في ثلاثينيات القرن الماضي وقعت إسبانيا في هاوية الحرب
الأهلية، وشهدت دماراً وحزناً شبيهاً بما تقاسيه بلادنا الحبيبة الآن، وهي تداعياتٌ
حتميةٌ لكل الثورات الحمراء والحروب؛ فالعنف العالق بكفاح الحرية غالباً ما يُخلِّف
وراءه جراحاً غائرة لا يمحو آثارها الزمن؛ فحين تحترق البيوت وتُدفن الذكريات تحت ركامها،
وحين يقتل الأخ أخيه، حين تجري دماء الأطفال البريئة في الشوارع، حين تُزرع الأرض رصاصاً
وتُسقى دماً، فإن ذلك يُشوِّه حاضرنا، ويُورِث تاريخنا ندوباً لا بلاسم تشفيها، ويفرض
علينا تغييراً وتحولاً لا يفهمه غيرنا...
وحين اشتد سعير الحرب الأهلية في إسبانيا، كان الشاعر
التشيلي الجليل (بابلو نيرودا) مُقيماً فيها، جسداً وروحاً. وكان شعره الرقيق العذب
من ضحايا تلك الحرب؛ فقد تخلى نيرودا، مُرغماً، عن حياده السياسي وسلميته، نبذ الحب
والطبيعة اللذين يزينان كل بيتٍ في قصائده، فأصبحت قصائده تقطر دموعاً ودماً.
إنَّ القارئ لشعر نيرودا في تلك الفترة سيتفاجأ بلا
شك بشدة ألمه، وستصدمه كلماته المــُفجعة. وفي الحقيقة، فإن العالم كله في تلك الفترة
تَحيَّر في هذا الانقلاب الذي حدث لشِعر نيرودا وأطاح بالجمال والحب؛ فقد تحولت قصائده
من حدائقٍ بديعةٍ تجري فيها أنهار الحب، إلى مقابرٍ مُظلمةٍ تُغطيها غيوم البارود وتغمرها
فياضانات الدماء. ردة الفعل هذه، على تغيُّر شعر نيرودا، دفعت به إلى تفسير موقفه وشرحه،
فنظم قصيدةً سماها (أنا أفسر بعض الأمور).