يُقال إن
الإدراك لا يُغير شيئاً إن لم يقترن بالوعي اللازم للتعلم من دروس الماضي وللتأمل
في ألغاز المستقبل. أما إذا بقيَّ حبيس عذاب الحاضر وإرباكه؛ فالإدراك في هذه
الحالة يكون فقط توضيحاً لا داعي له لشدة الارتباك والحيرة.
ولعل هذا
الارتباك الناتج من صدمة الواقع هو السبب في أننا لا نستسيغ الإدراك كثيراً، ولا
نريد الحقيقة كاملة، نريد فقط مقداراً بسيطاً يسمح لنا بأن نبلع الواقع، كما هو
حال الملح في الطعام! مجرد رشة من الحقيقة لتجعل الواقع ملائماً لرغباتنا...
فماذا نفعل حين نرفض الإدراك ونختار عدم رؤية الحقيقة؟ ماذا يفعل شعبٌ كامل حين ينظر في المرآة
فلا يرى نفسه؟!
على مدى
التاريخ نظر شعبنا في المرآة كثيراً... وقد أدرك شعبنا حقيقته في الانعكاسات التي
أبصرها إبان الاحتلال الإيطالي، وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية
وصولاً إلى بدايات مرحلة الاستقلال، ففي هاتين الفترتين أدرك شعبنا متطلبات
المرحلة، ورأى في المرآة ما ينقصه وما يحتاج إلى فعله، فكان الجهاد والكفاح، وكانت
الوحدة والاستقلال والبناء.
ثم ربما يكون
قد أصاب شعبنا الضجر أو الجحود، فطفق يشتهي استيراد صورٍ جديدة يراها في مرايا
الغير، لم تكن صور ماضيه أو حاضره: فلم يرى الشعب أن له قيادةً راشدةً أوصلته إلى
سلم الارتقاء والتطور، وانشغل بما يشوبها من عيوب، فلهث خلف الدعوات الوهمية التي
روجت لها ثوراتٌ عسكرية تنقلب على الحكومات بالسلاح وعلى الشعوب بالأوهام. ومع
التغيرات التي أحدثتها العقائد الناصرية في العقل العربي – تلك العقائد التي وصفها
الكاتب الراحل رشاد الهوني بأنها كانت تحاول العدو قبل أن تتعلم المشي وكلما وقعت
على وجهها دفعت الشعوب ثمن ذلك من كرامتها وحريتها – بعد هذه التغيرات كره شعبنا صورته
في المرآة بدون أن يراها وبدون أن يحكم عليها، كره صورته فقط لأنه رأى صور الآخرين
المُزينة بأصباغ الخداع والأوهام... فكسر شعبنا المرآة بالجحود والإجحاف، ورفض
إدراك حقيقته...
هنالك خرافة
عند الغرب تقول بأن من يكسر مرآةً يُبتلى بسبع سنوات من الحظ السيء... فيبدو أن
شعبنا قد كسر المرآة ست مرات! فقد ابتُلينا باثنتين وأربعين سنةً من الحظ السيء
والمرايا المكسورة، وكل ذلك كان سببه أن شعبنا لم يرى حقيقته في المرآة، ولكنه رأى
فقط ظلالاً مستوردة...
وعلى مدى أربعة
عقود عاش شعبنا بدون مرايا... لم تكن لدينا مرآة واحدة نستطيع أن نرى فيها
حقيقتنا، لم يكن لدينا سوى الشظايا، تلك القطع الصغيرة الحادة التي كنا ندوس عليها
ونزيد من تحطيمها لئلا نلمح صورتنا المؤلمة فيها، لكي لا تنعكس فيها حقيقتنا. وقد
سمعنا همساً بقصص مَن تشجعوا ورفعوا هذه الشظايا وأبصروا فيها الحقيقة، ولكن سرعان
ما انتشل منهم القتلة المأجورون قطع المرايا الحادة تلك وحزوا بها أعناقهم، لتموت
في أعينهم الحقيقة التي شاهدوها قبل أن تصل إلى ألسنتهم... تلك الحقيقة البشعة،
حقيقة الهتاف والصراخ والتصفيق، حقيقة المدح والتمجيد والتأليه، حقيقة الصمت...
ثم جاءت
الثورة... لم تكن لدينا مرايا بعد، ولكن هذه المرة رأى شعبنا عند الغير أمراً
تُحمد الرغبة في الاقتداء به، وكذلك فعل شعبنا، وهدم هو أيضاً جدران الصمت واقتحم
ساحات الحياة، فرأى انعكاس صورته في الدم... لقد رأى شعبنا الحياة في أعين الموت،
رأى حقيقة المرحلة ومتطلباتها في بحيرات الدماء، فكانت الشجاعة والتضحيات بالدماء،
وكان الإصرار والقوة بالدماء... وبالدماء كان النصر...
ولكن جفت اليوم
الدماء... وعاد شعبنا إلى حالةٍ تأرجُحٍ بين المرايا التي لا تعكس إلا الأوهام،
وبين الشظايا التي لا يرى فيها الشعب الحقيقة كاملة...
والحقيقة التي
لا يريد شعبنا أن يسمح لنفسه بأن يراها في المرآة هي أن الشعب (نحن، أنتم، هم...)
الشعب هو جزء كبير من المشكلة، إن لم يكن هو جوهر المشكلة... ولكننا لا ننظر في
المرآة بأعينٍ واعية، لا نبحث عن الإدراك، ولكننا ننظر بأعينٍ أنانية، أعين تبحث
عمن تتهمه وتلومه على تشوه انعكاسنا في المرآة، فتارةً كان الملك رحمه الله هو من
رآه شعبنا في المرآة على أنه المشكلة، وتارةً كان شعبنا يرى في الشظايا أنياب
الطاغية المقبور ومخالبه، والآن نرى المجلس الانتقالي وإخفاقاته في تحقيق أحلامنا
الكبيرة... وطيلة هذا الوقت ننسى أن (الشعب) هو الذي ينظر في المرآة! كل شيء تغير،
انتقلنا من احتلال إلى وصاية إلى ولايات إلى اتحاد إلى مملكة إلى كابوس إلى ثورة،
والآن ندور في الغموض... ولكن الشعب هو دائماً العنصر الثابت في معادلة الدولة،
فإن لم تنتهي مشاكلنا، أفلا يخطر على بال أحدنا أننا نحن المشكلة؟! فكيف يمكننا أن
نُطالب الجميع بأن يُصلحوا أنفسهم ونحن لا نُصلح أنفسنا؟ بل لا نرى مشاكلنا
أصلاً؟!
الواقع المُحزن
هو أن شعبنا تغير عدة مرات عبر التاريخ، غيَّر ما بنفسه، وتغيرت بناءً على ذلك
أوضاع بلادنا. ولا داعي هنا لأن نعود بأذهاننا إلى ذكرياتٍ بعيدة مازلنا نفخر بها،
كالجهاد ضد الاحتلال والنمو والتطور بعد الاستقلال، فلدينا مثالٌ صغير السن، عمره
أكثر من عام واحد بقليل.
لقد تغير شعبنا
إبان ثورة 17 فبراير، وأثبت أنه قادرٌ على إصلاح نفسه والتخلص من مشاكله، فنبذ
التعصب بكل أنواعه، واختفت الأخلاقيات المُنحطة، والأنانية والحقد، تضامن شعبنا
ورتل للعالم بصوتٍ واحد أناشيد التضحية والشجاعة والعزيمة، وانتصرت الثورة... ولكن
سُرعان ما عادت كل الأوبئة التي شُفينا منها في بداية الثورة...
فاليوم مبادئ
الثورة أصبحت مجرد مدخل ننفذ منه إلى نقد وذم الحكومة وأي شخص آخر نُحس ببعض الضيق
أو السخط تجاهه. ففي كل زاوية نرى (عكس) مبادئ الثورة: حرية التعبير أصبحت سلعةً
نادرة، فالرقابة أصبحت تُطبق (تبرعاً) من أي شخص لا يعجبه الكلام! وتخوين الآراء
المُخالفة، والحكم عليها بالإعدام شنقاً حتى الصمت، أصبح كيف السلام عليكم! ناهيك
عن التزوير والفساد والسرقة والتهديد والضرب والخطف والتعذيب والقتل... فإن كان
المجلس الانتقالي والحكومة وغيرهما من الهيئات والجهات، مسؤولون عن بعض الجرائم،
إما بارتكابها مباشرةً، أو بإهمال تطبيق القانون وتفعيل الأجهزة الأمنية والقضائية
مما يسمح للمُنحطين بأن يرتكبوها، فما علاقة ذلك بما يقوم به الشعب؟!!!
قد يقول البعض
أن إخفاقات الحكومة الانتقالية المؤقتة وإهمالها لوضع أساسات الدولة هي الأسباب
غير المباشر في انحراف الشعب؛ فبدون قيادة راشدة من الطبيعي أن ينحرف الشعب عن
الطريق الصحيح... كلام يبدو منطقياً... لكننا نسأل: فلماذا كان الشعب على المسار
الصحيح في بداية الثورة؟ لماذا اتصف شعبنا بأكرم الأخلاق واتبع أنبل المبادئ خلال
الثورة بالرغم من غياب قيادة واضحة؟ بل إننا نتعجب لمن يؤكد أن فساد الحكومة هو
(فقط) السبب فيما قد يعتري الشعب من أمراض، ففي بداية الثورة استنفدت حكومة
الطاغية المقبور كل قدراتها في الفساد والظلم والعنف، ولم يزد ذلك شعبنا إلا شرفاً
ونُبلاً وعظمة... فما الذي تغير الآن؟! هل ضاعت القضية؟ اختفت حقوق الإنسان التي
كان نطالب بها؟ الحرية؟ العدالة؟ المساواة؟ ما الذي تغير لدرجة أننا نسمح لفشل
الحكومة بأن يكون عذراً لفشلنا نحن كشعب؟!!! أم لعل العلاقة بين صلاح الشعب وفساد
الحكومة هي علاقة عكسية!!! فكلما كانت الحكومة أسوأ كان الشعب أفضل؟!!!
وهنا نجد
أنفسنا مضطرين إلى أن نسأل: هل تغير شعبنا بهذه الثورة؟ سؤالٌ صعب، ولكن لنفكر في
سؤال أهم عن التغيير نفسه: هل التغيير الجذري يتحقق بإنجازٍ واحد، أو في فترةٍ
زمنية واحدة؟
إننا لا نستطيع
أن نقول أن شخصاً ضالاً قد تغير وتاب فقط لأنه صلى ركعتين، ولكن عليه أن يداوم على
الصلاة ويجتنب المعاصي لكي يتغير بالفعل. فالتغيير الجذري هو التزامٌ مُستمر، عهدٌ
مدى الدهر للتمسك بالمبادئ والقيم التي تغيرنا بها، فلا يمكن لشعبنا أن يقوم بثورة
نبيلة، ثم يُطالب الآخرين بأن يلتزموا بمبادئها بينما ينساها هو! فالثورة إذاً
ليست مجرد (إنجاز) حدث في يومٍ من الأيام، ولكن الثورة هي درس، درس يجب علينا
تعلمه وعدم نسيانه، فشعبنا سيُمتحن في هذا الدرس كل يوم، وكل عام، ونجاح شعبنا لن
يكون بالاحتفال بذكرى انتصار الثورة، فنصرنا الحقيقي هو أن لا نُضطر في المستقبل
إلى الترحم على الثورة والبكاء على ضياع دماء الشهداء هباءً... هذا سيكون نصرنا
الحقيقي: الحفاظ على التغيير.
أظن أنه علينا
كشعب أن نفتح أعيننا وننظر مطولاً في المرآة... ألا ننشغل بلوم غيرنا واتهامهم
بأنهم هم السبب الوحيد للمشكلة، ولكن أن ننظر في أنفسنا ونبحث عن الإدراك الواعي
الحقيقي لنتعرف على مشاكلنا، ونُعي ما تتطلبه هذه المرحلة منا نحن أولاً؛ فيجب أن
تصلح بذرة الدولة، أن يتحقق الوعي والإصلاح الاجتماعي أولاً، قبل أن تبدأ شجرة
الدولة في النمو والامتداد بأغصانها الدستورية والقانونية والسياسية. يجب علينا أن
نُصلح أنفسنا أولاً لنكتسب بذلك الحق في المطالبة بإصلاح الحكومة والقيادات...
وإذا حققنا ذلك فلن نحتاج إلى النظر في المرآة؛ فحينها سنكون على ثقة بأننا نستطيع
النظر إلى المشهد كاملاً، سنكون قد عرفنا موقعنا وعرفنا دورنا، حينها، حين نطالب
بالإصلاح، سنكون كالشاعر الذي قال:
بني
الدهر مهلاً إن ذممتُ فعالكم فإنني بنفسي
لا محالة أبدأ
مقالة قديمة:
تاريخ النشر: 31 مارس 2012
رابط المقالة
على موقع ليبيا المستقبل:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق