إذا سألنا أي ليبي أو ليبية عن مصدر كل الشر في بلادنا
خلال العقود الأربعة الماضية فبالتأكيد الجواب سوف يكون: القذافي. هذه حقيقة لا يختلف
عليها اثنان؛ القذافي كان تجسيداً للظلم والطغيان، إله الدماء والرماد، مشعوذ الفساد
والانحطاط... وضع في عنق ليبيا قيوداً من نار، سمم لها الحياة، وخلع عنها الكرامة،
وجعل رزق يومها أشواك الظلم وسياط الاستبداد.
ولكن القذافي – وإن كنا نراه شيطان ليبيا الأكبر – ليس
الشيطان الحقيقي...
كل الكوارث التي خنقت ليبيا على مدى أربعين سنة هي من
تخطيط وتنفيذ القذافي؛ فهو قد أرسى دعائم سلطانه بالظلم، وبنى عرشه بالجثث والدماء
– الاستبداد كان (ضرورياً) له من أجل أن يدوم في سلطته. وفوق ذلك كله فقد اجتهد القذافي
في لعن بلادنا بتعاويذه السوداء، ألقى بذوره المسمومة في النيران ونفخ الأدخنة التي
تصاعدت منها لتغمر البلاد كلها؛ فإما يسيطر على البشر بسحره فيسخطهم أتباعاً له، أو
يخنقهم بدخان شعوذته وظلمه...
وبالرغم من كل ذلك – بالرغم من فساده، وبالرغم من نشره
لعدوى فساده – فالقذافي ليس الشيطان، إنه مجرد رجل...
منذ الأزل والفلاسفة يحاولون تحديد طبيعة الإنسان وجوهره:
هل هو طيبٌ أم شرير. ولعل أشهر نظريتين هما: فكرة جان جاك روسو الذي قال إن الإنسان
بطبيعته طيب، وأن غرائزه في الطبيعة تميل إلى الخير، وألقى بكل اللوم على المجتمعات
في نشر الشر والفساد متجاهلاً أن الإنسان هو من يبني المجتمعات. بينما نجد في الطرف
الآخر فكرة فريدريك نيتشه الذي يقول بأن طبيعة الإنسان هي الأنانية المطلقة، وأن غرائزه
الطبيعية تتمثل في الاستغلال والاستبداد لتحقيق مصلحته، وهي نظرية لم يستطع نيتشه دعمها
إلا من خلال تجريد الإنسان من كل مصادر القيم والمبادئ الإخلاقية. روسو يقول أن الإنسان
ملاكٌ طيب، ونيتشه يقول أن الإنسان شيطانٌ شرير.
والحقيقة هي أن كلاهما مخطئ؛ فالإنسان لديه كل مقومات
الخير والشر معاً، ولهذا لدينا الدين، لهذا لدينا العرف، لهذا لدينا القانون؛ من أجل
أن تتوفر للإنسان قواعدٌ تهديه في حيرة الخير والشر. ولعل أفضل دليل على أن الإنسان
لديه قابلية متساوية للخير والشر هو أن الله سبحانه وتعالى خلق جنةً وناراً، لم يخلق
جنةً فقط، ولم يخلق ناراً فقط، بل خلق الاثنين؛ لأن كل إنسان لديه في داخله ملائكةٌ
وشياطين.
وهنا أعود وأكرر: القذافي ليس الشيطان.. فهو وإن كان
مصدر الشر الأول في ليبيا منذ عقود إلا أنه مجرد رجل. مجرد رجل باع روحه للشيطان، ولم
يبقى منه الآن سوى كومة لحم وجلد تُغلف هاويةً مظلمة لا روح فيها. ولذلك فإن كان القذافي
هو الممثل الرسمي للشيطان ومبعوثه في ليبيا، فهو يبقى مجرد تابع، مجرد تلميذ مجتهد
للشيطان.
وتلاميذ الشيطان يفيض بهم التاريخ لدرجة الغثيان: هتلر،
موسوليني، ستالين، فرانكو، ماو تسي تونق، تيتو، عيدي أمين، بول بوت، ميلوسوفيتش، كاسترو،
صدام حسين، حافظ الأسد، حسني مبارك، زين العبادين، على عبدالله صالح، القذافي... والقائمة
تطول، وتطول، وتطول... وفي كل العقود ستُكتب قوائمٌ طويلةٌ بأسماءٍ جديدة مُرعبة، وسيُسجل
التاريخ بالدماء كل أخبار العروش التي ستُبنى بالجماجم.
القذافي ليس الشيطان.. رحيله لن يفتح لنا أبواب الجنة
تلقائياً. ومهما قامت ثوراتٌ في هذه الأرض ومهما أسقطت الشعوبُ الطغاة، فالشيطان سيبقى
حاضراً، سيبقى دائماً موجوداً، مع السفاحين المجانين أمثال القذافي أو بدونهم؛ مدرسته
ستبقى مفتوحة ليتخرج منها الطغاة على مر العصور. ولذلك، وبالرغم من كل شرور القذافي
ومجهوداته في نشرها، إلا أن الظلم والاستبداد والفساد والاستغلال، كل هذه الأوبئة لن
تزول بزواله، نهاية (الشر) لن تتحقق برحيله، نعم سنتحرر من قبضته الدامية، ولكن الكثيرين
غيره يتطلعون إلى السلطة ويسيل لعابهم جوعاً وشهوة، ينفخون في قبضاتهم استعداداً لإحكامها
على البلاد والشعب، فهم مستعدون لحمل لواء الجحيم وتطبيق عقيدة الشيطان في مقابل مصالحهم
الشخصية؛ فالشيطان موجود ليوسوس ويغري ويفتن، والقذافي كان فقط يطبق تعاليم سيده ويسعى
لنشرها.
لستُ أتهمُ الجميع بالفساد؛ فنحن على ثقة بأن الكثير
من الناس يعملون بإخلاصٍ حقيقي ويرغبون فعلاً في التضحية بكل شيء في سبيل الوطن، لكنني
فقط أشير إلى أن الخير والشر موجودان في الجينات البشرية معاً، والرسول عليه الصلاة
والسلام حذرنا: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) [متفق عليه] ولذلك يجب أن
نظل دائماً متأهبين، وأن نُذكر أنفسنا وغيرنا بأن أي إعوجاج يجب أن يُقوم بسيف الثورة.
السلطة مفسدة، والإنسان ضعيف، وهذا هو سبب كل مشاكل البشرية: الضعف الإنساني – ذلك
الضعف الذي أُرسل لهدايته وتقويمه الرسل، وأنزلت لتعلميه وتربيته الكتب، وخُلقت لعقاب
زلاته النار.
يجب علينا أن لا نتوهم بأن خلاصنا سيكون بإزالة القذافي
وحسب، فخلاصنا سيكون بالتعاون معاَ لنتغلب على كل الطغاة: كل الطغاة الذين في داخلنا،
وكل الطغاة الذين يتطلعون إلى ربوبية السلطة، وكل الطغاة الذين قد تنجبهم السلطة والمناصب.
نصرنا سيكون باختيار الخير وتغليبه على الشر، ولن يكون فقط بإزالة موزعي الشر.
ثورة 17 فبراير المباركة لم تقم ضد (رجل)، ولكنها قامت
ضد (الشر) الذي يمثله هذا الرجل. الدماء التي فاضت لم تسل من أجل إغراق القذافي والانتقام
منه، ولكنها جرت أمامنا لتدلنا على الطريق نحو الحرية والكرامة والعدالة، الشهداء لم
يضحوا بحياتهم رغبةً في إرسال القذافي إلى الجحيم، ولكنهم قدموا حياتهم من أجل تحويل
ليبيا إلى جنة على الأرض. فيجب أن لا ننسى أننا التزمنا بحمل لواء الحرية والإنسانية
وليس لواء الثأر فقط.
إن قتال العدو ومواجهته يبقى دوماً (الجهاد الأصغر)،
فكما علمنا رسولنا الكريم: (الجهاد الأكبر) هو المعركة ضد الأهواء والرغبات الشخصية
– هو الإصلاح الداخلي.
القذافي ليس الشيطان.. هو فقط تلميذه. القذافي المتهاوي
ما هو إلا عقبة سخيفة في معركتنا من أجل ليبيا، فمعركتنا الحقيقية من أجل المستقبل
ليست مع القذافي، ولكنها مع أنفسنا – معركتنا الحقيقية هي مع الشياطين التي في داخلنا.
ليبيا المستقبل: 4 يوليو 2011.
* ملاحظة: كم هو مؤسفٌ أن أراجع بعض المقالات القديمة، وأجد أن ما كنت أخشاه، ما كنت أكتبه برعبٍ حقيقي في الماضي، هو حاضرنا اليوم... هذه المقالة كتبتها في فترة كنا نتصور فيها أننا نحتاج فقط للقضاء على القذافي، وأحسستُ أننا نحتاج لأن نُدرك أن القذافي ليس الشيطان... لو أنني صبرتُ لفترة لأدركتُ أنني لم أكن أحتاج لكتابة هذه المقالة، ولا حتى التفكير فيها؛ فشعبنا الليبي العظيم يُثبت اليوم بنفسه أن القذافي ليس الشيطان، ويُثبت أيضاً أن القذافي لم يكن تلميذ الشيطان الوحيد في ليبيا... يا إلهي يا ليبيا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق