مع أبرز العناوين في الشأن الليبي...

كلما أردتُ كتابة أيِّ شيءٍ تافهٍ لأضعه على هذه المدونة الضائعة، أجد نفسي مُحرجاً لأنني لم أكتب شيئاً عن ليبيا... ميراث الجدود، البلاد التي وُلدتُ فيها (وأظنني مدفونٌ فيها من قبل أن أموت)، الجنسية التي لو لم أكنها لأردتُ أن أكونها (نكتة!)، الوَطَن، وأيضاً (لوِطْن)! بصراحة لن أعرف كيف أضعُ حركاتٍ على الكلمة لمنحها النطق البدوي الذي أصبح الجميع ينطقونها به بعد الثورة المباركة التي كانت ترفع شعار (لا للقبلية). سأعترف بأن الزمن الذي عشته أيام القذافي كان يفيض بالقبلية، ولكنني لم أسمع كلمة (وِطْن) مرةً واحدة، والآن أصبحتُ أسمعها في كل مكان...

وعلى أي حال: دائماً أجد جدار الوطنية يُغلق عليَّ الطريق إلى كتابة أي شيء آخر (غير وطني)... تريد أن تكتب عن حادثة مع جيرانك تُظهر مدى تمزق النسيج الاجتماعي وأن عزلتك عن الجميع ليست السبب الوحيد في ابتعادك عن الناس؟ اكتب أولاً عن مجلس النواب! تريد أن تكتب عن مدى الآلم الذي أحسست به لما يحدث في غزة، وتريد أن تكتب بصراحةٍ مؤلمة عن مدى الملل (أو ربما التشبُّع) الذي تحس به اليوم تجاه غزة؟ اكتب أولاً عن الحرب في طرابلس وفي بنغازي! تريد أن تكتب عن القراءة؟ عن الحياة؟ عن النفس؟ عن العقل؟ تريد أن تكتب أي شيءٍ تافهٍ عن أي شيءٍ تافه؟ اكتب أولاً شيئاً تافهاً عن ليبيا!!!

وحسناً... الكتابة (الوطنية) الإلزامية، ضريبة من الكلمة أدفعها للضمير على مضض لكي يسمح لي بالتفكير في كتابة شيء تافه دون ندم، وأقول التفكير لأنني في الحقيقة لا أكتب شيئاً حقاً... وعلى أي حال...

الحرب الدائرة في بنغازي وطرابلس... عبارة واحدة، أو اقتباس واحد يكفي:

الناس يظنون أنهم إذا وصفوا القتل الجماعي بأنه حرب فإنه لن يعود جريمة.

ليو تولستوي.

من على الحق؟ من على الباطل؟ هذا سؤالٌ لا يُطرح على من يقصفون بعضهم بعضاً وسط مدنٍ آهلة، هؤلاء جميعاً مجرمون، ولن يشفع لهم مائة ألف عذر من أعذار: طاغوت، مرتدين، كفرة، إرهاب، مليشيات، أزلام، خونة، مجرمين، تجار مخدرات... كل هذه الأعذار لن تشفع لهم أبداً أمام قطرة دم بريئة واحدة سُفكت، فما بالك بهذه الأعذار في مواجهة أرواح شيوخ وعجائز ورجال ونساء وأطفال أبرياء؟ فمن نسأل على الصعيد السياسي؟ لا نسأل أحداً عن الحق والباطل، فالصعيد السياسي ليس سوى غرفة عمليات إدارة هذه الجريمة المسماة بالحرب (ضد الطاغوت، أو ضد الإرهاب، أو ضد الإزلام، أو ضد الجهوية...) الخطاب السياسي الوحيد الذي يمكن أن نبحث فيه عن الحق والباطل هو الخطاب السياسي الذي كان يدعو للحوار: كيف كان يدعو للحوار؟ بأي شروط؟ بأي تنازلات؟ وإلى آخره من سفسطائية سياسية... أما الخطاب الذي يُسمى (حواراً سياسياً) وهو في حقيقته يدعو إلى إبادة الطرف الآخر، متجاهلاً عدم قدرة أحد على الحسم، ومتجاهلاً أن المتضرر الوحيد من كل هذه المعارك ليس الأحزاب أو الجماعات أو التنظيمات أو الكتائب أو المليشيات أو الدول الأجنبية المتأمرة علينا والكواكب الفضائية الأجنبية التي تراقب جرائمنا البشرية دون تدخل إنساني (أو كائنفضائي؟)، من يتجاهل أن كل هؤلاء لا يتضررون أبداً من أي شيء، وإنما المتضرر الوحيد كان دائماً، وسيكون دوماً، (راقد الريح)، المواطن المطحون، المواطن الذي لا يرى الوطنية على أنها أيديولوجية أو جهوية أو نظام حكم أو قبلية أو أي شيء آخر من هذا النوع، وإنما يرى الوطنية رغيف خبزٍ على مائدته، يراها وقوداً في سيارته التي يذهب بها للعمل ليطعم عائلته، يراها مستشفى يعالج فيها أبناءها وبناته، يرى الوطنية القدرة على احتمال هذه الحياة، القدرة على الابتسام بضعة مرات في طريقه إلى تلك المقبرة المزدحمة، ليس فقط بالجثث، بل أيضاً بالراحة والكرامة والحرية والأمان وكل شيء آخر نترحم عليه ونحن نتوهم بأننا أحياءٌ نستطيع الترحم على الموتى، بينما أن الواقع هو أننا كلنا تجوز علينا الرحمة – وليس لأن الدعاء بالرحمة يجوز للحي والميت...

الخلاصة: فليذهب الجميع إلى الجحيم، بأرتالهم، ومضادات طائراتهم، وراجماتتهم، وهاوزراتهم، وجرادهم، وأعلامهم المختلفة، وولاءاتهم المتقلبة، ومصالحهم الشخصية... وإن لم أشك في أن الذهاب إلى الجحيم سيكون صعباً عليهم وسيستغرق وقتاً أطول، لقلت فليذهبوا إلى الجحيم بعد أن يحشوا كل ما سبق في مكان لا داعي لذكره...

ماذا أيضاً أيها الضمير التافه المُصر دوماً على التظاهر بالاهتمام بليبيا وأنا أعلم تماماً أنك لا تكترث شخصياً، ولكنك فقط تكترث لما قد تقوله عنك الضمائر الأخرى؟ ماذا أيضاً؟

مجلس النواب...

لا داعي لأن أدعو لمجلس النواب بأن يذهب للجحيم، فهو سيتكفل بذلك بنفسه، فالتاريخ عندنا إسطوانةٌ مخدوشةٌ مائة مرة، وكل شيء عالقٌ على نفس الأغنية: العرس الديمقراطي يا عيني يا ليلي! الشعب يعطي الشرعية للأعضاء المنتخبين في علمية ديمقراطية من الطراز الرفيع أبهرت العالم واستحقت وصف: اليوم التاريخي! ويا عيني يا ليلي على الشرعية! نفس الأغنية السخيفة تكرَّرت مقاطعها الأولى، ومازالت مقاطعها التالية بانتظار دخول الراقصة لتهز أردافها على إيقاع دربوكة الشرعية، وفقدان الشرعية، والانقلاب على الشرعية، وشرعية الشارع، وهذا إيقاع بالفعل لا يُجيده إلا عازف دربكوة حاذق... نفس الشيء حدث مع المؤتمر الوطني، قلنا كلمة الشرعية إلى أن أصبحت انقلاباً أو ثورة دون أن يهتم أحد، وفقد المؤتمر كل شرعية، فهل سيختلف مجلس النواب؟ هذا سؤالٌ أترك إجابته للمتفائلين... وأنا، وأعوذ بالله من أن يستغل أحدٌ ما قولي لكلمة أنا، أقول بأن مجلس النواب لن يختلف عن المؤتمر الوطني، ومشكلتنا ليست في مؤسسات أو جهات أو منظمات، مشكلتنا في ضياع الضمانات القانونية، وفي غياب جهات تضمن تطبيق القانون. أولاً ليست لديَّ ثقة في اختيار الشعب الذي منح هؤلاء الشرعية بالتصويت لهم، وليس هذا فقط لأنني لا أثق في شعبي العظيم، ولكن الربيع من فم الباب يبان، بعض الأعضاء المنتخبين للمجلس كوارث تمشي على قدمين! فهل هذا شعبٌ واعٍ الذي انتخب مثل هؤلاء؟! ثانياً، لو انتخبنا مجلساً من الصحابة، أو حتى من الملائكة، وجعلنا صلاحيات هذا المجلس إصدار القرارات، فمن سينفذ هذه القرارات؟ سؤال المليون دولار.

بصراحة، لقد مللتُ من الكتابة عن هذه الأمور... قناة ليبيا الأحرار أصبحت قناةً وثائقية (حسب تعبير أحد الأشخاص!) من كثرة الاستقالات فيها، تسييس الجهات الإعلامية وانعدام الموضوعية لابد أن يقود إلى دفن حرية التعبير عن أكوام الاستقالات العقيمة والتقارير المتحيزة. المطارات الكبرى ما تزال مغلقة، والسفر أصبح مشقةً كُبرى، ومع ذلك تجد من يتحدى كل ذلك ويسافر، ويبهدل أهل أبو أمك في توصيله! العالم يغسل يديه من ليبيا، ومن واقع أن أيدي العالم مطلخة بالكثير من الدماء، فأغلب الظن بأن العلم يغصل رأس إصبع يده اليسرى الصغير من بقعة واحدة...

وكلام آخر، ومستجدات، وأخبار رياضية، وننتقل إلى اللامبالاة مع آخر أخبار الطقس...