اليوم،
16-09، هو ذكرى استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار رحمه الله. الذكرى الثانية
والثمانين لإعدامه رحمه الله مِن قِبل قوات الاحتلال الإيطالي. إنها مناسبة
تاريخية حُرمنا من تذكرها لعقود طويلة، فهي، وإن كانت تؤرخ للقضاء على المقاومة ضد
الاحتلال باستشهاد آخر قادتها، إلا أنها في نفس الوقت تؤرخ لمسيرة أحد أبرز أبطال
ليبيا، الرجل الذي كنا ولازلنا نفتخر به، الرجل الذي رفع رؤوسنا عالياً في كل
مكان، فكان بالفعل قد انتصر على أعدائه بالخلود، وانتصر لشعبه بالفخر الأصيل.
ولكن
اليوم لا يُسمى (يوم عمر المختار) أو (ذكرى عمر المختار) أو أي شيء له علاقة بعمر
المختار أو المجاهدين ضد الاحتلال الإيطالي، ولكنه يُسمى (عيد الشهيد)، حيث يبدو
أن المسؤولين لم ينتبهوا إلى أن تاريخ 17-2 سيرمز أصلاً لكل ما له علاقة بثورة
فبراير، بما في ذلك تضحيات الشهداء، فقاموا بدمج يوم تكريم شهداء الثورة مع ذكرى
استشهاد عمر المختار واختلط التاريخ القديم بالتاريخ المعاصر.
أشياءٌ
كثيرة تضايقني في هذا الأمر، أولها بالطبع هو خلط التاريخ القديم بالمعاصر، وعودة
عمر المختار إلى مزاحمة آخرين يقلون عنه مقاماً، فبعد أن حاول القذافي كثيراً
إخراج عمر المختار من الساحة، سواءً بشكل صريح وبمحاولة دفن ذكراه، أو بتحريف
التاريخ والتقليل من أهمية دوره الكبير، بالإضافة طبعاً إلى نسف كل تاريخ الحركة
السنوسية ودورها في دعم الجهاد (عمر المختار كان نائب وكيل الحركة السنوسية في
ليبيا، وكان الدعم في آخر أيامه يأتيه من مصر عن طريق الملك إدريس السنوسي، ويصل
عن طريق الكثير من الأشخاص في الواحات والصحارى الذين يدينون بالولاء للحركة
السنوسية)، ناهيك عن محاولة الإعدام الثانية في حق شيخ الشهداء التي تمثلت في نقل
ضريحه من بنغازي إلى سلوق... بعد كل ما حاول القذافي فعله، والذي ظننا بأنه انتهى
بقيام ثورة فبراير، ها هو عمر المختار يعود اليوم بتاريخه ليزاحم تاريخ ثورة
فبراير (التي رفعت شعار أحفاد المختار، ويبدو أنها اليوم تستبدله بشعار أنداد
المختار!) يعود عمر المختار وسط الازدحام التاريخي للحصول على مكانته الحقيقية في
ليبيا!
شهداء
ثورة فبراير هم (عالعين وعالراس)، وأنا أعلم أنني شخصياً لا أساوي التراب الذي
يرقد فيه هؤلاء الشهداء... ولكنني أتحدث هنا عن عمر المختار وعن ثورة كاملة اختلط
فيها الحابل بالنابل، فهذه الثورة لا يوجد فيها أبطالٌ بسيرٍ بطولية خالية من
الشوائب، إلا قلةٌ قليلة من أبطال الأسابيع والشهور الأولى (من أمثال المهدي زيو
مثلاً، أو الطيارين الحربيين صقور بنغازي، وغيرهم ممن يكادون يضيعون في فوضى تاريخ
ثورة فبراير...) ولذلك أقول بأن هذه المقارنة لا تجوز أبداً، أبداً، فشتان ما بين
ثورة التهمت أبناءها وانحرف بعض أبطالها ليصبحوا أشرارها واختلط فيها الدم الطاهر
بالدم الآخر (غير المعروف طاهرٌ أم لا)، الثورة التي أصبح فيها الاستشهاد (موضة)،
فكل من مات وهو يسرق أو يعتدي، وكل من مات في حادث سيارة أو في مشكلة شخصية، أصبح
شهيداً، هذا عدا عن الشهداء الذين لم يكونوا مع الثوار أصلاً، بل كانوا في الطرف
الآخر! شتان بين ثورة بعضنا يبكي عليها ويرثيه وبين تاريخ نضال ومقاومة مُحصَّن ضد
التلاعب. بالطبع أنا ليس من حقي توزيع شهادات تقدير، أو الحكم على من مات بقلبٍ
نقي في سبيل هدفٍ نبيل ومن مات فقط لأنه مات، ولكن العبرة في انعدام المقارنة هي
أن الأسئلة والحيرة – والإحراج أيضاً – فيما يخص ثورة فبراير هي أمور لا تسمح
بمقارنتها بمقاومة الاحتلال الإيطالي التي لها من الوضوح والثبات التاريخي ما لا
يختلف عليه اثنان – خاصةً وأن التاريخ المعاصر اليوم أصبح مرهوناً عندنا بالولاء
السياسي والولاء الجهوي وحتى الولاء القبلي والأيديولوجي! لقد أصبح تاريخ ثورة
فبراير منافسة سياسية: الفائز فيها هو الذي سيُحدد من هم الأبطال الحقيقيين، ومن
هم الخونة، ومن هم المتسلقين! فهل هذا تاريخٌ يُقبل أن يُقارن بتاريخ ثابت وواضح؟!
وحتى
وإن وصلنا إلى مرحلة من النقاء التاريخي لا تشوبها شائبة سياسية أو جهوية أو
أنانية... وأصبحنا نعرف تماماً من هم الأبطال ومن هم الشهداء ومن هم المتفرجين
والميتين دون قضية... حتى في تلك المرحلة (الخيالية!) فهل نستطيع أن نقارن عمر
المختار ودوره، ليس فقط في الجهاد، ولكن في حمل ليبيا على كتفيه على مدى الثمانين
سنة الماضية والدخول بها إلى قاعات الفخر في التاريخ، هل نستطيع أن نقارن دوره
ومكانته وقيمته التاريخية والروحية والفخرية بثورة فبراير؟
أنا
شخصياً أقول بأن المقارنة مستحيلة... الصحابة رضوان الله عليهم لم يقارنوا أنفسهم
بالنبي عليه الصلاة والسلام... سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يجلس على الدرجة
الثالثة (والأخيرة) لمنبره، وقدميه على الدرجة الثانية، سيدنا أبابكرٍ الصديق رضي
الله عنه جلس على الدرجة الثانية وقدميه على الدرجة الأولى، وسيدنا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه جلس على الدرجة الأولى وقدميه على الأرض (قبل ازدياد عدد المصلين مما
دعى لإطالة المنبر لكي يراه كل المصلين) والتابعين رحمة الله عليهم لم يقارنوا
أنفسهم بالصحابة، وأتباع التابعين لم يقارنوا أنفسهم بالتابعين، وكل جيل يعترف
للجيل الذي سبقه بفضله عليه (شريطة أن يكون جيلاً أفضل بلا شك)، فمن أين جاءتنا
الجرأة لكي نقارن أنفسنا بعمر المختار وأبطال الجهاد الليبي ضد الاحتلال
الإيطالي؟!!!
إن
الاعتراف بفضل الأجيال السابقة لا يعني التنكر للأجيال الحالية واللاحقة، فالإنصاف
يعني إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، فحتى الأجيال التي بنت البلاد بعد الاستقلال، حتى هم
كانوا يقفون موقف التقدير والاحترام من جيل المجاهدين، بالرغم من الفارق الكبير
بينهم في العلم والحضارة، فبأي نحق نأتي نحن وندَّعي أننا بهذه الثورة التي تمزقت
شر ممزق – حتى أصبح الناس لا يستحون من الترحم على أيام معمر القذافي! – بأي نحق
ندَّعي بأن هذه الثورة تساوى ذلك النضال والجهاد؟! بأي حق نقارن أنفسنا بتلك
الأجيال العظيمة؟!!!
اليوم
ذكرى استشهاد عمر المختار رحمه الله. وأظن أننا سنستفيد كثيراً لو توقفنا عن تمجيد
ثورتنا، وتمجيد أنفسنا بشكل مثير للدوار! سنستفيد كثيراً جداً لو توقفنا عن هذا
الهراء العاطفي فيما يخص قضية لم تكتمل بعد ولم نعرف حقاً هل انتصرنا فيها، أم أننا
قتلنا رجلاً واحداً وهزمنا أنفسنا بعد ذلك – نحن اليوم مازلنا نحتاج لنقد الذات
ولمراجعة أعمالنا وتصرفاتنا قبل أن نشرع في إقامة نُصب تذكارية لأنفسنا لكي نكتشف
فيما بعد أنها نُصبٌ توثِّق إخفاقاتنا لا انتصاراتنا. وبلا شك سوف نستفيد كثيراً
إذا تعلمنا كيف نتعامل مع التاريخ، كيف نُسجِّل بموضوعية، كيف نُقارِن بإنصاف، كيف
نمدح وكيف ننقد، والأهم من ذلك كله كيف نفصل أنفسنا عن التاريخ ولا نُقحم مصالحنا
وأهواءنا وغرورنا فيه.
شهداء
ثورة فبراير الحقيقيين سيحكم عليهم الله وحده اليوم، ولهم تاريخ 17-2، وتاريخ
استشهاد كل بطلٍ فيهم. ولهم مكانتهم في تاريخ ليبيا. ولكن اليوم 16-9 هو ذكرى
استشهاد شيخ الشهداء، أسد الصحراء، وبطل ليبيا ومصدر فخرها: عمر المختار رحمه الله
وأسكنه فسيح جناته. وعلينا أن نتعلم فعلاً أن العدالة تقتضي إعطاء الحقوق
لأصحابها، ولو كانت حقوقاً تاريخية، ومن وجهة نظري الشخصية، فإن حقوق عمر المختار
أولى وأهم من حقوق شهداء ثورة فبراير... خاصةً أن عمر المختار لا نزاع على حقوقه،
بينما أن شهداء ثورة فبراير قد دخل بينهم الكثير من لصوص الشهادة وسارقي المجد، بل
الثورة نفسها لم نعد نعلم ماذا حدث لها، وأمست في عداد المفقودين...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق