أنا من مدينةٍ كانت فيما مضى.. حسناً.. مدينةٌ لم
تكُن أبداً.. أعني لم تكُن يوماً شيئاً جديراً بالذكر؛ كل ما في الأمر أن كلَّ
ماضٍ سنراه جميلاً ونحن نقف في حاضرٍ تعيس، حاضرٍ يفرض علينا النظر إلى الخلف
كثيراً، النظر إلى زمنٍ كان هو أيضاً تعيساً، ولكن ربما لأنه بعيدٌ الآن فنحن لا
نظن بأنه كان تعيساً، ربما لأننا دائماً لا نحتمل الألم الراهن، فنتصور بأن الألم
السابق كان أخف وطأةً على أرواحنا، ربما لأنه دائماً من الأسهل أن نحلم بالعودة من
أن نُفكِّر في متابعة المسير، ربما أشياءٌ كثيرة، وخلاصتها أن الماضي التعيس سيبقى
دائماً في أعيننا أزهى وأجمل من أي حاضرٍ تعيس – وطوبى لمن أنساه حاضره تعاسة
ماضية، بالألم أو بالفرح...
مدينتي – التي لا أمتلكها! – كانت مُجرَّد مدينةٍ
صغيرةٍ تتوسع باستمرار. مدينةٌ لها طموحٌ أكبر من حجمها، ولعل هذا التوسع هو سبب
ضياعها؟ ربما، لا أعلم، لكن مُجرَّد التفكير في أن كل الفرح، كل الأخلاق، كل
الطيبة، كل الخير، كل الجمال، كل الحياة حين تتمدد أكثر وأكثر فإنها تُصبح أقل
كثافةً، أعني تفقد قوة نسيجها، تتمدد وتصبح رفيعةً جداً وقابلةً جداً للتمزق بكل
سهولة. ولعل هذا ما حدث حين حاولت المدينة أن تتمدد لتسع وطناً كاملاً، فتمزقت
وتمزقت وتمزقت... هي الآن بقايا مدينة، بقايا ماضٍ تعيسٍ جميل.
كانت المدينة عاصمة التمرد في بلادنا، وكانت عاصمةً
ثقافية، وكانت عاصمة الحراك السياسي، وكانت عاصمة التقاء كل العقول: الأصيلة
بلباسها البدوي المهيب، والحديثة ببذلها الأجنبية الذكية. لم يكن من فراغٍ أن
لُقِّبت المدينة "رَبَّايَةَ الذَّايح" مُربِّية المسافر أو النازح أو
الغريب أو التائه، أو كل ذلك مجتمعاً، فالمدينة كانت أيضاً عاصمة الاحتضان، عاصمة
الاحتواء، عاصمة الأمومة في هذا الوطن... لعل هذا ما منحها كل صفاتها، لعل هذا ما جعل
الكثير من الناس يَصفونها بأنها "قلب البلاد النابض"، فكل
"ذايحٍ" غريبٍ هو إنسانٌ يبحث عن حياة، وهذه المدينة – كما وصفها أحد
الكتاب – "لم تخذل أحداً من قبل"، منحت الحياة مرةً تلو الأخرى.. فهل
جفت منابعها؟ هل استنزفت كل حياتها في سبيل الجميع؟ هل بذلت كل شيء في سبيل.. لا
أعلم في سبيل ماذا، لا أعلم، كل ما أعلمه أن المدينة لم يبقَ فيها شيء...
كاتبٌ آخر من هذه المدينة، كاتبٌ رائعٌ ارتبط
بالمدينة وكأنه كان دماً يجري في عروقها كما كانت هي تجري في عروقه، أذكر أنه تحدث
عن الارتباط بالمكان، بأن هذا ليس شيئاً حقيقياً، نحن لا نرتبط بترابٍ وشوارع
ومبانٍ، نحن نرتبط بالآخرين، نُحب المدينة لأنها تُحب من نُحبهم، ولأن من نُحبهم
يُحبوننا فيها ونحبهم فيها. ولأجل ذلك أقول بأن المدينة لم يبقَ فيها شيء، لأننا
لم نعد نستطيع أن نحب بعضنا البعض فيها، لم نعُد نستطيع أن نفعل أي شيءٍ فيها سوى
الاستمرار في الوجود في داخلها، الوجود في داخل حصنٍ آمنٍ وقع تحت الحصار، تناقصت
فيه مؤن المشاعر الإنسانية، تفشت فيه أمراض الحقد والأنانية، حصنٌ أصبح سجناً، بل
أصبح قبراً جماعياً كبيراً يختبئ فيه الموتى في بيوتهم، يخرجون في
"لحظات" الهدنة لشراء الخبز، يُسرعون عبر الشوارع المليئة بأسراب الرصاص
ليزوروا بيتاً هنا أو هناك، ثم يهرعون عائدين إلى بيوتهم الآمنة، وفوق كل شيء، لا
يتحدث الموتى مع بعضهم البعض، لا يتجادلون في السياسة، لا يتناقشون في
الأيديولوجيا، ولا يسألون حتى عن الأخبار، فهم يسمعونها طوال اليوم تنفجر في أرجاء
المدينة "على الهواء مباشرةً"... لقد أدركنا جميعاً حقيقة بعضنا البعض،
وأصبحنا نَفِرُّ من بعضنا البعض بالصمت...
وهذه هي قمة المأساة.. فهذه المدينة التي أصبحت
مقبرة لا يعيش فيها فقط الموتى، بل يعيش فيها أيضاً القتلة...
كنا نفخر كل الفخر بأن أهل المدينة مشهورون بالصفة
الحميدة النبيلة تلو الأخرى، فماذا نفعل الآن بكل هذا العار وكل هذا الخجل؟! ماذا
نقول حين يحارب الأخ أخيه؟ حين يقتل أبناء العمومة بعضهم بعضاً؟ حين يحرق الجيران
بيوت بعضهم البعض؟ ماذا نقول حين تنتشر الجثث ويغزو المدينة ذباب الموتى، ماذا
نقول عن "رباية الذايح" التي أصبحت تحتضن الجثث والموت والدماء؟ أين
نهرب من أنفسنا اليوم؟ أين نهرب من حاضرنا؟ وأين نُخفي ماضينا الذي اتضح أنه كله
كذبٌ في كذب، كله خداع، كله أوهام، لا أخلاق، ولا نبالة، ولا ثقافة، ولا احتضان،
ولا رُقي، ولا شيء، مُجرَّدُ حُلُمٍ خيالي عن وهمٍ قديم: كانت مدينتنا... لا، لم
تكن مدينتنا شيئاً، لم تكن مدينتنا شيئاً فهاهي اليوم تحترق، هاهي اليوم يسير
الرعب في أرجائها ويُغلق المساجد والمدارس والمستشفيات بالموت الأحمر، ويحرق
البيوت في طريقه لإشعال فتيل قنبلةٍ أهلية، مأساةٍ اجتماعية، كارثةٍ إدراكية كشفت
حقيقة أهل هذه المدينة، وكشفت حقيقة تراب المدينة الذي يُزرع كل يومٍ بأظرف الرصاص
الفارغة ويُسقى بدماء أبناء هذه المدينة... فهل ستُنبتُ هذه البذور مستقبلاً
مُشرقاً؟! أم أنها ستُنبتُ مقبرة؟!
أنا من مدينةٍ لم تكن، ويبدو أنها لن تكون في يومٍ
من الأيام...
أنا من بنغازي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق