كثيراً ما تنتشر
بعض قصص الشعراء بيننا عامة الناس، فنجد أنفسنا – كأكبر نقاد الأدب! – نعرف قصصاً
عن الأمر بهجر الخمر عند امرئ القيس، وحب عنترة العذري وأيضاً حبه المنفلت مع
السيف، وجولات الملاكمة بين جرير والفرزدق، والمجون الأعمى لبشار، وقصص أبي نواس
التي تقطر خمراً، وفنون أبي تمام في النحت، والسم الحارق لابن الرومي، وعرش المتنبي
على مملكة الشعر... وغيرهم الكثير ممن نجد لهم قصصاً طريفة ومُبهرة نتداولها في
جلساتنا، والتي تنتشر اليوم كالنار في الهشيم على الإنترنت.
وإن كان هذا
الأمر محمودٌ لما فيه من جرعات ثقافية (ولو كنت أشك في أن الإنترنت يترك أي أثرٍ
دائم...) إلا أنه في أحيانٍ كثيرة تنتشر (شائعات) وحسب، قصص لا أساس لها من الصحة،
وهذا أمرٌ طبيعي، فهذه القصص لا تنتشر بين متخصصين في الأدب والنقد، وإنما تنتشر
بيننا نحن المتخصصين في الضحك والثرثرة.
من بين هذه
القصص، قصة عن الشاعر العباسي علي بن الجهم، تقول أنه كان بدوياً خشناً، وأنه غادر
البادية وذهب إلى عاصمة المدنية والتحضر بغداد. وهناك دخل على الخليفة المتوكل، وبلا
شك بعد تحية بدوية جزلة ألقى عليه قصيدة مدحٍ بدأها بقوله:
أنت
كالكلب في حفاظك للود *** وكالتيس في قِراع
الخطوب
أنت
كالدلو، لا عدمناك دلواً *** من كبار الدلا كثير الذنوب
وطبعاً كان من
الحتمي أن يختلط الأمر على جلساء الخليفة! فظنوا أن هذا الشاعر يسبه ويشتمه، وحين
وقفوا لإسكات الشاعر – وربما حتى ضربه تملقاً للخليفة! – منعهم الخليفة من ذلك.
وفي بادرة تدل على حكمته ونظرته الثاقبة أمر الخليفة بأن يُمنح الشاعر بيتاً على شاطئ
نهر دجلة، وأن يوفر له كل ما لذ وطاب من هناء العيش (القصة تذكر فقط الطعام، ولا
أعلم لماذا لم تُذكر الجواري!). وعاش الشاعر في المدينة ينعم بأطايب الثمر
(والبشر!)، ثم عاد إلى الخليفة، وهذه المرة ألقى عليه قصيدةً منظومةً من العسل
والمسك، بعد قصيدته السابقة المعجونة من الطين والحصى! وكان مطلع القصيدة (الحضرية) هو أحد أشهر بيوت الغزل في اللغة العربية:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ *** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وهنا قال الخليفة
المتوكل: (لقد خشيت عليه أن يذوب رقةً ولطافة!) وضحك الخليفة، وضحك جلساؤه، وضحك
الشاعر، وضحكت بغداد كلها، وضحك الروم، وضحك الفرس... ومازلنا إلى اليوم نضحك على
هذه القصة الرائعة التي سردت كيف قام الخليفة المتوكل بترويض البدوي الغليظ علي بن
الجهم وجعله حضرياً رقيقاً يذيب بشعره الصخور!!! لقد قام الخليفة بحذاقة بفك عقد
هذا الشاعر، وحوَّله من سلكٍ بدويٍّ شائك إلى خيطٍ حضريٍّ من الحرير!
ولكن... هذه
القصة غير صحيحة إطلاقاً...