الحقيقة الوحيدة في يومنا هذا هي أننا لا نريد
الحقيقة... كُلُّ واحدٍ منا يريد أن يفوز وأن يكون مُصِيباً على الدوام، وأعوذ
بالله أن يكتشف أحدنا أنه مُخطئٌ في أحد الأيام! ولو كان ذلك على حساب الحقيقة...
هذا هو واقعنا في هذه الأيام: لا نتناقش ونتحاور
لكي نصل إلى الحق، بل لا نتناقش ولا نتحاور أصلاً! فقط نسب ونشتم بعضنا البعض
وكأننا في معركة (شوارعية)! ألم تلاحظوا ذلك؟! كل القضايا التي يحتدم حولها النقاش
في هذه الأوقات، كلها لها طرفين فقط: طرفٌ مؤيدٌ ومُستعِدٌ أن يَفدي نفسه في سبيل
القضية، وطرفٌ معارضٌ ومُستعدٌ لتفجير نفسه في القضية! لا نجد طرفاً (وسطيِّاً)
يحاول الموازنة والمقاربة بين الآراء المختلفة، نجد فقط من يعارضها ومن يؤيدها...
فمثلاً، إذا رأينا شخصاً يمدح الحكومة ويسترجع بعض إنجازاتها فإننا نصفه فوراً
بأنه مُتسلِّقٌ ومُطبِّلٌ يريد إقامة ديكتاتورية جديدة، وإذا سمعنا شخصاً ينتقد
إخفاقات الحكومة فإننا نتهمه بسرعة بأنه طابور خامس وخائنٌ يريد زرع الفتنة في
وسطنا... لا يوجد حل وسط!
لم يعد بالإمكان وصف ما يجري بأنه حوارٌ أو نقاش،
بل لا يمكننا حتى وصف هذا التعامل العجيب بأنه (جدال)؛ فالمجادلة هي عملية يتم
فيها استخدام العقلانية من أجل الوصول إلى استنتاجات منطقية. فهل هنالك عقلانية في
سب وذم كل من له رأيٌ مخالف؟! هل تصل بنا كلمات مثل (طابور خامس) و(مُطبِّل ومُزمِّر)
إلى استنتاجات منطقية؟! هل هنالك منطق في الصراخ العبثي لإسكات الخصم؟!
فما الذي يحدث؟! لماذا لم يعد بإمكاننا الاستماع
لبعضنا البعض؟ هل أصبحنا نتكلم بلغاتٍ مختلفة؟! هل عدنا إلى عقلية القطيع التي نَتَّبِعُ
فيها سيداً واحداً ونَعضُّ كُلَّ مَن سواه؟! هل هي أعراض سموم الاستبداد التي
تعرضنا لها على مدى 42 سنة؟!
الأمر قد يكون أهون من الأسباب السابقة من حيث
المصدر، ولكنه يبقى بنفس السوء من حيث النتيجة...
فقد ظهرت مؤخراً نظرية اسمها (النظرية الجدالية
للعقلانية)، وهي نظرية تُطبَّق في دراسة الفلسفات والعلوم النفسية والاجتماعية
والسياسية. هذه النظرية مُثيرةٌ للاهتمام بشكلٍ كبير؛ فهي تقول بأن الإنسان لا
يُجادِل الآخرين ولا يَستخدِم قدراته العقلانية من أجل الوصول إلى الحقيقة، ولكن
فقط من أجل الفوز. هذا كل ما هنالك: الفوز. القدرات الجدالية والعقلانية للإنسان
تطورت كثيراً عبر العصور، فأصبح للجدال فنون وخدع، وأصبحت القدرات العقلانية
موضوعاً للكثير من العلوم والدراسات، ويمكن لأي شخص أن يتميز فيهن لدرجة يُظَنُّ
فيها بأنه يستخدم السحر! ولكن، وبالرغم مِن كل هذا التطور، إلا أن هذه النظرية
الحديثة تقول بأن الهدف لم يكن أبداً الحقيقة... فقد أظهرت الدراسات أن بعض
الجدالات قد تُهزم فيها الحقيقة لأسباب غير منطقية؛ فالتكرار الأحمق يتغلب على
المنطق! والجمال والمظاهر الخلابة تصرع المنطق بمفاتنها! بالإضافة إلى أن التفاؤل
والتشاؤم لهما تأثير ملحوظ على عقلانية الشخص يدفعه إلى قبول الحقيقة أو رفضها
بناءً على رغباته المُسبقة وليس بناءً على المنطق... كل الدراسات التي أُجريت في
هذا الصدد تميل إلى تأكيد أن الأشخاص لا يتعلمون فنون المجادلة ويُنمون قدراتهم
العقلانية لأجل معرفة الحقيقة، ولكن لكي يفرضوا سيطرتهم على الآخرين. أي أننا حين
نتجادل مع الآخرين لا نريد الاستماع إليهم ومعرفة وجهات نظرهم، ولكننا نريد فقط
التغلب عليهم بأي ثمن! وبعبارات أخرى: نحن لا نسأل الأسئلة ولا نعطي الأجوبة لكي
نصل إلى الحقيقة، ولكن لكي نتغلب على الآخرين ونفرض أفكارنا ومعلوماتنا عليهم. بل
إن هذه النظرية تقول أن انعدام الحيادية، وانعدام المنطق، والتكرار، وغيرها من
الأمور التي قد تُعتبر عيوباً في عقلانية المرء، هي من بين ملامح تطور قدراتنا
الجدالية بهدف الفوز وحسب! ولو كان الجدال عند البشر هدفه الحقيقة، لتطور بشكل
يتوافق مع ذلك، ولوجدنا أن التفاهم بالتي هي أحسن، والاحترام، وحسن الظن، وحسن
الاستماع كانت ستكون هي نتائج هذا التطور.
ولعل أفضل دليل على صحة هذه النظرية هو ما يجري
اليوم بيننا، فنحن نستطيع رؤية آثار هذه النظرية في كل مكان، بدايةً من المقابلات
والحوارات على محطات التلفاز والإذاعة، وانتقالاً إلى ما نطالعه من مناقشات على
صفحات الجرائد، ووصولاً إلى المقالات والتعليقات التي تنشر على الإنترنت... لم نعد
نتجادل من أجل أن نكتشف الحقيقة، ولكننا أصبحنا نتجادل لكي نفوز ونفرض سيطرتنا
الفكرية على الآخرين، بغض النظر عن الحقيقة والمنطق! فكل ما نفعله هو تأييد أو
معارضة ما نظن أنه الحقيقة بدون دراسة أو تأمل. وكل شخص فينا، إذا فَكَّر بصراحة،
سيجد أنه بالفعل يُجادِل فقط لكي يفوز؛ فلا يوجد أحد منا يُجادل لكي يكتشف الحقيقة،
ولكننا نُجادل الآخرين من منطلق أننا نعرف الحقيقة أصلاً! إلا في حالاتٍ قليلةٍ
جداً حين يعترف الواحد منا بأنه لا يعلم كل تفاصيل الأمر، في هذه الحالات النادرة
قد نكون على استعداد للاستماع لوجهة نظر الآخر. أما فيما عدا ذلك، فالغالب هو أننا
جميعاً (نؤمن) بأننا على صواب، وبأننا نعلم الحقيقة، وبأن الجميع هم مجرد جهلة
مساكين، ويجب علينا أن نتفضل عليهم بكشف الحقيقة لهم!!! وبالتالي تفقد العقلانية
كل معانيها، وتصبح المجادلة مجرد أداة استبدادية نطغى بها على الآخرين بدلاً من أن
نتفاهم ونتعاون معهم.
ولعل من نتائج هذه العقلية الأنانية والرغبة
الحارقة في الفوز ولو على جثة الحقيقة، هو أنه لم يعد لدينا نقد... حيث أن النقد
لم يعد مسألة دراسة وموازنة وقياس، وإنما أصبح – بالنسبة لنا – سباً وشتماً! وهذا
لا يتوافق مع مبدأ النقد العقلاني الذي نقيس به أفكار الآخرين؛ فحين نرد على
الآخرين فوراً بالاتهام والهجاء فهذا يؤكد أننا لا نريد حتى السماح لهم بعرض
أفكارهم! نريد فقط أن نقضي عليهم، ونمسح بهم الأرض، ولتذهب الحقيقة التي قد تكون
لديهم إلى الجحيم! والمشلكة أن السب والشتم لا يساعداننا لا في دحض فكرة الآخر ولا
في دعم فكرتنا نحن، فحين نُفزع كل من يخالفنا بفظاظة ألسنتنا قبل أن نبهرهم برجاحة
عقولنا، فإن الحقيقة – لو كانت موجودة – سوف تكون أول من يهرب! عدا عن انهيار هيكل
المناقشة والحوار، الذي يصبح مجرد ركام لا نتحصل منه إلا على سواد الوجوه بسخام
الحياء... واسمحوا لي هنا بأن أقول أن ما نراه اليوم من نقد، يتمثل في السب والشتم
بدون قياس ونقد للأفكار والآراء، هذا ليس حرية تعبير، إنما هو حرية قلة أدب!
ثورتنا منحتنا حرية التعبير في نطاق الحقيقة والأخلاق، وإذا استغللنا حرية التعبير
خارج ذلك النطاق فحينها لا يمكن وصف هذا (السب والشتم) بأنه حرية، بل إنه يكتسب
صفة (الاعتداء) وتجب معاقبته لا مباركته...
ثورتنا قامت باسم الحقيقة ولأجلها... والآن وبعد
انتصارنا لم يعد لدينا إلا طرف واحد: نحن. وجميعنا نؤمن بأن الحقيقة معنا، ولعل
هذا هو ما يجعلنا لا نستطيع التفاهم مع بعضنا البعض حين نختلف، بسبب إيمان كل واحد
منا بأن الحقيقة معه. وواقع أننا جميعاً نمتلك الحقيقة لا يعني أن نرى الآخرين على
أنهم منفصلين عنا، بل يعني إن الجدال والحوار مع الآخرين يكون بمثابة النظر في
المرآة، ننظر إلى انعكاس أنفسنا في الآخرين، ونحاول تحسين وتنسيق ما لا يعجبنا مما
نراه في المرآة بالتوافق والتفاهم، ولكن حين ننظر للآخرين لا على أنهم انعكاسٌ لنا
في مرآة، ولكن على أنهم هدف للرماية، فحينها سوف نطلق عليهم كل القذائف التي
نستطيع النطق بها وسنُهشِّم الحقيقة إلى شظايا صغيرة مُدبَّبَة تجرحنا وتضيع منا...
علينا أن نُدرك بأننا جميعاً نسعى لتحقيق نفس
الهدف، ولذلك يجب علينا التعاون على دراسة وموازنة كل الآراء، بأن نستمع لأصحابها
ونتفاهم معهم ونطالبهم بالأدلة والحقائق ونجادلهم بالتي هي أحسن لكي نتوصل معاً
إلى الاتفاق إما على إقرار ذلك الرأي أو إبطاله، بدلاً من أن نحكم على الرأي
وصاحبه بالإعدام بدون محاكمة. يجب أن نُثبت لأنفسنا بأننا نريد الحقيقة بالبحث
عنها بأمانة وإخلاص؛ فالحقيقة كنزٌ ثمين لا يمكن التنقيب عنه إلا بالقيم والأخلاق
النبيلة، وكل ما غير ذلك سيزيد من ردم الحقيقة ودفنها أعمق وأعمق – عنادنا وتعصبنا
يؤكد لنا بأننا لا نريد الحقيقة، نريد فقط البصق على كل من لا يقف في صفنا ويصفق
معنا ولنا...
ثورتنا لم تنتهي بعد، وكفاحنا من أجل ليبيا مازال
مستمراً، وفي هذه المرحلة نحن نحتاج للنجاح معاً... وإذا تابعنا التفكير بعقلية
أنانية تُوهمنا بأننا نحتكر الحقيقة الأصلية وأن البقية لديهم حقيقة مزورة! ففي
هذه الحالة لن ننجح أبداً؛ لأننا لن نتوصل إلى الحقيقة الكاملة باستبعاد الآخرين،
وبدون التكاتف والاتحاد لن نصل إلى خط النهاية أبداً... ربما قد يصل شخص واحد
فقط... ولكن أغلب الظن أنه لن يكون الأكثر جدارة، ولكنه سيكون فقط الأكثر عناداً!
* ملاحظة: لا أذكر بالتحديد متى كتبتُ هذه المقالة،
ولا أذكر أين نشرتها، ولكن يبدو أنها كُتبت في نهاية سنة 2011. كسلي يمنعني من
البحث عن الملف الأصلي! على أي حال، هي ليست مقالةً جيدة، الكلام الذي فيها كلام
مثالي أكثر مما يجب، والتحذيرات التي فيها كلها تحققت وأصبح الجميع يتوهمون بأن
الحقيقة لديهم وبأن البقية يكذبون وحسب، الأمر الذي يجعل هذه المقالة، كغيرها من
المقالات القديمة، مؤلمةً إلى حدٍّ ما... وبالرغم من نهاية المقالة الطريفة! (بعض
الغرور!) إلا أن المقالة، كما ذكرت، ليست جيدة بشكل عام، أو ربما محاولة ربطها
بالوضع في ليبيا هو ما أخفقتُ فيه وأدى إلى انهيار المقالة... ولكن على أي حال المقالة
تعالج أمراً نفسياً/اجتماعياً/فلسفياً مُثيراً للاهتمام، وهذا سبب رغبتي في
الاحتفاظ بها، لأتذكر دائماً النظرية الجدالية للعقلانية... من المهم أن يتذكر
المرء دائماً أنه لا يعرف الحقيقة، وأنه في أحيانٍ كثيرة لا يريدها...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق