الحمد لله على تأجيل الانتخابات... فبلادنا اليوم تمر
بصعوباتٍ لن تسمح لنا بإجراء انتخاباتٍ مستعجلة، أو على الأقل فهي لن تسمح لنا بضمان
الوصول إلى النتائج المرغوبة بدون حوادث السرعة. ولذلك أحمد الله على أن السلطات المسؤولة
– أطال الله انتقالها – أحمد الله أنها قد ارتأت تأجيل الانتخابات، حتى ولو جاء ذلك
بعد تأكيدات صريحة بأن الانتخابات لن تُؤجل؛ فالأمور (الفنية) التي أعلنوا أنها السبب
هي بالفعل مهمةٌ جداً.
قد يغضب البعض من واقع أن كل التصريحات الرسمية التي
أكدت لنا عدم تأجيل الانتخابات سُرعان ما تم نقضها بالتصريحات المعاكسة التي أعلنت
تأجيل الانتخابات. ولكننا نتجاهل شيئاً مهماً في التصريحات الجديدة الصادرة عن المفوضية
العُليا للانتخابات والناطقين الرسميين وحتى قداسة المستشار مصطفى عبدالجليل، فنحن
نتجاهل أن كــل تصريحاتهم بتأجيل الانتخابات ذُكرت فيها عبارة (لأسباب فنية)، وبالتالي
يجب أن نُدرك بأن تصريحاتهم (السابقة) قد خُتم عليها بطابع (إزالة لغرض التطوير)، فهذا
ليس كذباً سياسياً – معاذ الله – وليس حتى تخبطاً في الإدارة والتنظيم، وإنما هو تحسين
وتطوير، بل إنها شفافيةٌ بديعة؛ فلم يتحرجوا في نقض كلامهم السابق، وكشفوا لنا بكل
صراحة أن تأجيل الانتخابات جاء لأسباب (فنية)...
فلماذا نغضب أو نتضايق وحكومتنا تُطبق معايير الشفافية
وتكشف لنا حقيقة مواقفها المتقلبة؟! ولماذا نتبرم من سعي الحكومة نحو تحسين الأداء
بإعلان تأجيل الانتخابات لأسباب (فنية)؟!
يجب أن نحمد الله على أن الانتخابات ستؤجل لأسباب (فنية)...
لا تظنوا بأن إعادة إحياء جثة الجهاز القضائي، أو تعبيد
طرق تخلو من المطبات للطعن والتظلم، أو إقامة أبراج عالية ومتينة للرقابة، أو حتى تفعيل
منظومة نزيهة للتحقيقات الطارئة... لا تظنوا ولو للحظة بأن كل ذلك أهم من الجانب الفني.
فلدينا معضلة أوراق الاقتراع مثلاً، حيث يجب اختيار ورق ذو تكلفة مناسبة في هذه الفترة
الحرجة، والأفضل أن يكون الورق صديقاً للبيئة، كما يقع عليهم عبء اختيار خط تُحافظ
رسومه على قيم ومبادئ الثورة، وأن يهتموا بدراسة تصميم الأوراق فلا تكون فيها مربعات
مقفلة مراعاةً لمشاعر السجناء السياسيين، ولا يكون فيها لونٌ أخضر إلا إذا رافقه الأسود
والأحمر وهلالٌ أبيضٌ ونجمة ليكون التصميم مُعبِّراً عن وفاء أوراق الاقتراع لدماء
الشهداء، وأعانهم الله على الدراسة النفسية لصياغة الإرشادات لتجنب كلمات مثل (يجب)
و(لا يجوز) لئلا يتم المساس بحرية المواطنين، والأفضل استخدام تعابير مثل (يحق لك)
أو (عيش حياتك)...
ولا ننسى أن إيجاد أماكن لمراكز الاقتراع أهم بكثير
من إهدار الوقت في رسم خرائط الدوائر الانتخابية بما يتوافق مع طبيعة المجتمع، فليس
المهم معرفة هل هذه المنطقة فيها أُسس للتصويت بطريقة (القائمة) أو (الأفراد)، ولكن
المهم هو البحث عن مدرسة فارغة لتحقيق الرمزية الأدبية في أننا نصنع مستقبلنا بالانتخابات
في نفس المكان الذي يصنع فيه التعليم مستقبلنا بإسقاط الطلبة ودفعهم للعمل لبناء دولتنا...
وبالطبع هذا يستدعي تنظيف المدرسة وتلميع الأرضيات ونشر الوعي الصحي بين المواطنين،
وهو أمرٌ لا يُستهان به؛ فالنظافة من الإيمان وازدحام يوم الانتخابات سيوفر بيئةً مناسبةً
لانتقال الأمراض. أما معرفة كفاءات المترشحين وقدراتهم ومدى نظافة تواريخهم، وفحص برامجهم
وخططهم للتأكد من خلوها من أمراض المصالح الشخصية، فهو ليس مهماً بقدر إيجاد مكان صحي
ونظيف يُمارس فيه المواطن وهم الديمقراطية. فكروا في الأمر وكأنه عرس: أهم شيء أن نجد
أولاً صالة أفراح متوفرة وبسعر مناسب، وبعد ذلك سيكون سهلاً البحث عن عريس وعروسة!
وكما نعرف جميعاً فبعد أن نجدهما لا داعي لفترة تعارف بينهما، ولا داعي حتى لإجراء
فحوصات طبية، الأهم هو أن نبحث عن مأذونٍ يُسارع بإبرام عقد الزواج، لكي يتلبس العريس
بالعروسة وتسجنهما بعد ذلك شرعية الانتخاب، أقصد تربطهما شرعية عقد الزواج...
ومن بين ما يُحمد للسلطات المجيدة عالية الفكر وعميقة
الحكمة، أنها منعت أفراد القوات المسلحة من التصويت بأن صرحت بأن أي شخص مرتبط بالجيش
الوطني لا يحق له التصويت. وهو قيد سليم وموجود في كل الدول الديمقراطية؛ وحكمته هي
أن أفراد القوات المسلحة يُطيعون الأوامر أكثر مما يجب، فخدمتهم الوطنية تتجسد في طاعة
أوامر قادتهم. ولكن لديَّ عتبٌ على السلطات المُبجلة في هذا الجانب، فحين وضعوا سبب
المنع على أنه (الارتباط بالجيش الوطني) كان من المفترض أن يضيفوا إليه (الارتباط بالمجاهدين
ضد الطليان) و(الارتباط بالجيش السنوسي)؛ لأن الجيش الوطني والمجاهدين القدامى والجيش
السنوسي كلها فئات متشابهة من حيث قوتها وقدرتها ووجودها على أرض الواقع... أما كتائب
وسرايا وتجمعات الثوار، فلا داعي لأن نخشى من تأثر أفرادها المسلحين بأوامر قادتهم
على الإطلاق؛ فطيلة الفترة الماضية لم نسمع أبداً عن أي جهة مُسلحة تسيطر على منطقة
معينة أو تختطف قادة أو أعضاء كتائب أخرى أو تُهدد الحكومة أو تُشعل فتيل المعارك الدامية
بسبب أوامر القادة...
وبما أن موضوع مشاركة أفراد القوات المسلحة في الانتخابات
هو في معدة السلطات كالبطيخة الصيفية، فدعونا نهتم بأمر فني خطير جداً، ألا وهو الحبر
والمحابر! على السلطات أن تطبق المعايير الدولية في اختيار حبر لا يحتوي على مواد كيميائية
قد تؤدي إلى إصابة المواطنين بالأمراض الجلدية، وعليهم ضمان أن يكون الحبر من النوع
السهل غسله. كما يتوجب عليهم توفير محابر كافية لكل الدوائر الانتخابية، وتشكيل لجنة
تضمن توزيع الحبر على المحابر بشكلٍ متساوٍ وبدون تهميش، وربما يقتضي ذلك دراسةً استراتيجية
معمقة لتحديد مقياس دقيق من الحبر لكل محبرة.
هنالك أمورٌ (فنية) كثيرة أيها الأعزاء لا يتسع الوقت
لذكرها كلها، ولا تسمح خبراتي المتواضعة بنقاشها؛ فمثلاً أنا لا أمتلك أي مؤهلات في
مجال البلاستيك ولا أستطيع الحديث عن صناديق الاقتراع التي تشكل هاجساً كبيراً في الانتخابات،
وكذلك ليست لدي خبرات دقيقة في علوم الحاسوب ولا أعلم كيف سيتمكنون من تحقيق معجزة
قاعدة البيانات الانتخابية، ناهيك عن أنني لست خبيراً في صيد الأسماك فلا أستطيع حتى
التخمين كيف يمكنهم ربط شبكة موحدة للعملية الانتخابية بين أطراف البلاد، وسأصدقكم
القول بأنني فاشلٌ في الرياضيات وسقطت في مادة الإحصاء عدة مرات ولذلك لن أستطيع التوغل
في مسألة إحصاء الأصوات، ولا أعلم هل سيستخدمون آلات الخرز القديمة مراعاةً للتكلفة
أم ربما ستحاول السلطات توفير آلة حاسبة لكل مركز اقتراع مراعاةً للفعالية...
فالحمد لله أن السلطات النبيهة أعلنت تأجيل الانتخابات
لأسبابٍ فنية، ولم تحاول أن تضحك علينا وتماطلنا بالحديث عن انعدام الاستقرار أو ضعف
القدرات القانونية والأمنية أو انعدام الخبرات السياسية والديمقراطية... بكل صراحة
ونزاهة وشفافية قالت لنا السلطات النزيهة بأن السبب هو الجوانب الفنية، ليس القضاء،
ليس الأمن، ليس النقص التشريعي في القوانين، ليس عيوب العملية الانتخابية، ليس غياب
الوعي الانتخابي والسياسي في المجتمع، ليس حتى ضيق الوقت... كلا... إنها أسبابٌ فنية...
الحمد لله أن السلطات المباركة التي تتولى قيادة البلاد
تُسرع بنا في الطريق الصحيح وفقاً لحكمتها العظيمة، فالمهم دائماً هو معالجة المشاكل
الفنية، فحتى لو كنا نُسرع باتجاه حافة الهاوية، فعلى الأقل لن نتعطل في الطريق بسبب
أي خلل فني...
ليبيا المستقبل: 18 يونيو 2012.
* هذه المقالة الأخيرة في سلسلة المقالات المتشائمة حول انتخابات المؤتمر الوطني العام، الأخيرة نشراً على هذه المدونة، ولكن من حيث النشر فهي الثانية. واليوم أيضاً نشهد تأجيل انتخابات لجنة الستين، ولكن هذه المرة لسبب واضح وهو قلة عدد الناخبين المسجلين. المشاكل (الفنية) تم حلها بلا شك عبر الممارسة، انتخابات المؤتمر الوطني وانتخابات المجالس المحلية جعلتنا خبراءً في التصويت! ولكن لا يوجد أي شيء آخر من مقومات الانتخاب. هذه المقالة قديمة، ولكنها للأسف تبقى قريبةً من واقعنا المعاصر أكثر مما يجب: مقومات الديمقراطية الحقيقية غير متوفرة لنا، ولكن أوهام الديمقراطية متوفرة... والله المستعان...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق