هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟

هل كان معمر القذافي رجلاً صالحاً؟

لن يختلف عاقلان حول إجابة هذا السؤال...

ولكن...

هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟

هنا سنقع في مأزق التمييز بين العاقل والمجنون بحسب الإجابة؛ فالاختلاف هنا ليس مبنياً على الولاء السياسي أو حتى المصالح الشخصية، كلا، بل الاختلاف هنا مبنيٌّ على اليأس والأمل – يمس جوهر الإنسان وروحه، ونحن على استعداد لوصف شخص بأنه مجنون لمُجرد أنه اشترى شيئاً كنا نستطيع التحصل عليه بربع دينار أقل، فما بالنا بمن يخالف جوهر وجداننا، ويعارض هلوساتنا وأوهامنا، أقصد مخططاتنا وأحلامنا! إن الشخص الذي يُحجب شمس أملنا بغيوم اليأس، أو يُطارد ظلال يأسنا بمشعل الأمل الملتهب، هذا الشخص يستحق أوصافاً أسوأ من الجنون...

ونعود للسؤال الثاني...

هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟

دعونا قبل التفكير في السؤال نجلس معاً ونستمع (أو نقرأ) بعضاً من القصص، ونهز رؤوسنا بصمتٍ وتفهُّم ونُعلِّق بلا حول ولا قوة إلا بالله...

شخصٌ يرفض إصدار قرارات بمكافآت لبعضٍ مِن الثوار الأبطال الذي بالرغم من أنهم لم يشموا رائحة الجبهة إلا أنهم جعلوا البلاد كلها جبهة، شخص يرفض مكأفاة هذه البطولة فيُخطف، والله أعلم ما الذي حدث له، وحين يُطلق سراحه ويستقيل من وظيفته تاركاً كل شيء خلفه، تصله أخبار مكافأة كل أولئك الأبطال الأشاوس...

شخصٌ آخر تُعرض عليه رشوةٌ مُغرية لنسيان جريمةٍ ما، فيرفض الرشوة، ويوثق ويحفظ الأدلة، ويُحيل القضية إلى الجهات المختصة، لكي يسمع بعد ذلك أن الأدلة الدامغة قد نجحت في إكساب الجاني حكماً بالبراءة... أم لعلها الرشوة قد صعدت درجةً أو درجتين نحو الأعلى؟!

شخصٌ ثالث يرفض في اجتماعٍ رسمي الانصياع لجهات غير مُختصة – بالرغم من أنها مَحميةٌ بكتائبٍ شرعية! – ويؤكد أن تبعيته هي للوزارة المختصة التي عينته والتي تملك قرار عزله، فيتحصل على ثقبٍ تذكاري في جسده من إحدى الرصاصات الودودة التي التقى بها في محاولة اغتيال (طازة) بعد الاجتماع مباشرةَ!

وقبل أن يفترق مجلس الهناء، فلنسمع (أو نقرأ) قصصاً من نوعٍ آخر، هي الأخرى تستدعي هزَّ الرأس بحزنٍ وصمت، وربما بدلاً من التعليق بلا حول ولا قوة إلا بالله من الأفضل الآن التعليق بحسبنا الله ونعم الوكيل...

شخصٌ يحصلُ على عطاءٍ كبير للقيام بمهمةٍ أمنية، فيبدأ أولاً في شراء بعض القصور والسيارات، وثانياً في تكوين جيشٍ شخصي، وثالثاً لا شيء...

شخصٌ آخر يَصدر قرارٌ بعزله – من حكومتين اثنتين! – فيقوم بتغيير أقفال المكتب، بعد أن قام بتعيين أفراد إحدى الكتائب في المؤسسة التي يجلس فيها، لحماية المؤسسة بلا شك، وليس لحماية نفسه...

أشخاصٌ آخرون، يعملون في عدة وظائفٍ حكومية، وحين يُفصلون من إحدى الوظائف، يُهددون الإداريين الذين فصلوهم وفقاً للقانون بأنهم سوف يقتلونهم وفقاً لقانونٍ من نوعٍ آخر! قانون الغاب مصطلحٌ محترمٌ جداً، دعونا نصفه كما هو فعلاً بالقول بأنه قانون الحيوانات!

قصصٌ كثيرة، تحدث لأقاربنا، ولجيراننا، ومعارفنا، وتحدث حتى لنا نحن... قصصٌ عن الحكومة، الفساد، السلاح، الكتائب، الجيش، الأمن، القضاء، الجرائم...

ونعود لذلك السؤال من جديد: هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟

لا نجد قضاءً ولا جهاتٍ أمنية، ولا حتى غفير بناية حكومية يمكنه أن يساعدنا بسبب الفساد والفوضى وحكم السلاح الذي صرع حكم القانون وحتى حكم الأخلاق، فلا نستطيع في هذه البلاد استرداد حقوقنا ولا حتى حمايتها...

فنطرح نفس السؤال: هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟

نُفكر في رواية قصتنا بأسى على محطات التلفاز أو الراديو، أو ربما نشر مقالة أو إعلانٍ من نوعٍ ما، أو الاتصال ببعض الإعلاميين أو الناشطين، ونسمع فجأةً صوت انفجار سيارة أحد الإعلاميين، ونقف في اليوم التالي في جنازة أحد الناشطين...

وبدلاً من أن نصرخ (يا ناس يا هو!) نطرحُ نفس السؤال: هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟

يصل بنا الأمر للبحث عن سلاح – قمة اليأس – ونتحسر على تلك الفترة التي كان السلاح فيها ينمو على الأشجار ويسقط من السماء... وبالرغم من أنك تُدركُ بأن الأسعار لا يسعها جيبك، وبالرغم من أنك تعلم أن مسدساً لن يحميك حقاً في مواجهة كلاشنكوف أو قنابل يدوية أو جيلاطينة أو حتى مسدسٍ آخر، إلا أنك تبحث، وتسمع بأن المسدسات التركية التي استوردتها الحكومة للجهات الأمنية مطروحةٌ للبيع في الأسواق بأسعار تتراوح بين أربعة وسبعة آلاف دينار...

فتطرح نفس السؤال الذي لن أمل من إعادة كتابته: هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟!

وهنا تبدأ في التفكير بجدية، ربما ليس بعقلانية واضحة، ولكن بجديةٍ تامة: لو كان الشعب الليبي شعباً صالحاً لما كانت لدينا مؤامراتٌ أجنبية وتدخلات خارجية، فكما قال الشاعر الناس هم من يبيعون أنفسهم أما الأوطان لا تُباع؛ فلو كان شعبنا صالحاً لما كانت أسعاره رخيصةً لهذه الدرجة... لو كان الشعب الليبي شعباً صالحاً لما قادته الاختلافات الفكرية أو الأيديولوجية إلى الإيمان بالقطيعة والخصام بدلاً من الإيمان بالتفاهم والحوار... لو كان الشعب الليبي شعباً صالحاً لما أدت النزاعات الحزبية والجهوية والشخصية إلى تشتيت شمل الشعب ودفعه للوقوع على وجهه في حلبة الصراع السياسي القذرة... لو كان الشعب الليبي شعباً صالحاً لما وُصف انعدام الأخلاق بأنه حرية، ولما أصبح الفساد مرادفاً للإدارة والبيروقراطية... وتُردِّد عبارة (لو كان الشعب الليبي شعباً صالحاً...) إلى أن تصل إلى نهاية الطريق الحتمية فتقول: لو كان الشعب الليبي شعباً صالحاً لما حكمنا معمر القذافي 42 سنة (والآن يدخل حكمه السنة 44 من وراء القبر!) ولما استنكر معمر القذافي قيام الثورة وانتفاضة الشعب، ولما تفاجأ حين قُبض عليه، ولما انتهى به المطاف في قبرِ غير معلوم، الأمر الذي يؤكد أن الخوف ليس من (جثة) معمر القذافي، ولكن الخوف هو من الشعب الذي مازلنا نتساءل هل هو صالحٌ أم لا... وهل من المعقول أن نخشى أن يقوم شعبٌ صالح بتقديس قبر طاغية مجنون؟!

وهنا نُدرك بأن اليأس جنونٌ حقيقي، فهو يرمي بنا في هاوية السؤال الأول: هل كان معمر القذافي رجلاً صالحاً؟! جنونٌ حقيقي؛ لأنه يحاصرنا في زاوية ضيقة ويفرض علينا مراجعة كل معتقداتنا وقيمنا، يجعلنا نُشكِّك في الثورة وقيمها لدرجة التجديف والزندقة! ويجعلنا ننسلخ من وطنيتنا ونهرب من أعباء بلادنا وأهلنا إن لم نكره كل شيء على هذه الأرض تماماً... أفليس هذا جنوناً؟!... ولكن مهما كان المرء مجنوناً فلا أظن أن أحداً سوف يقول بأن معمر القذافي كان رجلاً صالحاً!!! ولذلك يبقى المقياس الحقيقي للعقل والجنون كامناً في إجابة السؤال الثاني (هل الشعب الليبي شعبٌ صالح؟)... وإذا كانت الإجابة القطعية الوحيدة للسؤال الأول هي أن القذافي (ليس) رجلاً صالحاً، وبما أن القذافي مات ودُفن في قبرٍ غير معلوم، ولكن الفساد والظلم والأنانية والفوضى كلها تُقام لها نُصبٌ تذكاريةٌ معلومة! فإن هذا يتركنا أمام إجابةٍ واحدةٍ مؤلمةٍ لسؤال هل الشعب الليبي شعبٌ صالحٌ... إجابة يفرضها علينا نفس الجنون الذي اسمه اليأس...

ولكي نتجنب الوقوع بصراحة في السب والشتم، فدعونا ننحرف بالطريق نحو معادلة سخيفة من نوعٍ ما: فبما إن اليأس يعني الجنون، فإذاً الأمل يعني العقل، وفي ظروف البلاد اليوم فهذا يضعنا أمام توضيحات اجتماعية أو سياسية مُحددة لكل الحالات العقلية للمواطن الليبي والتي تحكم تصرفاته وحياته أيضاً...

فالمجنون هو اليائس الذي يحاول الهرب...

والمعتوه هو من يعمل قليلاً ويتلقى رسائل تهديد...

والسفيه هو من يعمل أكثر ليتم خطفه أو محاولة اغتياله...

والعاقل، الذي يعيش على الأمل ويعمل لأجله، هو مَن عَظَّم الله أجرنا فيه...

فمرحباً بالجنون إذاً... فشعبنا الذي لا نستطيع أن نُجيب بصراحة عن سؤال هل هو شعبٌ صالحٌ أم العكس، شعبنا قد أغلق الباب أمام كل ما يستحق أن يموت المرء من أجله...

فمرحباً باليأس... مرحباً بالجنون... مرحباً بالسلامة المُخزية...

والفاتحة على العقلاء الذين يموتون بلا جدوى...

ليبيا المستقبل: 30 أغسطس 2013