بدايةً اسمح لي
عزيزي القارئ بأن أطمئنك بأن هذه المقالة لا تهدف إلى إرهابك من نيران جهنم
بالحديث عن موقف الفقه من تحليل وتحريم الاحتفال بالمناسبات غير الدينية! ولا هي
إحدى تلك المقالات التـي تتساءل عن عقلانية الاحتفال في هذه الفترة الحرجة، والتي
تنصح الناس بالابتعاد عن مظاهر الاحتفال الخطيرة والغبية...
إنها مجرد مقالة
يختلط فيها الفرح بالقلق...
فلا أعلم هل
نستطيع أن نحتفل بهذه المناسبة أم لا... هل حققنا ما كنا نسعى إليه؟ هل لدينا ما
نفخر به غير تضحيات الشهداء؟ الأمر صعب... ولكن ربما نستطيع أن نعرف الحل؛
فالاحتفال دائماً تسبقه التهنئة التي تُعرِّف به وتدل على أفراحه... فدعنا يا
عزيزي القارئ نتبادل التهاني لعلنا نستطيع الوصول إلى جواب...
أهنئك أولاً يا
عزيزي القارئ بمناسبة ذكرى انطلاقة الثورة (سواءً أكانت 15، أو 17 فبراير)...
أهنئك، وأهنئ نفسي، وأهنئ كل شعبنا الحبيب بهذه الذكرى: كل سنة والجميع بخير،
وعقبال 100 سنة إن شاء الله! والله أعلم إن كانت هذه الأمنية تعني استمرار
الثورة... أو استمرار الاحتفال بانتصار الثورة...
ولكن... اعذرني
عزيزي القارئ...
فلن أستطيع
تهنئتك بأننا أخيراً تحصلنا على الأمن والاستقرار الذي كنا نرجوه منذ أربعين سنة،
فأمان الواحد منا اليوم مرهونٌ بفورة دم أحد (المُسلحين)، والاستقرار مُعلقٌ على
فوهات البنادق: مُهددٌ بالاحتراق في أي لحظة... وبالرغم من أننا في هذه الفترة
نستذكر شهداءنا الأبرار، ونترحم على عظمة تضحيتهم بأرواحهم في سبيل الشعب والوطن،
إلا أننا اليوم لدينا من هم على استعداد للتضحية بأرواح الآخرين في سبيل مكاسبهم!
ومع ذلك أهنئك عزيزي القارئ بذكرى انطلاقة الثورة...
وسامحني يا
عزيزي القارئ إن كنتُ قد نسيتُ أن أهنئك بنزول المرتبات، أو بشفاء قطاع الصحة، أو
بالعودة الفعلية للأمن أو الجيش أو الشرطة أو حتى الحرس البلدي! سامحني لأنني مثلك
يشغلني البحث عن خبزٍ مجاني، ويُعييني البحث عن طبيبٍ شعبي يستطيع أن يخلط لي
دواءً من التراب والهواء (في حدود الميزانية...)، وتُذهلني حماية حذائي وقماش
جيوبي من أي شخص قد يكون أغنى مني برصاصة... لذلك اعذرني إن انشغلتُ ولم أهنئك بكل
الإصلاحات الطارئة والتدابير الضرورية التي تحتاجها حياتنا اليومية... ولكنني لن
أنسى تهنئتك بذكرى الثورة...
واعذرني يا
عزيزي القارئ لأنني لا أستطيع أن أهنئك بالرخاء والبحبوحة... طبعاً لا نستطيع
إصلاح دمار 42 سنة في عامٍ واحد، فلنكن واقعيين! يجب أن تكون طموحاتنا (الحالية)
واقعية، فلا داعي لأن تتجاوز سقف الواقع، ولكن إن رضينا بالسقف عوضاً عن السماء،
فهذا لا يعني أن يكون أداء الحكومة ملتصقاً بالأرض! وهذا الواقع (الأرضي) لا
يستدعي التهنئة... ومع ذلك، أهنئك عزيزي القارئ بذكرى الثورة...
وهنا، يجب أن لا
أنسى أن أهنئك بقيادتنا الراشدة، المتمثلة في قداسة المستشار مصطفى عبدالجليل حفظه
الله، والمجلس الانتقالي دائم العظمة والمجد... فلابد أن نُهنئ بعضنا البعض بقيادة
ثورة فبراير العظيمة! (صفة العظيمة هنا تعود على القيادة!) فلا أريد أن يتم القبض
علينا يا عزيزي القارئ، وأن تتم مصادرة حوارنا بحجة الاشتباه في إخفائنا للمتفجرات
في ثنايا الكلمات، أو أن يُقبض علينا مُتلبسين بتهريب كميات كبيرة من المشاعر
السيئة تجاه القيادة! فهذه فترةٌ تستدعي نوعاً من الاستنفار الأمني كما تعلم،
ولذلك أهنئك مائة مرة بقيادتنا الراشدة، التي إن لم تقدنا إلى النهضة والتقدم،
فعلى الأقل ستجعل منا شهداء الهم والغم... وبعض الشر أهون من بعض! ومع ذلك، فإنني
أهنئك من جديد بذكرى انطلاقة ثورة 17 فبراير...
ولكنني أستطيع
بكل شجاعة أن أعتذر عن تهنئتك بحكومتنا الوزارية! فهي حكومةٌ ضعيفة، تتخبط بخجل
كالقاصر غير المأذون له بأي تصرف: لا سلطات، ولا صلاحيات، ولا يُسمح لها حتى
بالسهر خارج المنزل! فولي أمرها النزيه، مجلسنا الانتقالي النبيل (أطال الله في
انتقاله!) يخشى عليها من هبة الريح، ولا يسمح لها بمخالطة الغرباء (الشعب!) ولذلك
يمكننا أن ننتقدها كما نشاء، بدون خوفٍ أو تردد... وبالرغم من أن حكومتنا الوزارية
مشلولة، ومجلسنا الانتقالي الطاهر يرفض أن يُعيطها ولو عكازاً واحداً، بالرغم من
ذلك فإنني أهنئك بذكرى اشتعال الثورة...
ولا تقلق يا
عزيزي القارئ فلا يمكنني أن أنسى تهنئتك بإسقاط رأس النظام وخلاصنا من الطاغية
المقبور: فمباركٌ علينا رحيل ذلك المشعوذ البشع، وإن كنا لم نحسب الأمر جيداً،
فتخلصنا من الرأس وبقيت أيدي السرقة وبطون الجشع وأقدام الاستبداد، وغيرها من
الأعضاء البشعة التي نستحي من ذكرها! لقد رمينا الطاغية في مزبلة التاريخ ولكننا
نسينا رمي أتباعه معه، فها هم يتربعون فوق رؤوسنا بعد أن أصبحنا نبيع السلاح بدلاً
من أن نحاربهم به! ومع ذلك، لا يستطيع أحدٌ منا أن يتغافل عن تهنئة الآخرين بذكرى
انفجار ثورتنا هذه...
ويعزُّ علي ألا
أستطيع تهنئتك برحيل شرورٍ أخرى قررت أن تبقى في بلادنا رغم الظروف! فالخوف
مايزالُ يتسكع في الشوارع بضجر، والفساد اكتسب الجنسية وله اليوم رابطة قبلية، أما
الجوع فهو مواطنٌ أصيل لا يمكننا العيش بدونه هو ونسيبه الفقر... فلنبكي معاً على
رحيل الأخلاق والإخلاص والوفاء، ولو أنها لم تغادر أرض ليبيا؛ فهي ارتفعت من سطح
التراب إلى قبور الشهداء، أولئك الأبطال الذين علمونا بدمائهم الطاهرة معنى
المواطنة الحقيقية... ولكنهم غادرونا وحملوا معهم مناهج الوطنية، ظناً منهم بأننا
قد تعلمنا دروسنا جيداً... فليرحمهم الله ويسكنهم فسيح جناته، وليرحمنا الله
أيضاً... وكل سنة وأنت طيب يا عزيزي القارئ بمناسبة ذكرى استيقاظ الشعب الليبي،
الذي بدأ يُغالبه النُعاس.
سامحني عزيزي
القارئ، فبدلاً من أشكر زيارتك لي هذه بأن أُنعشك بعصير الاحتفال يبدو أنني أغرقتك
في شاي العزاء... فيبدو أنه ليس لدينا شيء نُهنئ بعضنا البعض به سوى ذكرى انطلاقة
الثورة... ولكن، ومع ذلك، ألا نستطيع الاحتفال بهذه الذكرى؟ حتى وإن كنا لا نجد
سوى التعازي؟
أقول لك أننا
نستطيع الاحتفال بذكرى (انطلاقة) الثورة، ليس لأننا انتصرنا (ولم نُحقق شيئاً)،
ولكن لأن ثورتنا ليست واقعةً تاريخيةً قديمة، ولكنها واقعةٌ تاريخيةٌ مستمرة. نعم
يا أخي، ثورتنا لم تُسرق، ولم تنحرف، ولم تنتهي، ثورتنا ما تزال واقفة، ما تزال
صامدة، وإن كانت تنزف، ولكنها تستطيع المشي من جديد، تستطيع أن تعرج قليلاً نحو
أفق المستقبل إن سندناها وساعدناها، فهي لم تمت بعد، وإن كنا نقترب من الترحم
عليها فالرحمة تجوز على الحي والميت، وحريٌّ بنا أن نحتفل بولادة الثورة وحياتها،
وأن ندعو لها برحمة الله سبحانه وتعالى وحمايته...
نعم، نستطيع أن
نحتفل بذكرى انطلاقة ثورة 17 فبراير، نستطيع أن نخرج للساحات والميادين، نستطيع أن
نزور قبور الشهداء، نستطيع أن نتابع القتال والكفاح بأسلحةٍ جديدة لهذه المعركة
الأقل عنفاً... فحتى لو كان احتفالنا هو فقط بأرقام التاريخ، حتى لو كنا سنشكو
أكثر مما سنشكر، إلا إن شعبنا سيتذكر بهذا العيد أنه هو من فجر الثورة، وهو من
اقتحم ميادين الرعب، وهو من انتزع مصيره من بين مخالب الطاغية، فالشعب هو الثورة،
وما احتفال شعبنا بذكرى الثورة إلا احتفال الشعب بنفسه...
ولكي لا نفقد
ذاكرتنا، يجب علينا دائماً أن نحتفل بالثورة إلى أن تصبح بالفعل ذكرى لانتصارٍ
مُتكامل... وإلى أن يأتي ذلك اليوم، علينا أن نحتفل بانطلاقة الثورة واستمرارها
دائماً – أن نُذكي شعلتها لكي لا تخمد نيرانها ولا يخفت نورها الذي يكشف لنا الطريق...
فلكي لا ننسى:
كل عام وأنت بخير عزيزي القارئ، وكل عام وشعبنا العزيز كله بخير...
ليبيا المستقبل:
17 فبراير 2012
* ملاحظة:
المقالة كتبتها السنة الماضية، في الذكرى الأولى للثورة... وللأسف ها هي سنة تمر،
ولم يتغير شيء في المقالة، سوى أن المجلس أصبح المؤتمر... لذلك لم يكن هنالك داعٍ
لكتابة أي شيء جديد... والإضافة الوحيدة ستكون: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق