسفة الوجودية، ومن ناحية أخرى فبعض أعماله تعتبر هجوماً على فلسفة (العدمية)، وكامو يُعتبر من رواد فلسفة (العبثية) ومجدديها،
حتى أن كثيرون يظنونه مبتكرها. فهل يمكن لنا أن نطلع على أعمال هذين الرجلين دون
اعتبار لعقلياتهم الفلسفية؟!
الأمر هنا يبدأ وينتهي عند فلسفة الوجودية، والتي
تقول بكل بساطة أن أهم شيء في مسألة الوجود هو الإنسان، هو محور الوجود. بالطبع
الفلسفة الوجودية تتفرع كثيراً، وأحياناً تنفصل فروعها عنها، ومن أمثلة ذلك فلسفتي
العدمية والعبثية، فهما فلسفتان وجوديتان في الأساس، وقريبتان جداً من بعضهما
البعض، فكلاهما ينكران وجود معنى في الحياة، ولكن بينما تُنكر العدمية ذلك تماماً
ولا تمنح أهميةً لأي شيء (باستثناء الفلسفة نفسها، وهذا تناقض لم يستطع أصحاب هذه
الفلسفة النجاة منه!) فإن العبثية تُنكر فكرة البحث عن معنى شامل مبدئياً وتعدها
(عبثاً)، ولكنها لا تُنكر وجود معانٍ فرعية (إن جاز لنا التعبير) هنا وهناك.
رواية ألبير كامو (الغريب) هي بمثابة كتيب إرشادات
حول فلسفة العبثية. فبطلها ميرسول يعيش وجوداً لا معنى شامل فيه، ولكن فيه معانٍ
متفرقة هنا وهناك. كامو يُوضِّح لنا هذا منذ بداية الرواية: ميرسول رجل مهتم
باستغلال وجوده، نعم سيحب أمه، وسيدرس، وسينجح، وسيساعدها، ويعتني بها في كبرها،
سيستغل وجوده أثناء حياتها للتعبير عن حبه لها، ولكنه لن يُضيع وجوده بعد وفاتها
في الحزن والرثاء، وسيُتابع استغلاله. ومنذ البداية يُوضِّح كامو بأن المجتمع لا
يقبل هذا الانفصال عن المظاهر الاجتماعية المتعارف عليها. ولكن ميرسول لا يهمه
المجتمع، فهو يعلم أنه لا يوجد (معنى شامل أعلى) على الإطلاق، ولو كان على مستوى
اجتماعي، وكل ما هنالك معانٍ متجزئة (وربما لحظية) مرتبطة فقط بالوجود... هنالك
معنى في حب الابن لأمه، لكن ليس هنالك معنى في الاستغراق في الحزن بعد موت الأم،
وهنالك معنى في الاستمتاع بالحياة، بالحب، بالمتع المتفرقة، ولكن ليس هنالك معنى
في قتل رجلٍ ما، هنالك معنى (ولو كان حسابياً، 1+1=2) في تلقي العقاب على جريمتك،
ولكن ليس هناك معنى في الفجيعة والكآبة، هنالك معنى في الوجود في هذا العالم
والارتباط به والاستمتاع بهذا الوجود، ولكن ليس هنالك معنى في الحزن على مفارقة
هذا العالم الحتمية... الفكرة كلها في الوجود، ومحاولة إلصاق معنى بالحياة كلها،
بكل تفاصيلها، عبثٌ لا طائل تحته، المعنى موجودٌ في الوجود نفسه!
هذه الرواية يمكننا أن نُضيف إليها فلسفة كامو عن
التمرد، وهي فلسفة أخرى ارتبطت بكامو كثيراً، مثل العبثية. فكامو، الإنساني
المسالم، كان يرى أن التمرد هو التعبير النقي الأمثل عن واقع الإنسان، سواءً كان
بالرفض أو بالقبول، فقط التعبير عن الذات يُعتبر تمرداً في عالمٍ يريد الحفاظ على
الأمور كما هي، يريد الاستنساخ ولا يريد الابتكار. التمرد بالنسبة لكامو ممارسة
رائعة للعبثية، خاصةً وأن التمرد يكون سلمياً، أو على الأقل هو المرحلة الأولى
التي إن تطورت فهي تصبح ثورة. بعيداً عن المعاني العسكرية والمسلحة للكلمة. كامو
يستشهد بتلك العبارة الشهيرة التي قالها أحد مستشاري الملك لويس السادس عشر له إبان
الثورة الفرنسية، حين سأل الملك: (هل هذا تمرد؟) فرد عليه مستشاره: (كلا، سيدي،
إنها ثورة)، الأمر تجاوز التمرد السلمي والرفض، وأصبح ثورةً عنيفة وتدميراً، ولذلك
وصف كامو الثورة بأنها (الفعل) الناتج عن (فكرة) التمرد: حقن الأفعال بالأفكار. ولكن
معيار التمرد النبيل، عند كامو، هو الابتعاد عن العنف، فإذا وصل الأمر إلى الثورة
الحمراء، فإن كامو احتفظ بنُبل وإنسانية التمرد (حصراً) للشهداء، أي لمن يدركون
بأن ثورتهم الدموية جريمة فيُضحون بأنفسهم قابلين العقوبة على جريمتهم، سواءً كان
الأمر بالعمليات الفدائية، أو باستسلام المسؤولين للسلطات ولأحكام الإعدام. فكامو
هنا لا يُبريء الثورة من الجرائم، ولكنه لا يُنكر عنها شرعية التمرد، طالما كان
هنالك اعترافٌ بالجريمة وقبولٌ لعواقبها.
كل هذا الكلام عن كامو، وفكرته عن العبثية وفلسفة
التمرد بالنسبة له، يضعنا أمام ثلاثة قواعد أساسية تحكم هذه الفلسفات:
القاعدة الأولى أنه لا يوجد معنى شامل في الحياة
يفرض علينا التصرف حسب توقعات الآخرين، والأمر هنا شبيهٌ بأفكار ديردا عن التفكيك
أو التجزئة وعدم وجود حقيقة مطلقة وإنما فقط حقائق نسبية. (مثلاً القتل خطأ، حقيقة
مطلقة. ولكن تفكيك هذه الحقيقة يضعنا أمام حالات أخرى: القتل قد تختلف دوافعه، قد
يكون قتلاً غير مقصود، قد يكون عاطفياً، قد يكون دفاعاً عن النفس، قد يكون لغايات
كُبرى، فبعد هذا التفكيك هل تبقى الحقيقة مطلقة؟ وهل يبقى القتل دائماً خطأ؟).
القاعدة الثانية أن هنالك قوانيناً طبيعية يجب
علينا الالتزام بها، أو على الأقل قبولها دون اعتراض. قوانين مثل: جريمة = عقوبة.
قبول هذه القوانين لا يعدو كونه أمراً حسابياً، ولا يجب أن ينتج بالضرورة من قبول
لمفاهيم اجتماعية حول المشاعر والأفكار التي يجب أن يلتزم بها المرء، ولكنه فقط
يمكن أن يكون قبولاً للقانون الطبيعي.
القاعدة الثالثة هي أن الإنسان يتحكم بعواطفه، أو
على الأقل يجب عليه ذلك وفق الفلسفة التي يتبعها. ميرسول (بطل رواية الغريب لكامو)
يستمتع بالصداقة وبالطعام ويستمتع بالطبيعة وبالحياة ويعيش نعيماً خيالياً مع
حبيبته، ولكن مشاعره هذه لا تفرض عليه أن يستغرق في الحزن على أمه، أو أن يشعر
بالصدمة والمعاناة بعد قتله لرجلٍ ما. انعدام حزنه على أمه، وانعدام تأنيب الضمير
فيما يخص جريمة القتل لا يعني بالضرورة انعدام المشاعر، ولكن فقط (توجيهها).
ألبير كامو كان متأثراً جداً بفيودور دوستويفسكي.
أنا لم أقرأ كتاب (المتمرد) كله، ولكني قرأتُ جزءاً منه منشورٌ في كتابٍ صغيرٍ
منفصل، وكامو لم يتوقف عن الحديث عن دوستويسفكي، كان يُركِّز على رواية (الشياطين)
لما لها من ارتباط بالثورة والتمرد والفلسفة العدمية. كما أن كامو قام بإنتاج
رواية الشياطين في المسرح، وأظنه أنتج أكثر من عمل لدوستويفسكي (هنالك جوجل
للتأكيد والبحث، ولكن هنالك أيضاً كسل يكتفي بكلمة أظن!) وبصفة عامة لا أعتقد أن
تأثر كامو بدوستويفسكي كان أدبياً، أعني أسلوبياً مثلاً، ولكنني أُحس بأنه كان
فلسفياً بالدرجة الأولى.
وبعد كل هذا الكلام... نقف مع راسكولنيكوف... أحد
أشهر الشخصيات الخيالية في تاريخ الأدب – بطل رواية الجريمة والعقاب.
بدايةً من عنوان الرواية نفسها، يكاد يكون في الأمر
إشارة إلى فكرة القانون الطبيعي وأن الجريمة يجب أن يكون لها عقاب. ثم نرى تصرفات
راسكولنيكوف نفسه. مضى زمنٌ طويل على قراءتي للرواية، ولكن أظن بأنني أتذكرها بما
يكفي. راسكولنيكوف خطط للجريمة بشكل هادئ ودقيق. قانونياً هي جريمة مُشددة بظرف
سبق الإصرار! أذكر فكرة الصندوق الصغير الذي أراد التظاهر برهنه، وكيف أنه غلفه
وربطه بخيط ربطةً متينة لإلهاء المرابية اليهودية وهي تفكه. وأذكر أيضاً حين لم
يجد سلاحاً، فشاء القدر أن يجد فأس حارس البناية! فذكر عبارة: "إذا أخفقت
الحكمة، ساعدك الشيطان!" راسكولنيكوف كان قد درس كل أبعاد جريمته، وكان
ينفذها بهدوء وثقة، وربما أثناء الجريمة انفلت أو انحرف قليلاً عن هدوءه، ولكنه
أمرٌ طبيعي. أما بعد الجريمة، فأنا لا أذكر، ولا أحس، بأن راسكولنيكوف كان يؤنبه
ضميره على خطف حياة إنسان (أو اثنين)، ولكن كان يؤرقه ويعذبه وضع (عدم الاستقرار)
الذي كان يعيشه وسط مجتمع يبحث عنه. لقد كان يحتك بالمحققين، ويتعامل مع الناس،
ويحاول أن يعيش حياته وهو طريدة، وكل هذا كان يعذبه. وهذا كان سبب ارتياحه وقبوله
للعقوبة في النهاية برحابة صدر كبيرة وكأنه يبدأ حياةً جديدة! وهي نهاية شبيهة
جداً بنهاية ميرسول في رواية الغريب، حين تقبل موته بشكل جميل جداً، وفتح صدره
لللامبالاة العالم الحنونة. راسكولينكوف منذ بداية الرواية – تماماً مثل ميرسول –
كانت كل تصرفاته تُوضِّح بأنه منفصلٌ عن النمط الاجتماعي العام، وأن أولوياته
مختلفة في الحياة، بالأخص الأولويات الشعورية.
بعيداً عن الرسائل الاجتماعية التي تمتليء بها
روايات دوستويفسكي، وبعيداً عن مشاكله الشخصية مع المرابين والدائنين! فإن الرواية
تبدو لي وكأنها سابقة رواية الغريب في إثبات مبادئ فلسفية وجودية في مجتمع يرفضها.
ميرسول ارتكب جريمة اقتصادية كان سببها الفقر، ولم يؤنبه ضميره حول قتل المرابية،
ربما وخزه قليلاً حول قتل الفتاة التي كانت عندها، ولكنه في النهاية لم يكترث على
الإطلاق لجريمة القتل، بل كان متفاجئاً بأن ضميره لا يؤنبه (وربما هذه المراجعة
الذاتية النفسية لراسكولنيكوف فيها إشارة لفكرة الانفصال عن واقع المجتمع، أمرٌ
ليس سهلاً لدرجة أنك سوف تشكك في نفسك)، فالحقيقة هنا ليست حقيقةً مطلقة حول جريمة
قتل وحشية وحسب، ولكنها مجموعة حقائق اجتماعية، وهذا كان الصراع الوحيد داخل
راسكولنيكوف: هل تقبل حقيقةً مطلقةً جاهزة قدمها لك المجتمع؟ أم تُفكِّك الحقيقة
وتدرس الحقائق منفصلة؟ راسكولنيكوف كان يشعر بالقلق من مطاردته، والخوف من
المجهول، وكان يحب خطيبته، لم يكن وحشاً مُجرَّداً من المشاعر. وراسكولنيكوف في
نهاية الرواية قبل بالقانون الطبيعي الذي يقول بأن الجريمة يجب أن يقابلها عقاب.
من ناحية فلسفية محضة، فإنه لا يوجد أي تناقض في
شخصية راسكولنيكوف. التناقض الوحيد هو فيما يخص المفاهيم الاجتماعية: القتل جريمة
وحسب، ولكن أليس استغلال الفقر جريمة؟ القاتل وحش مجرد من المشاعر، ولكن ألا يشعر
هذا الرجل بأشياء كثيرة؟ القتل نهايته تعيسة وبائسة، ولكن ألم تكن نهاية
راسكولنيكوف سعيدة؟! ربما هذا كان اعتراض الكاتب الذي انتقد رواية الجريمة والعقاب
ورواية الغريب، كان اعتراضه من موقف محصور داخل نطاق المفاهيم الاجتماعية السائدة،
وربما – بدرجة أكبر – محصور داخل نطاق أدبي/نفسي مُحدد للروايات والقصص وتطور الأحداث
والشخصيات، فتجاهل الكثير حول تناسق تطور الشخصيات في هذه الروايات، وتجاهل أكثر
حول العمق الفلسفي لأعمال دوستويفسكي وكامو...
لا أعلم بالضبط هل تمكنتُ من إيصال الفكرة التي
راودتني، ولكنني فقط أريد أن أقول، من وجهة نظري الشخصية، بأن شخصيات راسكولنيكوف
في الجريمة والعقاب وميرسول في الغريب لا يوجد فيها أي تناقض، داخل نطاق الرواية
نفسها، ووفق العقليات الفلسفية لمؤلفي هاتين الروايتين. الأدب الخيالي الواقعي لا
يحتاج لأن يكون انعكاساً صافياً لكل جوانب الحياة، ولكنه فقط يحتاج لعكس حقيقة
واقعية واحدة، دوستويفسكي وكامو قاما بلفت الانتباه لحقيقة وجودية حول مواجهة
الفرد والمجتمع، وهي حقيقة تهاجم أول ما تهاجم المجتمع وحقائقه ومبادئه التي نتربى
عليها، وتقول لنا بهدوء ودون انفعال: وجودك هو وجودك أنت، ولا يحتاج لأن يكون
وجودك مرتبطاً بمجتمعك إلى حد الاختناق. وأحياناً، حين ننظر للصورة الشاملة، قد
تضيع علينا حقائقٌ دقيقة تستدعي أن يستوقفنا أحدٌ ما لننظر معه عبر مجهر الفلسفة
أو الدين أو علم الاجتماع أو علم النفس، لكي نرى حقائقاً لا تُرى بالعين المجردة.
وأخيراً وليس آخراً... صاحب المقطع الذي قرأته،
والذي للأسف لم أستطع إيجاده مرةً أخرى، صاحب هذا المقطع انتقد دوستويفسكي وكامو
على أساسٍ غير سليم. وجعل معياره الشخصي للتجربة الإنسانية معياراً عالمياً يجب أن
يلتزم به الجميع وينطبق على الجميع! ولكن واقع أن المصطلح هو (التجربة الإنسانية)
يؤكد بأن تجربة كل إنسان فريدة من نوعها ولا تقبل المقارنة بشكل شامل ومطلق بغيرها
من التجارب الإنسانية. والعجيب أن نفس المؤلف انتقد إرنست هيمنجواي على عدم وجود
تجربة إنسانية واضحة في كتاباته! وربما كان تعليقه هذا هو أكثر ما استفزني ودفعني
للتفكير في الأمر (ولكتابته)، فهيمنجواي تفيض كتاباته بالتجربة الإنسانية، ومن
الغريب أن يتم انتقاد حصوله على جائزة نوبل للأدب مع تجاهل أن إعلان فوزه تضمن
إشارةً إلى روايته الشيخ والبحر التي تعد من أبرز الأعمال الأدبية حول التجارب
الإنسانية (بالتحديد حول المواجهة بين الإنسان والطبيعة)!
على أي حال، وبكل صراحة، الكلام المتعالي لذلك
الرجل، ونقده الذي أحسستُ بأنه غير منطقي (أو على الأقل لا يعتمد على منطق سليم)،
استفزني كثيراً... والخلاصة: الكثير من التفكير، والكثير من الكتابة... وكل ذلك
بدون فائدة كما هو الحال في الأغلب!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق