في هذه الأيام
أصبح الأمن هاجس كل مواطنٍ ليبي. أمسى الانفلات الأمني موضوعاً عادياً جداً في
المرابيع والمقاهي – لقد دخلت الجرائم نطاق الملل. وأخشى أن يتفاقم الوضع الراهن
ليصل بنا إلى إقامة علاقات وثيقة مع الصومال انطلاقاً من الثقافة الفوضوية
المشتركة!
وبصراحة... أنا
نفسي مللت، أو ربما مرضت من الحديث عن الجار الذي قُتل، والقريب الذي خُطف،
والزميل الذي تعرض لمحاولة اغتيال، والصديق الذي سُرقت سيارته و... و... و... لم
نعد نتحدث عن الأسعار والسهريات والكرة؛ لقد أصبحت أحاديثنا الاجتماعية اليوم تبدأ
بمسدس وتنتقل إلى كلاشنكوف وتنتهي بقنبلة، وكل ذلك حدث في منطقتنا أو شارعنا ويكاد
يحدث في بيتنا! لقد مرضتُ من هذه الأحاديث... ونظراً لأن وضعنا الحالي ينطبق عليه
قول الشاعر: (وما سَمَحتْ لنا الدنيا بشيءٍ... سوى تعليل نفسٍ بالمُحالِ) فقد
قررتُ في هذه المقالة أن أستغرق في تعليل النفس بالمحال، والحلم قليلاً بالأمن، أو
على الأقل بشيءٍ من الأمن... ولذلك يا عزيزي القارئ أريد أن أحدثك عن كتيبة عمليات
الشرطة الخاصة.
لا تحاول يا
عزيزي القارئ أن تتذكر في أي جبهةٍ أو مدينةٍ سمعت اسم هذه الكتيبة، ولا تتساءل هل
هي كتيبةٌ تابعةٌ لوزارة الداخلية أم وزارة الدفاع؛ فلا تنسى أننا نُعلل أنفسنا
بالمحال، وهذه الكتيبة ليست في ليبيا، وإنما هي كتيبة قوات خاصة في البرازيل. وهذا
ما تفرضه علينا هذه الأيام يا عزيزي القارئ: أن نهاجر بعقولنا إلى قارة أخرى
تماماً لكي ننسى همومنا قليلاً...
البرازيل هي
إحدى أكثر الدول معاناةً من الجرائم. ولا نقصد الجرائم العادية، ولكن جرائم
المخدرات والسلاح، التي تكاد تصل إلى مرتبة الحروب الأهلية. رئيس العصابة الواحدة
في البرازيل يبيع في الشهر الواحد كمية مخدرات بقيمة 500 ألف دولا – رئيس العصابة
الواحدة، في الشهر الواحد. تجارةٌ مُربحةٌ للغاية، ولا بد لأي شخص أن يحرص على
حماية استثماراته! وبالتالي أصبحت البرازيل إحدى أكثر الدول معاناةً من انتشار
السلاح. وبالطبع هذا النفوذ (الاقتصادي) يتطلب نفوذاً (سياسياً) وبالتالي أُصيبت
البرازيل بسرطان الفساد، وأمست الرشوة في البرازيل كالمرتب، وكل سلاح تصادره
الشرطة من الشارع لحفظ ماء الوجه، تبيع في مقابله خمسة أسلحة للعصابات! هذا عدا عن
أن الشرطة والحكومة – مع الفساد – لا وجود لها أصلاً في بعض الأحياء الشعبية التي
تحكمها بعض العصابات – وكأن الدولة فيدرالية إجرامية!
ونتيجةً
لانتشار السلاح والفساد ظهرت قوات أمنية وعسكرية خاصة في كل مكان في البرازيل.
ولكن لعل الفرقة الخاصة الأشهر في البرازيل هي الفرقة التي تُسمى BOPE، وهي التي أريد يا عزيزي القارئ أن نعلل أنفسنا بها قليلاً...
BOPE هو اختصارٌ لاسم Batalhão de Operações Policiais Especiais، والذي بعد الترجمة نكتشف أنه يعني: كتيبة عمليات الشرطة الخاصة.
هذه الفرقة الخاصة، أو بالأحرى الكتيبة المقاتلة، كانت نشأتها عسكرية تحت رئاسة
الأركان، ثم تنقلت تبعيتها ما بين أجهزة الأمن ومكافحة الشغب وعادت من جديد لرئاسة
الأركان. وفي النهاية أصبحت قوة أمنية مستقلة نطاق اختصاصها هو ولاية ريو دي
جانيرو. قد تتساءل يا عزيزي القارئ، كيف يمكن أن تكون القوة الأمنية (مستقلة). هي
بالطبع تتبع للدولة، ولكن بسبب وباء الفساد المنتشر في البرازيل، قرر بعض النزهاء
أنه من الأفضل لهذه الفرقة أن تكون مستقلةً عن التبعية لمراكز أمن أو شرطة قد تكون
مصابةً بداء الفساد. والنتيجة يا عزيزي القارئ أن كتيبة BOPE أصبحت
مشهورةً بأنها الجهة الأمنية الوحيدة التي تتملك مناعةً تامة ضد الفساد!
ولا بد أنك
الآن تتساءل عن دور هذه الكتيبة المقاتلة المستقلة. وللإجابة عن هذا التساؤل يقول
النقيب ويسلي سانتوس من كتيبة BOPE في إحدى
المقابلات الصحفية: (حين يحتاج المجتمع للمساعدة، يتصلون بالشرطة، وحين تحتاج
الشرطة للمساعدة، تتصل بنا...) وهو ما يبدو واضحاً حين نطلع على بعض اختصاصات هذه
الكتيبة مثل: اختراق تحصينات العصابات التي تداهمها الشرطة، دعم مراكز الشرطة في
حالة الهجوم عليها، إنقاذ المدنيين والشرطة المصابين في الاشتباكات مع العصابات،
قمع حركات التمرد في السجون، إيصال مذكرات الاعتقال للأشخاص الخطرين وفي المناطق
الخطرة... وغيرها الكثير. ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فلا تنسى يا عزيزي
القارئ أنها كتيبة عسكرية المنشأ، بل هي من أقوى الفرق العسكرية الخاصة في العالم،
ولذلك نجد في اختصاصاتها أيضاً: توفير قوة نارية متفوقة، تنفيذ المهمات الخاصة في
الجبال والمستنقعات، إبادة عصابات المخدارت (وركز معي في كلمة إبادة!)، القتال في
سبيل دعم سيادة الدولة، وبصفة عامة التدخل في المواقف الخطيرة.
ولكن كل هذا
الكلام يا عزيزي القارئ قد يبدو لك على أنه مجرد هراء إداري، تخصصات ومهام ولوائح،
وكلامٌ فارغ. لذلك دعنا نترك (الكلام) ونقرأ عن (الأفعال)...
تخيل معي يا
عزيزي القارئ الأحياء الشعبية البرازيلية – المعروفة باسم Favela – مبانٍ عشوائية على تلال منحدرة، شوارع ضيقة وملتوية، يسكنها أكثر من
مليون ونصف مواطن. والكثير منها تحكمها عصابات مخدرات بالجيوش الإجرامية. بعد أن
تحاول تخيل هذه الجبهة، دعنا نرى كيف تدخل كتيبة BOPE.
تنقسم الكتيبة لعدة مجموعات، كل مجموعة من 8 رجال فقط. وترافق هذه المجموعات فرق
خاصة من القناصين، يتمركزون بسرعة في أماكن عالية، وفي الحالات الصعبة جداً، يكون
القناصون في طائرات هليكوبتر صغيرة. ثم تتقدم المدرعة نحو المنطقة، وتبث رسائلاً
للسكان عبر مكبرات الصوت... رسائل قد تصدر بنبرة أدب واحترام كقولهم: (أيها
السكان، نحن هنا للدفاع عن مجتمعكم. أرجو منكم عدم مغادرة منازلكم.) وقد تحمل تحذيراً
وإنذاراً: (أيها الأطفال ابتعدوا عن الشارع، سوف يكون هنالك إطلاق نار.) وفي
أحيانٍ كثيرة لا تبث إلا الرعب: (لقد جئنا لنحصد أرواحكم)!!!
ولا داعي يا
عزيزي القارئ لأن أروي لك قصص معاركهم وخططهم الاستراتيجية، ويكفيني أن أقول لك
بأنهم يفون بكلمتهم بخصوص حصاد الأرواح! ففي عام 2007 وحده قتلت كتيبة BOPE ما يقارب من ألف مجرم. 1,000 مجرم في سنة واحدة. ويبدو أنها كانت
سنة هادئة نسبياً! ففي سنة 2009 كانت الحصيلة في يوم واحد أكثر عجباً! حيث قامت
عصابة تُسمي نفسها (الموتى الأحياء) بالسيطرة على بعض المناطق في مدينة ريو دي
جانيرو، وعاثوا فيها فساداً. ثم توجه أفراد العصابة إلى مقر كتيبة BOPE وقاموا بمحاصرته، وكان فيه قرابة 20 مقاتلاً من الكتيبة. استمر
الحصار والقتال لمدة 8 ساعات. ثم وصلت كتيبة BOPE التي
كانت تنفذ مهمةً في منطقة بعيدة. وصلت الكتيبة. وقبل أن ينتهي ذلك اليوم، كان
أفراد الكتيبة قد فكوا الحصار عن مقرهم، وحرروا رفاقهم، ومشطوا الشوارع كلها،
وقتلوا كل أفراد العصابة... كلهم... قتلوا 327 مجرماً في يومٍ واحد! بينما سقط من
كتبيتهم 5 مقاتلين فقط!
وهكذا تعمل هذه
الكتيبة أيها القارئ العزيز: تحصينات في أحد الشوارع لعصابة مخدارت لم تستطع
الشرطة اختراقها؟ فقط اتصل بهم وسيسطرون على المنطقة كلها! لديك زعيم عصابة مارق
يُهدد الأمن في المدينة؟ لا تقلق، جولة واحدة بطائرة هليكوبتر برفقة اثنين من
قناصي الكتيبة وأصبح ذلك الزعيم طي النسيان! عصابة تهريب مخدرات تتحصن في أنفاق
تحت الأرض؟ بضعة ساعات من القتال وحفنة من المتفجرات وأصبح في يديهم 40 أسيراً و20
جثةً!
ربما يبدو لك
كل هذه العنف مبالغاً فيه يا عزيزي القارئ، ولكن صدقني: هذا لا شيء. خاصةً حين
تدرك حجم كارثة انتشار الأسلحة النارية في البرازيل. فوفقاً لتقرير صادر عن الأمم
المتحدة، فما بين سنتي 1979 و2003 قُتل في البرازيل أكثر من 500 ألف شخص بالأسلحة
النارية. وقد حملت سنة 2003 الرقم القياسي في عدد قتلى الأسلحة النارية، الذي بلغ
51,034 قتيلاً، وإلى اليوم يترواح العدد كل سنة ما بين 47 و49 ألفاً. هل تتخيل هذا
الرقم يا عزيزي القارئ؟! في سنة واحدة مات في البرازيل عدد قريب من عدد الشهداء
الذين ماتوا في الثورة عندنا – نحن قُتل عندنا عشرات الآلاف بالقصف والطائرات
والألغام والدبابات والراجمات، وهم قُتل عندهم نفس العدد بالأسلحة النارية
المحمولة فقط!!! مع هذه المقارنة أظن أن عنف كتيبة BOPE دون
المستوى المطلوب!!!
ولكن لا تقلق
يا عزيزي القارئ، فهذه الكتيبة ليست كتيبة سفاحين، فهي لا تقتل فقط، إنما تقوم
بمصادرة الأسلحة والمخدرات، وتقوم بتحرير الأحياء الشعبية من سيطرة العصابات،
وتحارب الفساد وتقبض على (وأحياناً تقتل) الشرطة ورجال الأمن الفاسدين. وهي لا
تلجأ إلى العنف إلا في حالات الضرورة – الكتيبة كلها أصلاً كتيبة ضرورة! وكدليل
على حسن نية هذه الكتيبة، ففي شهر أكتوبر من هذه السنة، وفي عملية مشتركة للعديد
من الأجهزة الأمنية والعسكرية، تم تمشيط خمسة أحياء شعبية في ريو دي جانيرو، وتمت
السيطرة عليها كلها، وتم اعتقال عشرات الأشخاص، ومصادرة عشرات الأسلحة، وما يقارب
من 60 كيلوجراماً من المخدرات، وكل ذلك دون إطلاق رصاصة واحدة.
لم يبق لديَّ
الكثير لأقوله لك يا عزيزي القارئ عن هذه الكتيبة العجيبة. سأقول لك فقط أن رمزهم
هو جمجمة يخترقها سكين ويتقاطع خلفها مسدسان، ويقول أحد ضباط كتيبة BOPE أن هذا الشعار يرمز لتغلب كتيبة BOPE على
الموت في سبيل أداء واجبهم. واجبهم في القضاء على الفساد والإجرام وتأمين الوطن،
ذلك الوطن الذي يؤكدون على الولاء له برفع علمهم إلى جوار علم البرازيل على
المناطق التي يحررونها من العصابات.
وفي الختام يا
عزيزي القارئ، في ختام هذه الهلوسة، أو الأحلام بالأمن، في ختام تعليل أنفسنا بهذا
المحال، دعني أقول لك آخر معلومة عن كتيبة BOPE. كل ما تقوم به
هذه الكتيبة من عمل خارق للعادة، كله لحماية المواطن. كل تلك الاقتحامات
والمداهمات، وكل العمليات والمعارك، وكل الاستنفارات الأمنية وانتشار القناصين
والمدرعات، كل ذلك هو لحماية المواطنين، وليس لحماية المسؤولين وأصحاب المناصب...
فلو لم تكن كتيبة BOPE تسعى لحماية المواطنين، وكانت عوضاً عن ذلك تسعي فقط لحماية
المسؤولين، لكانت لا تختلف عن تلك العصابات التي تحاربها والتي لا تهمها سوى مصلحة
زعمائها، والفرق الوحيد سيكون أن زعماء هذه العصابات يرتدون بذلاً رسمية...
ودمت في أمانٍ
يا عزيزي القارئ، وأسأل الله ألا يحرمني وإياك من نعمة تعليل النفس بالمُحال.
*
أحدث مقالة تم نشرها على موقع ليبيا المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق