واليوم، وبالرغم من ضجيج القصف والضرب العالي، إلا
أنني تمسكتُ بالوسادة وكأنها طوف نجاة في بحار النوم، بعيداً عن بر اليقظة! وأنا
الشخص الوحيد في العالم الذي ربما يُفضِّل الغرق براحة على النجاة بتعب... وبقيتُ
أحاول الابتعاد عن اليقظة بقدر الإمكان... وبعدما استيقظت، تمنيت لو أنني أستطيع
أن أبقى نائماً لسنتين أو ثلاث أو خمسٍ وعشرين... "صباح الخير..." كوب
القهوة في يدي "صباح الخير.. شنو مشاريعك اليوم؟" بدأ الهلع!
"عليش؟ شنو عندك؟" "نبيك توصلني..." "وين؟ أمتى؟"
يتدخل شخصٌ آخر ضاحكاً: "قريب هنا، لعند مطار لأبرق!" نظرت إليه، ولا بد
أن أعراض الجلطة قد بدت على وجهي! فقد أردف مُسرعاً: "لا، لا، رد بالك اطيح
بس... هههههههه... بس قريب من لأبرق!" عدتُ إلى السائل الأول قلقاً:
"وين؟!!!" "الأبيار... عندنا عزا، فلان عرفته؟ اللي كان... إلخ إلخ
إلخ" بدون عظم الله أجركم، وبدون إنا لله وإنا إليه راجعون، التفت وعدتُ إلى
غرفتي (منفظة سجائر كبيرة في وسطها فراش ومكتب!) بدأتُ بالاتصالات: "وين
الضرب بالضبط؟" "حفتر نازل من الرجمة؟" "الطريق مسكرة؟"
"دبابات؟" "سي فرج وبنينا؟" وخلاصة الاتصالات كانت:
"اليوم ما يسير شي... ضرب قوي، وقالوا حفتر نازل من الرجمة بقواته..."
حاول أحدهم أن يشرح لي بأن الطريق إلى الأبيار بعيدة عن المطار، أي أنك ستلتف إلى
اليمين قبل المطار... ولكن علم المنطق انتصر على علم الجغرافيا حين سألتهم ثلاث
أسئلة: "باهي، حفتر وين؟ تمام والرجمة وين؟ باهي والرجمة قبل ولا بعد
الأبيار؟" ولو كان انتصاراً مؤقتاً، أي أنه انتصار: "باهي، اليوم خلاص
الوقت تأخر أصلاً... نحاولوا بكرة نطلعوا بكري في الصبح..."
وهذه المقدمة هي بكل بساطة محاولة بسيطة لتفسير شيء
واحد بسيط: اليوم تحدثت في السياسة. والضرورات تبيح المحظورات... فلا مفر يا رجل
من شتم حفتر أو مدح عملية الكرامة أو سب الثوار أو الترحم على زياد بلعم (حرق روحه
يلعب بالنار! وأقصد بالنار نار انعدام العقلانية... وتقريباً هو جزء من معركة
اليوم، أو قواته، والعهدة على الراوي الذي أخبرته بكل صراحة: أنت رايح كيف الفيس،
أخبارك مش موثوقة!!!) لا مفر من مناقشة هذه المواضيع وأنت تسأل عن الطريق التي
تربط بين كل هذه المواضيع!!! بنينا، سي فرج، الرجمة، الأبيار... حاولت، والله
العظيم حاولت، أن أتحدث عن مبارة هولندا وإسبانيا، ومبارة إيطاليا وأنجلترا، ولكن
يحل عليك صمت مفاجئ، سواءً بسبب القصف أو المقاطعة العائلية أو سوء التغطية، فيعود
لك الطرف الآخر ليقول لك: "على العموم الطرفين يضربوا، اليوم باين عليها
مبارة النهائي!!!" حتى بعد أن تشتكي من وضع بنغازي، فأنت تخبر من تتحدث معه
بأنك في المساء قد تنشغل قليلاً بضرورة الذهاب إلى سهرية في طابالينو، فيقول لك
بأن المنطقة بلا شك فارغة اليوم، فتئن متألماً: "باهي شنو انديروا في بنغازي
الزح؟!!!" وأنت تتحسر على وضع المدينة الذي لم يعد يسمح لك بفعل أي شيء، فيرد
عليك محادثك: "ما عندك ما ادير، قعمز في حوشك وشجع وخلاص..." وأقسم لك،
بكل أمانة، بأنني سألته "أنت فمن تشجع؟" وأنا أقصد كأس العالم! ولكنه رد
علي: "نشجع في حفتر...".
يا رجل... لا مفر من السياسة هذه الأيام... لقد
أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة المواطن، حتى المناسبات الاجتماعية أصبحت مرتبطةً
بالسياسة! حتى كأس العالم أصبح خبراً ثانوياً في شريط الأخبار تحت حلقة تحليل
سياسي تعرض في نصف الشاشة أعمدة دخان متصاعدة من جراء القصف هنا أو هناك... شعب
المليون حافظ وشعب المليون محلل سياسي وشعب المليون خبير استراتيجي وشعب المليون
باحث في الجماعات الإسلامية وشعب المليون متخصص في الأزمات وشعب المليون مدرب
تنمية بشرية... كان يجب أن نختصر كل ذلك ونقول: شعب الستة ملايين فيلسوف، فميزة
الفلسفة أنها لا تعد بأي أفعال، فقط بالكلام... وهذا ما أصبحنا نفعله الآن، نتكلم
ونتكلم ونتكلم ونتكلم ونتكلم ونتكلم... ولو كان باستطاعتي كتابة هذه الكلمة ست
ملايين مرة لفعلت، ولكن تكفي الإشارة إلى أن ذلك سيستهلك وقتاً ومساحةً وكهرباءً
ولا يؤدي إلى شيء سوى التعطيل: تماماً كما نفعل جميعاً الآن... نخوض الحرب
بالبيانات تحت تغطية القصف الجوي والبري، فهل هنالك تقدم؟ على هنالك استيلاء على
مناطق؟ هل هنالك تأمين لمنافذ؟ هل هنالك اعتقال وحملات مداهمة؟ لا، هنالك قصف وحرب
استنزاف وحرب صبر، وباختصار: حرب كلام فارغ. والشعب يخوضون الحرب برفع الضغط وحرق
الأعصاب، ويتوهمون بأن المربوعة والمقهى وصفرة الطعام كلها جبهات، وبأن ألسنتنا
كلاشنكوفات وميم طا وهاوزر، وبأن من يختلف معك، أو من لا يوافقك وحسب، أو من لا
يتحدث معك، هو شخصٌ يُلقِّم بندقيته في الخندق المقابل لك، فتغدى به ثم تعشى بما
تبقى منه، ولا تنسى وضع بقية البقية في الثلاجة... نتحدث مع بعضنا البعض وكأننا
حفتر والزهاوي، وكأننا الثني وامعيتيق، وكأننا القاتل والمقتول... حسناً، لم أكن
أعرف بأننا شعبٌ يعشق التمثيل وتقمص الأدوار، شعب المليون ممثل درامي؟ أم شعب
المليون مجنون، لكن بدلاً من تقمص شخصية نابليون (موضة قديمة!) فنحن اليوم نتقمص
شخصيات حفتر والزهاوي وصقر الجروشي وزياد بلعم ومصطفى عبدالجليل وعلي زيدان
والصادق الغرياني والثني وامعيتيق وعز الدين العوامي ونوري بوسهمين...
وطالما ليست لديَّ جنسيةٌ أخرى – للأسف!!! – فأنا مرغمٌ
على الحديث عن السياسة... فالسياسة اليوم، بكل بساطة، أصبحت هي اللهجة الليبية!
فما أن تفتح فمك فأنت سوف تنطق بالسياسة، شئت أم أبيت... والشيء الوحيد الذي يبقى
لك، والذي سأحاول التمسك، به حتى بعد انتكاسة اليوم، هو الصمت... جنسيتي سياسية،
ولهجتي سياسية، وصمتي لن ينفي ذلك، ولكنه فقط.. لا أعلم ماذا سيفعل، ولكنه سيفعل
شيئاً ما... أو بالأحرى: لن يفعل شيئاً ما!
* رسالة أرسلتها لصديقٍ اليوم (الأحد 15 يونيو 2014)... أنشرها لأنها كانت أكثر
بقليل من رسالة، أو ربما أنشرها لأنها رسالة حقيقية، وبالتالي شيءٌ كانت لكتابته قيمةٌ
عابرة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق