عنوان هذه المقالة لا علاقة له برمضان، ولا علاقة له
بالصحة... ولكن له علاقة بالمعاناة، وله علاقة بالصمت...
ما يُقارب من 5,000 أسير فلسطيني يُعانون في سجون
الصمت، الصمت الإسلامي والصمت العربي، والصمت العالمي... سجنهم الحقيقي ليس
الجدران التي يحرسها الجنود الإسرائيلييون، بل سجنهم الحقيقي هو القبر الذي تتعفن
فيه جثة الضمير الإنساني... وكذلك معاناتهم، ليست الاعتداء والضرب الوحشي في غرف
التحقيق، معاناتهم ليست التعذيب الإسرائيلي الذي أودى بحياة العشرات من الأسرى،
ولا هو الإهمال الطبي الذي قتل منهم العشرات أيضاً، ولا هو القتل العمد
والإعدام... معاناتهم، عذابهم الحقيقي، هو مللنا منهم ومن قضيتهم... عذابهم
الحقيقي هو أن دماءهم أصبحت شفافةً لا نراها، صيحاتهم أضحت همساتٍ لا نسمعها، وموتهم
أمسى خبراً مُضجراً يمر بسرعة على شريط الأخبار...
هؤلاء الأسرى لم يعد لديهم سبيل للمقاومة، سبيل
لإثبات وجودهم، سوى الإضراب عن الطعام... وبذلك أثبتوا أنهم أحرار، أثبتوا بجوعهم
أنهم أكثر حريةً منا بصمتنا... فكانوا جميعاً كشيخ الأسرى خضر عدنان الذي قال عنه
الشاعر إياس يوسف نصر بأنه:
يـصومُ عــن الـــخبزِ لـــيحـــيــــا
فبخبزٍ لا يحـــيـــا الإنسان...
هل تعرف شخصاً مسجوناً
قد سَجنتْ معدته العُدوان؟!
نعم، كذلك الأسرى الفلسطينيون يحيون بالكرامة، لا
بالخبز، وكذلك تفشل إسرائيل في سجنهم، وتسجن فقط معداتهم!
في الأيام الماضية، وبينما بدأت أمتنا الإسلامية،
والعرب منا بالتحديد، بينما بدأنا في تجهيز موائد رمضان المترفة لكي نملأ بطوننا
بتخمة اللامبالاة، لكي نُساهم في بناء سد الصمت بحشو أفواهنا، في هذه الأيام بدأت
وزارة العدل (هل لهذه الكلمة وجود عند إسرائيل؟!) بدأت هذه الوزارة الوهمية،
بالتعاون مع وزارة الداخلية والمخابرات الإسرائيلية وجهات أمنية وعسكرية متفرقة، في
صياغة وترويج مشروع قانون يسمح لإدارة السجون بإطعام الأسرى المضربين عن الطعام
بالإكراه. بالطبع لابد من أن تدعي إسرائيل أنها دولة قانونية وديمقراطية وغير ذلك
من خرافات، وبالتالي فإن القانون المُقترح حول (التغذية القسرية) سوف يسمح بإطعام
الأسرى بعد موافقة المحكمة! نفس المحكمة التي تسجن الأسرى ظلماً هي التي سوف يعود
إليها تقرير ما إذا كانت هذه التغذية القسرية عادلة أم لا! أمرٌ غير منطقي، ولكن النزاع
الفلسطيني الإسرائيلي لم يعد فيه مجال للمنطق ونتف الشعر...
هذه الخطوة هي بلا شك ردة فعل من إسرائيل على حركة
الإضراب الواسعة التي تنتشر بين الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. فعدا
عن أن بعض الأسرى قد نجحوا بهذا الإضراب في الانتصار على الحكومة الإسرائيلية
وإرغامها على الإفراج عنهم، الأمر الذي دفع حوالي 500 أسيرٍ فلسطيني إلى أن يعلنوا
اعتزامهم الدخول في إضراب عن الطعام بداية شهر سبتمبر القادم، كما صرَّح بذلك عيسى
قراقع وزير شؤون الأسرى في السلطة الفلسطينية، فإن إسرائيل تعرف تماماً أن تفاقم
هذا الوضع يعني لفت انتباه منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، وبالرغم من أن إسرائيل
تمتلك حصانةً حديدةً في مواجهة المجتمع الدولي، إلا أنها لابد أن تحافظ على صورتها
كضحية ديمقراطية وإنسانية تريد فقط الدفاع عن حقها في الوجود! وبلا شك فإن إسرائيل
ستتبع نهج الولايات المتحدة الأمريكية في التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، فهل
سمع فينا أحد عن نظام التغذية القسرية المُتبع في سجن قوانتانامو؟ بل هل سمعنا عن
أي تطورات في الإضراب عن الطعام في سجن قوانتانامو؟!
بصراحة لا أعلم ماذا أقول أو ماذا أستطيع أن أفعل
وأنا مجرد مواطن عربي آخر يتأكل ضميره بسرطان الصمت... ولكنني أردت أن أتوقف مع
هذه المسألة... أردت أن أقول أي شيء، أن أهمس بأي شيء...
شيئان فقط أستطيع أن أفعلهما... الشيء الأول هو
الإشارة إلى اتفاقيات منظمة الاتحاد الطبي العالمي World
Medical Association . اتحاد الطب العالمي أصدر بيان توكيو لسنة
1975 حول إرشادات الأطباء فيما يخص التعذيب والعقوبات وغيرها من التصرفات القاسية أو
غير الإنسانية أو المهينة لكرامة الإنسان المتعلقة بالسجن والاعتقال. وقد تطرق هذا
البيان إلى موضوع التغذية القسرية فنص في المادة رقم 6 على أنه:
حين يرفض السجين التغذية ويُعتبر من قبل الطبيب
قادراً على اتخاذ قرارٍ واعٍ وعقلاني فيما يخص عواقب هذا الرفض الإرادي للتغذية،
فإن السجين يجب أن لا تتم تغذيته اصطناعياً. والقرار حول قدرة السجين على اتخاذ
مثل هذا القرارات يجب أن يتم تأكيده من قبل طبيب واحد مستقل على الأقل.
وبالرغم من أن هذا النص قد يكون غير واضح أو غير
كامل، فإن الاتحاد الطبي العالمي قد تطرق لموضوع التغذية القسرية بشكل أكثر
تفصيلاً في بيان مالطا لسنة 1991 حول الإضراب عن الطعام. وقد نص الاتحاد في هذا
البيان على ضرورة التدخل الإنساني للأطباء في الحالات الحرجة التي قد يصل إليها
بعض السجناء المُضربين عن الطعام، مع التذكير بأهمية احترام إرادة السجناء الذين
يمتلكون القدرة على اتخاذ قرارات واعية وعقلانية بخصوص هذه المسألة. وينص بيان
مالطا في المادة رقم 2 من المبادئ على أن:
المضربين عن الطعام يجب ألا يتم إجبارهم على الحصول
على عناية يرفضونها. التغذية القسرية بالرغم من رفض واضح وإرادي لها هي غير مُبررة.
التغذية الاصطناعية مع موافقة المُضرب عن الطعام الصريحة أو الضمينة مقبولة
أخلاقياً.
فبيان توكيو يُوضح أن إرادة السجناء تسبق واجب
الأطباء الإنساني، وأن أي تصرف من الأطباء يجب أن يكون محكوماً بقرارات السجين، أو
عدم قدرته على اتخاذ هذه القرارات، فالتغذية القسرية غير مُبررة في حالة رفض
السجين لها، والتغذية الاصطناعية مقبولة أخلاقياً فقط في حالة موافقة السجين بشكل
صريح أو بشكل ضمني. ولكن بيان توكيو لا يتوقف عند هذا الحد، ففي الإرشادات
للتعامل مع الإضراب عن الطعام ينص بيان توكيو في المادة رقم 12 على أن:
التغذية الاصطناعة تكون مقبولةً أخلاقياً إذا قام السجين
المُضرب عن الطعام القادر على اتخاذ قرار بالموافقة عليها. كما أنها تكون مقبولةً أيضاً
إذا لم يترك السجين أي إرشادات دون إكراه يرفض فيها التغذية الاصطناعية.
هذه المادة مهمة من ناحيتين، الأولى هي الإشارة إلى
إرادة السجين وطلباته فيما يتعلق بترك السجين لإرشادات يجب اتباعها في حالة لم يعد
بمقدوره التعبير عن نفسه، وهو ما يتماشى مع واقع أن بيان مالطا يناقش كثيراً إرادة
السجناء المُضربين عن الطعام وضرورة معرفة طلباتهم ومواقفهم. الشيء الثاني المهم
هو التفرقة الواضحة بين مصطلح (التغذية الاصطناعية -Artificial
Feeding) ومصطلح (التغذية القسرية – Forcible
Feeding)، وهي تفرقة ستبدو بوضوح أكثر في نص المادة
التالية رقم 13، والتي تنص على أن:
التغذية القسرية غير مقبولة أخلاقياً أبداً. حتى ولو
كانت هدفها الإفادة فإن التغذية المصحوبة بالتهديد، الإكراه، القوة القسرية، أو
القيود هي شكل من أشكال المعاملة غير الإنسانية والمُهينة لكرامة الإنسان. كما أن
التغذية القسرية لبعض المعتقلين لتخويف أو إكراه معتقلين آخرين مُضربين عن الطعام
هي الأخرى مرفوضة بنفس الدرجة.
هذا النص واضح وصريح جداً، ولا يحتاج لأي تعليقات...
التغذية القسرية غير مقبولة أخلاقياً أبداً... أبداً... وهنا يظهر الفرق في
التمييز بين مصطلح (التغذية الاصطناعية) والذي يُعبر عن إجراءات طبية استثنائية
لتغذية من هم في حالات حرجة، وبين (التغذية القسرية) التي لا تعدو كونها شكلاً من
أشكال التعذيب...
هذا هو الشيء الأول الذي أستطيع فعله، الاستشهاد
باتفاقياتٍ دولية... الشيء الثاني الذي أستطيع فعله هو بيان مدى بشاعة هذه التغذية
القسرية بالاستشهاد بفيديو يُوضح أن التغذية القسرية هي فعلاً نوع من التعذيب غير
الإنساني...
ولكن قبل أن أختم بهذا الفيديو، فإني أجد نفسي
حائراً: ما فائدة كل هذا الكلام؟ لماذا أكتب أو أتحدث؟ لا أظن أن هنالك أي
فائدة... ولكن... لعل هذه المعلومات تسمح لنا بأن نهمس قليلاً، بأن نُلقي ببعض
الحجارة على جيوش الصمت التي تُحاصرنا...
فيما يلي فيديو يُظهر تجربة قامت بها صحيفة ذي
جارديان The Guardian
البريطانية، تبرع فيها الممثل والمغني الأمريكي ياسين بي (الشهير بلقب Mos
Def) لتجربة عملية التغذية القسرية كما تُنفذ في
سجن قوانتانامو...
قبل مشاهدة الفيديو يجب التحذير...
محتواه قد يكون مؤذياً لمشاعر البعض... ولكن، هذا ما قد يعانيه عشرات، وربما مئات
الأسرى الفلسطينيين إذا تم إقرار القانون الخاص بالتغذية القسرية... فأرجو أن تكون
لدينا مشاعر يمكن أن تتأذى...
مراجع:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق