منذ فترة نشرتُ
مقالة عن التطرف وتسخير الدين لتبرير أعمال العنف. كان ذلك حين قُتل السفير
الأمريكي، وكان المتهمون الأوائل هم بلا شك المتطرفون الإسلاميون، الذين لا
يستطيعون أبداً إنكار تورطهم في المسألة. سميتُ تلك المقالة: أجراس الإنذار.
واليوم، لا
تُقرع أجراس الإنذار من جديد، كلا، بل صداها يرتد إلينا. فقد تم الاعتداء على
سيارة القنصل الإيطالي في بنغازي، دون وقوع أي إصابات، سوى مقتل التفاؤل وجرح
الأمل في مستقبل مستقر... لا أعلم بالضبط من أين يأتي ذلك الصدى، لأنني شخصياً أشك
في أن تجازف أي جهة متطرفة في ارتكاب فعل أحمق وهجمي مثل هذا الفعل مرةً ثانية،
خاصة بعد الاستياء الشعبي الذي أبداه الليبيون بعد مقتل السفير الأمريكي. لم يكن
لديَّ تفسير لهذا الأمر سوى أن هذه مؤامرة ضد بنغازي، ضد قلب ليبيا النابض، ضد
المدينة ذات اللسان الطويل، المدينة التي لم تسكت لأحد، المدينة التي يبدأ فيها
الجميع ثم ينسونها في النهاية... لا يمكنني أن أفسر الأمر إلا بهذا الشكل: مؤامرة
ضد مدينة بنغازي، وقودها التحريض بسوء استغلال الدين، ونارها المتطرفين الجاهلين
الحمقى.
وإن كان الحادث مازال
قريباً، وأصابع الاتهام لم تُوجه بعد، إلا أن أصابع أفكارنا كلها تتجه نحو
المتطرفين. فمن سيكون له دافع في مهاجمة القنصل الإيطالي؟! دواعٍ سياسية؟! ليست لدينا
سياسة لهذه الدرجة من المؤامرات. دواعٍ اقتصادية؟! الاقتصاد كلها في جيب الحكومة،
والحكومة وإيطالية سمن على عسل. ثأر شخصي؟!!! ملل؟!!! تجربة سلاح جديد؟!!! احتفال بعرس
ولكن أطلقوا النار بشكل أفقي وليس عمودي؟!!! أم أن التفسير هو أن هذا قنصل دولة
كافرة، دولة تحارب المسلمين، دولة منحلة، دولة صليبية، دولة بعيدة عنا كل البعد،
لكن وجود قنصل منها هنا يهددنا وكأنه الطاعون! هذا التفسير الوحيد: المتطرفون،
الذين يبررون كل تصرفاتهم بكلمة واحدة: الكفار.
ولما كانت هذا
هو أول تفسير... رأيت أن أعيد نشر بعض الأجزاء من المقالة التي نشرتها بعد مقتل
السفير الأمريكي... بعض الأجزاء الدينية، التي تُخزي أي شخص يتستر بالدين لأعمال
العنف، ويدعي الجهاد ضد الكفار...
*
من يدَّعون نصرة الدين والشريعة كان الأجدر بهم فتح المصاحف وقراءة كلام الله عز وجل قبل الانصياع لكلام شيوخ الدنيا والمطامع السياسية... كان الأجدر بهم أن يتذكروا بأن الله تعالى نصر رسوله في الدنيا والآخرة وكفاه كل شرٍّ أو استهزاء:
((هو الذي أرسلَ
رسولهُ بالُهدى ودينِ الحقِ ليُظهرهُ على الدينِ كلهِ ولو كرهَ المُشركونَ))
[التوبة:33]
((إنًّ الذينَ
يؤذونَ اللهَ ورسولهُ لعنهُمُ اللهُ في الدنيا والآخرةِ وأعدَّ لهم عذاباً
مُهيناً)) [الأحزاب:57]
((إنَّا كفيناكَ
المُستهزئينَ * الذينَ يجعلونَ معَ اللهِ إلهاً آخرَ فسوفَ يَعلمونَ * ولقد نَعلمُ
أنكَ يضيقُ صدركَ بما يقولونَ * فسَبحْ بحمدِ ربكَ وكُن مِن الساجدينَ * واعبُد
ربكَ حتى يأتيكَ اليقينُ)) [الحجر:95-99]
((أليسَ اللهُ
بكافٍ عبدهُ ويُخوِّفُونكَ بالذينَ مِن دُونهِ ومَن يُضللِ اللهُ فما لهُ مِن هادٍ
* ومَن يَهدِ اللهُ فما لهُ مِن مُضلٍّ أليسَ اللهُ بعزيزٍ ذي انتقامٍ))
[الزمر:36-37]
((فإنْ آمنوا
بمثلِ ما آمنتُمْ بهِ فقدِ اهتدوا وإنْ تَوَلوا فإنما هُم في شِقاقٍ فسيَكفِيكَهُمُ
اللهُ وهوَ السميعُ العليمُ)) [البقرة:137]
((إنَّ الذينَ
كفروا يُنفقونَ أموالهُم ليَصُدوا عنْ سبيلِ اللهِ فسيُنفقونها ثم تَكونُ عليهم
حسرةً ثم يُغلبونَ والذينَ كفروا إلى جهنمَ يُحشرون)) [الأنفال:36]
كان على من
رفعوا السلاح وأعلنوا الدمار والخراب، أعلنوا الإرهاب لا الجهاد، كان عليهم أن
يتذكروا أن رسول الإسلام بُعث ((رحمةً للعالمين)) وبُعث على ((خُلقٍ عظيم)) ولذلك كانت
رسالة الدين دعوةً بالموعظة والحكمة والحسنى، ولم تكن يوماً رسالة الدين حربَ عنفٍ
ودمارٍ ودماء:
((ادعُ إلى
سبيلِ ربكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهُم بالتي هي أحسنُ)) [النحل:125]
((ولا تستوي
الحسنةُ ولا السيئةُ ادفعْ بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينكَ وبينهُ عدواةٌ كأنهُ
وليٌّ حَميمٌ)) [فصلت:34]
((وإنْ عَاقبتم
فعَاقبوا بمثلِ ما عُوقبتم بهِ ولئن صَبَرتُم لهو خيرٌ للصابرينَ * واصبرْ وما
صبركَ إلا باللهِ ولا تحزنْ عليهم ولا تكُ في ضيقٍ مما يَمكرونَ)) [النحل:
126-127]
فيا إلهي ما
أبعد هؤلاء عن الشريعة! ما أبعدهم عن الإسلام! ألا يعلمون أن القرآن موجود؟! أليس
لدى أحدٌ منهم مصحف؟! أين بلد المليون حافظ؟! هل ضاع القرآن من عندهم ولم يبقَ
لديهم سوى الأعلام سوداء والآمراء الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؟!!!
*
ويا إلهي كم
نحتاج لنصرة رسول الله ضد هؤلاء! فهؤلاء هم الذين يهاجمون سيرته العطرة ويشوهون
سنته الشريفة... فأين هم من سنة رسول الله؟!
أين الاعتداء
والحرق والنهب والسرقة من أخلاق رسولنا الكريم؟
(بُعثتُ لأتمم
صالح الأخلاق.) [الأدب المفرد للبخاري، مسند أحمد]
أين العنف
والفوضى والهمجية من اليُسر والتبشير؟
(يَسرا ولا
تُعسرا، بَشرا ولا تُنفرا...) [صحيح البخاري، صحيح مسلم]
أين قتل
المعاهدين من الشريعة السمحة؟
(من قتل معاهداً
لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً.) [صحيح البخاري]
أين نقض العهود
بالعنف وحل عقدتها بالدماء من السنة؟
(من كان بينه
وبين قوم عهد، فلا يحلن عهداً ولا يشدنه، حتى يمضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء.)
[جامع الترمذي، سنن أبي داود]
أين نقض العهود
بالاعتداء على الآمنين من سيرة الرسول الذي رفض نقض العهود في الحرب نفسها؟!
عن حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسيل،
فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده ما نريد إلا
المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم،
ونستعين الله عليهم.) [صحيح مسلم]
أين تلك الغوغاء
التي تدعي نصرة الدين من الدين؟! تالله إن أكبر اعتداء على سيرة الرسول الطاهرة هو
أن تُنسب مثل هذه الغوغائية والهمجية إليه!!! إننا نحتاج لنصرة الرسول ممن يَدَّعون
نصرته بالدمار والدماء!
*
ومع ذلك... مع
أن هؤلاء جهلوا فوق جهل الجاهلين باسم الدين، وأصابوا ديننا قبل أن ينتصروا له،
إلا أنهم بذلك دقوا أجراس الإنذار بشكل أقوى وأعلى من قبل...
*
* *
للأسف... لم
نسمع أجراس الإنذار حينها... أو ربما استيقظنا، ثم عدنا للنوم مرةً أخرى... واليوم
أصبحت تلك الأجراس تُدق بأيدي المتأمرين والجاهلين... فلم تعد أجراس إنذار، وإنما
أصبحت أجراس شماتة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق