من التعليقات المضحكة التي تنتشر حالياً على
المقالات والأخبار السياسية: تعليقات بعض من يحاولون رصد عدد المبادرات فيما يخص
تمديد فترة عمل المؤتمر الوطني وانتخاب لجنة الستين: المبادرة العاشرة؟ المائة؟
الألف؟! لا أحد يعلم!!! كل ما يعلمه الجميع هو أن انعدام الثقة في الحكومة قد
أوصلنا إلى مرحلة البحث في كل مكان عن حلول.
هذا الوضع أدى إلى اجتهاد القاصي والداني في اقتراح
مبادرات للخروج بالبلاد من مستنقع اليأس الذي علقت فيه. وبالرغم من أن للمجتهد
أجران إن أصاب وأجرٌ إذا أخطأ، وبالرغم من أن كل المجهودات المبذولة هي مجهودات
وطنية جديرة بالتقدير والاحترام، إلا أنني يا عزيزي القارئ مُجرَّد مواطنٍ ليبي،
يسري العناد في دمي وعيني اليمنى فارغة واليسرى حسودة، ولذلك فأنت بلا شك تعلم
بأنني سوف أسعى للنقد الهدَّام والعناد لله في لله!
لنبدأ أولاً يا عزيزي القارئ باستعراض بعض
الاحتمالات: بقاء المؤتمر الوطني والحكومة، بقاء المؤتمر الوطني وتعيين حكومة
جديدة، انتخاب مؤتمر وطني جديد وتعيين حكومة جديدة، حل المؤتمر الوطني وتسليم
الصلاحيات للجنة الدستور، حل المؤتمر الوطني وتشكيل مجلس جديد بأي عدد ومن أي جهة،
إعادة النظام الملكي، إعلان قيام سلطة الشعب، استيراد برلمان صيني بسعر الجملة
وتعيين حكومة يابانية عالية الجودة... لابد أنك لاحظت يا عزيزي القارئ أن هذه
الاحتمالات تنحصر في حل مشكلة (نظام الحكم)، مع تجاهل النظام القضائي المشلول،
والمؤسسة العسكرية المُشرَّدة، والجهات الأمنية المفقودة، والاقتصاد، والنفط،
والفساد، والخدمات العامة، و... و... و... تجاهل الكثير من الأشياء التي يبدو أننا
نظنها معجزات تتنظر حكومةً أو دستوراً لتتجلى على أرض الواقع!
المبادرات المعنية بالحكومة أغلبها تتجاهل واقعنا
الذي يقول بأننا لو قمنا بخلط أنجح حكومات العالم في خلاط مولينكس وأحضرنا
كوكتيلاً من أفضل الخبرات والكفاءات العالمية لتولي الحكم في ليبيا، فلن نستطيع
تحقيق أي شيء... على الإطلاق... لأن الظروف لا تسمح بذلك. لو كانت البلاد طبخة،
فإن الحكومة لن تستطيع تحضير شرمولة الاستقرار ناهيك عن بازين الازدهار! فهي لن
تجد ولو ملعقة صغيرة من مكونات الحكم. وبعيداً عن صور الطبخ، فإنني شخصياً أظن بأن
ما يجب التركيز عليه اليوم ليس فقط الحكومة (بشقيها التنفيذي والتشريعي) ولكن حتى
أدوات الحكم وظروفه: القضاء، الأمن، الجيش، المالية، الاقتصاد، النفط، الخدمات
العامة... إن الحوار حول الحكومة وحدها لن يقودنا في نهاية المطاف إلا إلى الحصول
على حكومة عاجزة ليس في يدها شيء سوى مرتباتها! يجب أن يكون الحوار، في هذه
الفترة، شاملاً لظروف وأدوات الحكم أيضاً، وليس محصوراً فقط في نظام الحكم.
وإذا أشرتَ بحكمتكَ يا عزيزي القارئ إلى أن كل ما
ذكرته لكَ الآن هو أصلاً وظيفة الحكومة، وهو سبب تركيزنا على الحكومة، فسوف أقول
لك بأنك مُحق، ولكن، ولأنني ليبي، فسوف أعاندك بالقول بأن المجلس الوطني والمكتب
التنفيذي والمؤتمر الوطني وحكومتي الكيب وزيدان، جميعهم أخفقوا في هذه الوظيفة
الانتقالية لتهيئة ظروف الحكم وتجهيز أدواته للحكومات القادمة. وبما أن إخفاقات
الحكومة المتتالية أجبرتنا اليوم على محاولة التفكير والتخطيط لنظام الحكم
بالنيابة عن الحكومة الفاشلة، أفلا يجب أن يدفعنا نفس السبب إلى التفكير والتخطيط
في ظروف الحكم وأدواته أيضاً؟
ونفس الكلام ينطبق على الكثير من الأحاديث المتعلقة
بالدستور. لجنة الستين وظيفتها هي تأليف كتابٍ صغير يحوي بعض المبادئ العامة
والقواعد الأساسية، كُتيبٌ شبيهٌ بكتيب تشغيل غسالة ملابس، ولكنه أصغر حجماً،
وموضوعه كيفية تشغيل دولة وليس غسالة! أعلم بأنني أبالغ، وأعلم بأن دور لجنة
الستين والدستور مهمٌ جداً لتحقيق التوافق الوطني وإرساء حجر أساس بناء الدولة،
ولكن لجنة الستين وظيفتها تشريعية تأسيسية فقط: لن تأتينا لجنة الستين بحكومة وجيش
وقضاء وشرطة ودخل قومي وإعانة اجتماعية! ستأتينا فقط بالدستور وهو مُجرَّد وثيقة،
وثيقةً مهمةٌ جداً بلا شك، ولكن الدستور يحتاج إلى حكومة، ويحتاج إلى جيش، ويحتاج
إلى قضاء، ويحتاج إلى أمن، ويحتاج إلى اقتصاد، ويحتاج إلى تعليم، ويحتاج إلى صحة،
ويحتاج إلى خدمات، وفوق كل ذلك فالدستور يحتاج لمواطنين يحترمونه ويطبقونه... وكل
ما سبق، مما يحتاجه الدستور، لم يتوفر بالشكل اللازم لأي جهة حكومية أو أي وثيقة
أو قرار أو قانون منذ بداية الثورة...
فالمشكلة، يا عزيزي القارئ، يبدو أنها تتمثل في
اختلاط أولويات التنظير السياسي عندنا، فأغلبنا يشغلنا فقط المؤتمر والحكومة
وبدائلهما، وقليلون جداً من توسعوا وذكروا جوانباً أخرى لمشاكل ليبيا وحلولها.
وأنا أعلم جيداً يا عزيزي القارئ بأنني لم أُقدِّم أي حلول، وبأنني فقط أقوم بنقد
اجتهادات الجميع دون أن أمتلك أي مؤهلات لذلك... ولكن، هذا كل ما أستطيع فعله، وبكل
صراحة ربما هذا كل ما أريد فعله؛ فأنا لستُ خبيراً متخصصاً قادراً على إيجاد حلولٍ
واقعية، ولستُ كاتب خيالٍ علمي قادراً على اختراع أحلامٍ مستحيلة، كل ما أستطيع
فعله هو تمني ظهور مقترحات تستعرض كل المشاكل وتقترح حلولاً لها، وليس فقط مقترحات
تُركِّز على مشكلة الحكومة ومعجزة الدستور – أتمنى أن نرى مبادراتٍ تُقدِّم حلولاً
واقعية لأسئلة الحاضر، لا مبادراتٍ تتجاهل أسئلة الحاضر لطرح حلولٍ عن مستقبلٍ لم
نصل إليه بعد...
ليبيا المستقبل: 11 يناير 2014.