اسمح لي بأن أروي لكَ قصةً يا عزيزي القارئ... قصة
ولادة ثورة ومسيرة حياتها التاريخية... وسامحني لأني سأُفسد عليك القصة الآن وأقول
لك بأنها تنتهي بموت تلك الثورة... سأروي لك هذه القصة يا عزيزي القارئ لأنني أرجو
أن تقرأ فيها قصةً – أو نبوءةً – عن ثورةٍ أخرى...
في عام 1789 وُلدت الثورة الفرنسية، التي كانت
بجمال حسناوات فرنسا، وبطهارة شُعرائها. وُلدت من رحم الظلم والمعاناة، ونمت وتغذت
بأنانية ولامبالاة الُحكام. وبسرعةٍ فائقة، وبقوةٍ غير مُهادِنة، انتقلت الثورة من
مراهقة التمرد إلى بلوغ الثورة. وقد بلغت سن الرشد بالتحديد يوم 14 يوليو عام
1789، حين انتزعت قلعة الباستيل من أسيادها وحوَّلتها مِن حصنٍ للملك وسجنٍ للشعب
إلى رمزٍ للثورة ومُعسكرٍ للشعب الثائر. والطريف عزيزي القارئ أن الملك، الذي نفذ
بجلده من تلك القلعة في الوقت بدل الضائع، كان منذ يومين أو ثلاثة، في القاعات
المُحصَّنة، يسأل مستشاريه بكل بلاهة: (هل هذا تمرد؟!) وقد منعته نرجسية الحُكام
من الاستماع للرد الشهير لأحد مستشاريه: (كلا، يا مولاي، إنها ثورة.) هكذا، بكل
بساطة ووضوح عرف الملك الحقيقة، ولكن تخمة السلاطين أقعدته عن إدراك جوع الشعوب...
وتوالت الأحداث، وانطلقت الثورة الفرنسية تنمو
وتنمو، وتكسر القيد تلو الآخر بشعارها الرنان: (الحرية، المساواة، الإخاء) تلك
الكلمات الثلاث التي تجري على قافيةٍ واحدةٍ في اللغة الفرنسية، فكانت مبدأً
وشعاراً ونشيداً – وعداً للثائرين، وللحكام وعيداً. وياه كم حَقَّقت الثورة أحلام
الفرنسيين: انتشرت حقوق الإنسان والمواطنة، وتخلصت فرنسا من الطبقية، وتحررت من
نير الكنيسة الأحرش، ووقع الملك في الأسر، وظهرت على السطح الحرية الفكرية
والسياسية... وتنفس الشعب الفرنسي عطر الحرية الذي غاب طويلاً عن بلاد العطور...
ولكن مهما أسعدت الثورة الفرنسيين، فقد كان من
الحتمي أن تُغضِب جيرانهم، فالدول المجاورة لم يُعجب ملوكها أن تُهدَّد عروشهم
وموائدهم بثوراتٍ مُشابهة. وتحت دعوى المبادئ الدستورية والاستقرار الأمني! وفي ظل
استبداد الكنيسة السلطوية ونرجسية الشهامة الأوروبية الطبقية! أعلنت عدة دولٍ
الحرب على فرنسا وثورتها، وكانت نتيجة ذلك الحروب الثورية الفرنسية. وكانت الثورة
حاضرةً يا عزيزي القارئ، وجاهزةً للتحدي، فوحَّدت أبناء فرنسا بتساوٍ وإخاء دفاعاً
عن الحرية التي استعادوها لتوهم، وانتصر الفرنسيون في المعركة تلو الأخرى على أعدائهم
الذين كانوا يريدون قتل الثورة لمنع انتقال عدواها إلى شعوبهم. وبذلك أثبتت فرنسا
أنها قويةٌ بشعبها، لا بملكها المراهق أو بدستورها الفاضح، ولكن بشعبها، الذي
انتصر على أعدائه بالثورة، بالرغم من الفوضى والفراغ الحكومي.
وسنعترف يا عزيزي القارئ بأن الثورة كانت لها بعض
المواقف المُثيرة للريبة (أو الخوف!)؛ فالثورة أحياناً تجتهد أكثر مما يجب في أداء
واجبها الوطني، الأمر الذي أدى إلى ارتكاب الثورة (جرائماً وطنية)! حسب وصف أحد
نُقَّاد الثورة الفرنسية. فما بين سنتي 1793 و1794 أغرقت الثورة فرنسا في دماء
الفرنسيين أنفسهم فيما أصبح يُعرف باسم (عهد الرعب). في هذه السنة الواحدة حصدت
المقصلة أكثر من 16 ألف رأس! بعض المؤرخين يقولون بأن الرقم أكبر: 20، أو 40 أو
حتى 50 ألف شخصاً اعتلوا المسرح لتسلية الجمهور الصاخب برؤوسهم المتطايرة! وأصبحت
المقصلة من رموز الثورة الفرنسية... ولكن، هذا حال الثورة، فكثيراً ما تُعميها
نيران الشغف عن رؤية العدالة، فكان كافياً في ذلك الوقت أن يُتهم بالمرء بالقيام
بأعمالٍ معاديةٍ للثورة، أو بأنه من أزلام النظام السابق، لكي يصبح نجماً من نجوم
مسرح المقصلة... كان كافياً أن (يُتهم) فقط...
ولكن، بعيداً عن عهد الرعب الأحمر هذا، فقد قطعت
الثورة شوطاً كبيراً في الإصلاح السياسي، فبدأت في تكوين الهيئات الحكومية. بالطبع
الظروف الصعبة لم تسمح لهيئةٍ واحدةٍ بأن تستمر طويلاً، ولكن الثورة لم تستلم
وأفرزت كياناً تلو الآخر: تجمعٌ وطني، ثم جمعيةٌ تأسيسية، ثم جمعيةٌ تشريعية، ثم
مؤتمرٌ وطني... إنجازاتٌ سياسيةٌ وحكوميةٌ جبارة، أليس كذلك؟! محاولاتٌ جادة من
الثورة لملء الفراغ الحكومي. وبالرغم من تتابع هذه الكيانات الحكومية الفوضوي،
وبالرغم من أن بعض أعضائها وقادتها حصدت رؤوسهم مقصلة الثورة، إلا أن الثورة أوصلت
الفرنسيين إلى عتبة أحلامهم عام 1795 حين تأسست الجمهورية الدستورية.
لقد استغرق الأمر ست سنوات، ولكن أخيراً أصبحت
لديهم جمهورية، ودستور، وهيئة إدارية تنفيذية، وسلطة تشريعية تتمثل في البرلمان
ومجلس الشيوخ... وأخيراً أنهت الثورة الفرنسية عملها! وبالرغم من وجود طابورٍ خامسٍ
يُزعزع الاستقرار ويرغب في إعادة الملكية، وبلا شك يحضى بدعمٍ خارجي من الممالك
المجاورة، وبالرغم أيضاً من وجود جهات متطرفة كانت تريد إعادة عهد الرعب وتطبيق
الحد على كل من يخالف شريعة الثورة، إلا أن الجمهورية الفرنسية التي صنعتها الثورة
استطاعت التغلب على هذه الصعاب... ولو لبضع سنوات...
الذي حدث، عزيزي القارئ، هو أن الثورة الفرنسية لم
تُنهِ عملها فعلاً، ما حدث هو أن الشعب تعب من العمل... المواطنون المُرهَقون
أصبحوا يريدون الاستقرار، ولا يريدون عمل وتعب الثورة التي لا تنام... إرهاق الشعب
جعلهم ينبذون الثورة، وينسون كل ما قدمته لهم... ولم يكن الشعب الفرنسي فقط هو من
أدار ظهره للثورة، فإن كان الشعب يريد من الثورة أن ترحل وتتركه ينام، فإن الحكومة
كانت تسعى لقتل الثورة. الهيئة الإدراية التنفيذية كانت تحتكر الصلاحيات التنفيذية
والتشريعية أيضاً، وكانت تتجاهل دستور الثورة الجديد. وقد أقام أعضاء الهيئة
الإدارية انتخاباتٍ مُزوَّرة، وبالرغم من أنهم خسروا فيها (مع أنها مُزوَّرة!) إلا
أنهم تمكنوا من الالتفاف حولها وتنصيب أنفسهم وحلفائهم في مراكز القيادة...
وبالرغم من أن الشعب نسيَّ الثورة، إلا أنه كان يتذكر المظاهرات والاعتصامات
العقيمة. والهيئة الإدراية كان لديها حلٌّ لهذا الإزعاج الشعبي، وهذا الحل كان
الجيش. الحكومة قامت بحساب الأمر بشكلٍ منطقي: الجيش الذي هزم الإسبان والإنجليز
وغيرهم في الحروب الثورية لا بُدَّ أنه قادرٌ على أن يهزم الشعب الفرنسي الأعزل!
خاصةً وأن الشعب قد نبذ الثورة (مصدر قوَّته) وتركها تشحت في الشوارع... وهكذا،
وبعد أن كان الجيش بطل فرنسا بفضل انتصاراته على أعدائها الأجانب، أصبح الجيش بطل
فرنسا بفضل انتصاراته على الشعب الفرنسي!
لقد أصبحت الثورة الفرنسية يا عزيزي القارئ
مُشرَّدة بين شعبٍ أنكرها ونساها، وحكومةٍ تحاول اغتيالها... وبعد عشر سنوات فقط
من ولادتها، في سنة 1799، انتقلت الثورة الفرنسية إلى رحمة الله حين انتصر الجيش
على الحكومة نفسها! حيث انقلب القائد العسكري القوي نابليون على الهيئة الإدارية،
فأصبح أهم شخصيةٍ في الثورة الفرنسية – تماماً كما يكون القاتل أهم شخصية بالنسبة
للمقتول. وفي سنة 1804 تم نبش رفاة الثورة الفرنسية ودفنها في قبرٍ غير معلوم حين
قلب نابليون فرنسا من جمهورية إلى إمبراطورية، وتطوَّع لتحمل أعباء الإمبراطور بكل
شهامة...
هذه يا عزيزي القارئ هي قصة حياة وموت الثورة
الفرنسية... تلك الثورة التي أعلنت بأن للشعوب صوتٌ يجب أن يُسمع، تلك الثورة التي
حفرت مبادئ الحقوق الإنسانية على الصخر، تلك الثورة التي وحَّدت الشعب في مواجهة
تجمهرٍ من الأعداء، تلك الثورة التي تأسست فيها هيئاتٌ حكوميةٌ كثيرة، وتم فيها
صياغة دستور، وتأسيس جمهورية بمؤسسات تنفيذية وتشريعية، وتم فيها إقامة انتخابات
شعبية... تلك الثورة التي يمكننا القول بدون مبالغة بأنها أشهر ثورة في التاريخ...
تلك الثورة تعب الشعب منها ولم يصبر عليها، بل نساها، فأصبحت مُشرَّدةً تبحث عن
مأوى في أي ضمير، وفي النهاية ماتت غدراً... وعاد شعبها إلى سجون الاستبداد، وإلى
حلقةٍ مُفرغة من الطغيان؛ فتارةً يحكمهم إمبراطور، ثم يأتيهم ملك، بعد ذلك يعود
لهم إمبراطورٌ جديد... وقد حاول الشعب الفرنسي إعادة إحياء الثورة... ولكنه كان
دائماً يتعب ويمل، وينبذ الثورة من جديد لتعود إلى الموت...
فكانت ثورة سنة 1789 هي الأولى...
وتلتها ثورة يوليو سنة 1830...
ثم ثورة فبراير سنة 1848...
ثم انتفاضة باريس سنة 1871...
لقد أصبحت الثورة الفرنسية الأولى وكأنها قصيدةٌ
شعبية، يتغنى بها شعراءٌ حالمون، ويرد عليهم شعراءٌ آخرون بنفس الوزن والقافية...
ثم يصمت الجميع...
وقبل أن نصمت نحن الآن... اسمح لي يا عزيزي القارئ
بأن أهنئك بمناسبة ذكرى ثورة 17 فبراير... فكل عام وأنت بخير يا عزيزي القارئ...
ليبيا المستقبل: 16 فبراير 2014.
*مقالة سيئة... ولكن، أظن أن المناسبة تستدعي شيئاً ما، ولو كان مجرد نسخ لأحداثٍ تاريخية والتظاهر بأنني كتبتُ شيئاً! وكل عام وذاكرتنا بخير...
*مقالة سيئة... ولكن، أظن أن المناسبة تستدعي شيئاً ما، ولو كان مجرد نسخ لأحداثٍ تاريخية والتظاهر بأنني كتبتُ شيئاً! وكل عام وذاكرتنا بخير...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق