عرفتُ زياد بن حليم لفترةٍ لم تكن طويلة، ولكنها
كانت كافيةً لأعلم بأن رحيله عنا مأساة...
مَن يعرفون زياد جيداً سيسترجعون ذكرياتهم معه: رحلاتهم
وأسفارهم ومغامراتهم، قصصٌ مُبهِرة، وأخرى مُضحِكة، وغيرها مجنونة! للأسف مغامراتي
مع زياد كلها تدور حول طاولات مقهى بكرج... آخرون قد يتحدثون عن سيرته: نشاطه
السياسي والمدني، عمله، معارفه، مشاريعه... جوانبٌ مهمة في حياة زياد، سيفتقده
كثيرون بسببها، وله مني كل الاحترام والتقدير والإعجاب عليها بالرغم من عدم معرفتي
الدقيقة بكل تفاصيلها. وهنالك من سيتحدثون عن ثقافة زياد وعقليته (وأنا من هؤلاء)
عن معرفته الواسعة، وبحثه الدائم عن معلوماتٍ جديدة، مهاراته في المناظرة، منطقيته
وعقلانيته، دعمه للحرية الفردية، وقوفه مع تحرير العقول بدلاً من استعبادها، بحثه
عن الحقيقة وتقديمها على أي مصالح أو وجهات نظر شخصية – لقد كان زياد رحمه الله
عبقرياً، دون أي مبالغة... وبالطبع، فإن أي شخص يتحدث عن زياد لن ينسى ذكر فكاهته
وطرافته، سخريته اللاذعة، التي حين تختلط بعبقريته فهي تصبح سلاح دمارٍ شاملٍ
(مرةً أخرى بدون أي مبالغة!)...
أشياءٌ كثيرة سيتذكرها الناس عن زياد وسيتحدثون
عنها... أي إنسان يمشى فوق هذه الأرض ستكون له سيرة حياةٍ، ولكن الفرق في قراءة
سير الناس قد يكون تماماً كالفرق بين قراءة فاتورة كهرباء وبين قراءة ديوان شعر:
هنالك أناس، وهنالك أناسٌ رائعون... زياد كان إنساناً رائعاً بكل معنى الكلمة...
وبالرغم من كل ما يمكن كتباته عن زياد رحمه الله
فإنني أريد الكتابة عن صفة مُحدَّدة في زياد: زياد رحمه الله كان كثير الكلام...
من يعرفون زياد قد يمزحون حول كثرة كلامه وبراعته في السيطرة على مجرى الحوار!
الكثير من الناس كثيرو الكلام، ولكن قليلون جداً هم من يستحقون فعلاً أن نصمت
ونستمع لكلامهم...
زياد بن حليم رحمه الله كان أحد الأشخاص الذين كنتُ
أحب أن أصمت وأستمع لكلامهم...
بمجرد أن تجلس معه يمكنك أن تكون على ثقة بأنك سوف
تستفيد... زياد رحمه الله لم يكن فيلسوفاً، أعني أنه لا يتحدث فقط عن مفاهيمٍ
مُجرَّدة ومبادئ مثالية وتعريفات أكاديمية، بلا شك كان يعرف هذه الأشياء ويستطيع
أن يتفلسف حولها، ولكن حين تستمع إليه فأنت تُدرك أنه لا يفكر فيها، وإنما يُفكِّر
في الجانب العملي: يعرف النظرية ويُفكِّر في التطبيق – وهذا ما كان زياد يتحدث
عنه، ولهذا كنتُ أحب أن أصمت في حضرته بقدر الإمكان (من الصعب مقاومة تلك الرغبة
الليبية الحارقة في المعارضة والنقد!). كل الناس مثلاً يتحدثون عن الفساد، وضرورة
إنهاء الفساد، ولكن اسأل شخصاً واحداً كيف ستفعل ذلك، وإن لم يقل لك (بتفعيل
القضاء وتطبيق القانون!) وهي إجابة أسوأ من السؤال لأنها غير عملية إطلاقاً، فإنه
لن يستطيع إجابتك... زياد رحمه الله لم يكن من هذا النوع، زياد كان من العقول التي
تتجاوز الحديث عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين وغيرها من المثاليات المستحيلة، لن
يُحدِّثك عن الضمير والوازع الديني وتطهير القضاء للقضاء على الفساد، لكنه سيبدأ
فوراً بالحديث عن الموظف، والمكتب، والمبنى، والخدمات، والدورات، والمُحفِّزات، والمدراء...
زياد كان يُفكِّر فعلاً في توفير (إجابة) للسؤال وليس فقط إعادة طرح نفس السؤال
ولكن دون علامة استفهام...
لقد كان زياد يعرف بالضبط عن أي شيءٍ يتحدث، يبحث
عن الإجابات التي تُحوِّل المشكلة المطروحة مِن لغزٍ فلسفي إلى خطة عملٍ يمكن
فعلاً تنفيذها... وربما كان هذا هو سبب تفاؤل زياد وإيمانه بالمستقبل؛ لأنه كان
يعرف كيف يمكننا أن نصل لهذا المستقبل، فكان يراه بوضوحٍ أفضل من بقية المتفائلين
العميان...
هذه العقلية العملية (والمتفائلة) ربما كانت السبب
في توافد الناس على مقهى (بكرج) لطرح فكرة على زياد، مناقشة مشروع معه، عرض
مسوَّدةٍ عليه، سؤاله عن مُخطَّطٍ ما... لقد كان زياد مستشاراً يتزاحم عليه
الجميع: ينصرف زياد عن الطاولة التي نجلس حولها في المقهى، ليجلس في زاويةً ما مع
بضعة شباب يناقش معهم مشروعاً تجارياً، ثم تراه يقف في زاويةٍ أخرى مع شخص يعرض
عليه أوراقاً ومستنداتٍ مختلفة لمشروعٍ سياسي، ثم تجده يجلس داخل المبنى الصغير في
المقهى مع بضعة أشخاص حول كمبيوتر للإطلاع على تفاصيل دورةٍ تدريبية، أو تجده قد
انتقل إلى إحدى الطاولات يتبادل الأفكار مع بعض نشطاء المجتمع المدني حول مشروعٍ
خيري... الجميع كانوا يريدون سماع رأي زياد؛ لأن آراءاه كانت حديثة، مبتكرة، إبداعية،
وفوق كل شيء: واقعية وعملية... ولعل هذا من أكثر ما يُحزنني في رحيل زياد؛ فالأشخاص
مثل زياد رحمه الله، أصحاب العقول الواعية والعملية، هم من يُمهِّدون الطريق لبناء
المستقبل... اليوم لا يستطيع أحد بناء أي شيء وسط كل هذه الفوضى وهذا الدمار...
ولكننا اليوم نستطيع أن نجلس وسط الركام ونبدأ في التعلم شيئاً فشيئاً: زياد بن
حليم كان أحد المُعلِّمِين... كان أحد الأشخاص الذين لا يضايقونك بالدعوة للتفاؤل
الأعمى والوقوف في طابور انتظار الفرج، كلا، زياد كان يُقنعك بالتفاؤل لأنه كان
يعرف ماهية التفاؤل: زياد كان يُعلِّمك كيف تبني ذلك المستقبل الذي نتشوق إليه،
يشرح لك التفاصيل العملية والواقعية، فتُدرك فجأةً بأن التفاؤل بالنسبة لزياد
وأمثاله ليس مجرد أملٍ مستحيل ولكن التفاؤل هو خطة عمل...
إن رحيل زياد المفاجئ هو بالفعل خسارة كبيرة
لمستقبل بنغازي خاصةً وليبيا عامةً؛ فنحن اليوم في أمس الحاجة لأشخاص يُفكِّرون
مثل زياد ويُعلِّمون مثل زياد...
اعذرني يا زياد على هذه الكلمات التافهة... وسامحني
لأني لم أتواصل معك كما ينبغي في الشهر الفائت... وشكراً يا سيدي، شكراً على كل
الدروس التي تعلمتها منك، وشكراً لأنك أوثقت في داخلي الأمل في أن هنالك حلول
وهنالك إجابات: نحن فقط نحتاج لأن نجد شخصاً رائعاً مثلك يستحق الصمت، يستحق أن
نستمع له بدلاً من أن نُغرقه معنا في ثرثرة هذا الزمن الذي أصبح فيه الجميع
يتحدثون ويتفلسفون، وقليلون جداً من يُعلِّمون...
رحمك الله يا زياد، وغفر لك، وأسكنك فسيح جناته...
ورزق الله ذويك الصبر على فراقك... ورزق كل أحبابك وأصدقائك ومعارفك وتلاميذك الصبر
على فقدك... ورزق بنغازي وليبيا أيضاً الصبر على مواجهة هذا الحاضر بدونك...
رحمك الله يا زياد...